الرئة الثالثة لمن يكتب الكاتب؟,, ومتى؟! عبدالرحمن بن محمد السدحان |
 يتردد السؤال التالي على شفاه بعض المتابعين لما يجود به قلم هذا الكاتب: (متى تكتب,, وسط كثافة عملك الحالي وآلياته وتداعياته، التي تستغرق منك الوقت كله او جله؟).
واعترف بدءا ان حالة من الفرح تعمر وجداني كلما صافح سمعي هذا السؤال، لسببين:
احدهما: ان السؤال مؤشر ثقة اعتز بها، وهي حافز لي للاستمرار باذن الله رغم كل ظرف زمان او مكان او عمل، ما دمت ملتزما بمسؤولية الكتابة موضوعا وادبا واخلاقا.
* *
أما السبب الثاني لحالة الفرح الذي يستصحبه السؤال فهو ما يضمره من احتفاء اهل السؤال بهذا القلم، واحتفالهم بما يرسم على الورق من زُبد الحديث أو زَبده,, أو المزيج من هذا وذاك، ولن أفشي سرا اذا قلت انه ليس اقسى على وجدان كاتب يجل شرف الكلمة وامانتها من الشعور يوما بغياب الثقة بينه وبين قرائه, هذا لا يعني حتما ان على هذا الكاتب او ذاك ان يرضي كل قارىء,, فتلك مهمة عسيرة وخطيرة في آن,, لكن الثقة التي يحلم بها الكاتب في تكييف علاقته مع قرائه تتأتي من تحري الحقيقة فيما يكتب,, والصدق فيما يرى، والولاء لهما، حتى ولو لم يرض هذا الفريق او ذاك من القراء, فعقلاء الناس لا يهمهم ان يتفقوا مع كل ما يطرحه الكاتب قدر ما يهمهم ان يكون هو نزيه النية، صادق المضمون، عقلاني الرؤية والنتيجة ثم ليتفق معه بعد ذلك او يختلف من شاء!
* *
آتي الآن الى الرد على السؤال: (متى تكتب) فأقول:
ليس بيني وبين الكتابة (عقد) ينظم علاقتي بها، او يقنن مواعيد زيارتها واقامتها او رحيلها!
* فهي تزورني متى شاءت، لا حين أشاء،
وهي ترحل عني متى شاءت,, لا حين أشاء!
* وهي تمنحني بحضورها قدرا وقدرة على التعبير بقدر ما تستشرفه أو تستقرئه في خاطري من فرح الدنيا وترحها!
* وهي (تقرأ) وساوس النفس الشفافة، فتمنحها مدى من التعبير يلائمها!
* وهي تترجم عبراتي وزفراتي متى حل بساحتي الحزن,, او ألم بي الغيظ انكارا لموقف او استنكاراً لحال!
* وهي تشاطرني ترانيم الفرح متى اشرق في سمائي فجر الخلاص من هم او الفرج من ضيق!!
* *
اذاً، فالكتابة الجادة، كما اتمناها، لا تخضع لضوابط الزمان او المكان,, بل تخترق فضاء الخاطر بلا موعد وتغادره بلا اذن! وحين تحل بساحة الخاطر,, تقرن حضورها بإلهام عجيب: حينا يكون سحبا تقطر عطرا,, وحينا يكون حمما تمطر جمرا!
* *
هكذا,, ارى الكتابة,, وهكذا اتمناها: تجربة ذاتية من (ألم) الابداع يغزو مجاهل النفس في لحظة لا تخضع لمقياس الزمان او المكان ثم يمضي يبحث في بؤرة النفس عن اصداف التعبير الجميل والمعنى الاجمل,, فيرسمه القلم على الورق خواطر من لؤلؤ (تسر) عقول الآخرين!!
* *
أما اذا تحولت الكتابة الى طقوس من الواجب المقنن بظروف الزمان او المكان، او صارت صراطا رخيصا من الشوك يعبره الكاتب النزيه بحثا عن اللقمة الحلال او شبه الحلال او ارتبطت بمقولة (أكل العيال) حينئذ,, يتعين على الكاتب ان (يمتنع) طوعا عن الكتابة قبل ان تهجره الكتابة زهدا فيه,, او قبل ان (يمنع) هو عنها كرها بغياب ثقة القارىء فيه، ورضاه عنه، وتقديره له!!
* *
أخيرا,, هناك من يتهم هذا القلم بشيء من الغلو في انتقاء الكلمات وصياغة الجمل,, فيما يكتب، وأرد على ذلك بالقول ان هذه اشرف (تهمة) تلصق بكاتب جاد يعشق لغته,, او تعشقه اللغة، فيبدع كل منهما ارضاء للآخر! لكنني اقرر هنا انني متيم بلغة الضاد، فلماذا لا (أبوح) بذلك على الورق!
* *
من جهة اخرى، أزعم ان استثمار موارد الابداع في لغتنا الجميلة حق وواجب في آن لمن يحسن هذه اللغة: فهما وأداة وتعبيراً,, فنص جميل الصياغة، رصين الفكر، خير من نص رديء الصياغة والفكر معاً!!
الرياض 21/11/1419ه
|
|
|