Monday 22nd March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأثنين 5 ذو الحجة


الحطيئة الشاعر المظلوم
سليمان بن حمزة محمد الربعي

لقد كنت وما زلت من أشد الناس اعجابا بشعر الحطيئة فكانت لي معه وقفات تأملية ممزوجة بالاعجاب والشفقة على هذا الشاعرالذي عاش حياة ملؤها البؤس والشقاء والفقرثم مات وهو يصارع الفقر والعوز والحاجة وقلة ذات اليد ثم توالت عليه احكام النقاد التعسفية في حياته وبعد مماته فأكملت له الشقاء ودونت ذلك في تاريخه، بينما رفعت اقلام النقاد واحكامهم من شأن شعراء لا يبلغون منزلة الحطيئة ومكانته الشعرية فقد اصطلح النقاد القدامى من ايام محمد بن سلّام الجمحي وابن قتيبة حتى العصر الحديث على حجب لقب الفحولة عن هذا الشاعر وعدّوه كغيره من الشعراء الذين لا يبلغون منزلة اولئك الفحول في الشعر لا لسبب مقنع فهم يعرفون روعة شعر الحطيئة ولكنهم يذكرون لذلك اسبابا منها:
سلاطة لسانه وسوء سيرته مع الناس فجعلهم هذا وذاك يقللون من ابداعه واهميته كشاعر مخضرم وهذا لعمري ظلم واجحاف في حق الشاعر وشعره وحكم بعيد عن الانصاف وموضوعية النقد.
هذا عن شعره ولكنهم لم يكتفوا بذلك - وهو كاف - بل قالوا عن حياته الشيء الكثير الذي لا يداخلني في انه محض تخمين حينا وافتراء وانتحال حينا اخر.
بينما نرى غيره وقد انصبَّ التركيز على شعره والاشادة به دون التطرق لحياته ووضعه الاجتماعي وبيئة عصره.
وعندما يكون الحديث عن الحطيئة نراهم مباشرة يربطون شعره بشخصيته وفقره وسوء هجائه دون النظر الى جميل شعره بانصاف وعدل.
يقول الدكتور: طه حسين في كتابه حديث الاربعاء وقد كان الحطيئة في رأيي بائسا كأشد ما يكون البؤس محزونا كألذع ما يكون الحزن مكتئبا كأقوى ما يكون الاكتئاب ولو قد استقامت الامور له كما كانت تحب خليقته ان تستقيم لكان خليقا ان يكون له شأن آخر أ,ه صحيح ان حياته البائسة كان لها ابلغ الاثر في شعره ولكن شعره جدير بالاعجاب مليء بالروعة وكما قلل النقاد والرواة من اهمية الحطيئة وحطوا من شأن شعره كذلك لفقوا له بعض الاخبار عن حياته وقصة اسلامه فنراهم تارة يتهمونه بالكفر وانه بقي على جاهليته ايام النبي - صلى الله عليه وسلم - وتارة يتهمونه بالردة بعد وفاة النبي وينسبون له في هذا شعرا حيث يقولون انه قال
أطعنا رسول الله اذ كان بيننا
فيالهفتي ما بال دين ابي بكر
أيورثها بكراً اذا مات بعده
فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
ولاشك عندي في نحل هذه الابيات للحطيئة ولاريب في ذلك فقد اضاف له الرواة ما لم يقل كتلك القصائد التي مدح فيها الربعيين وذم فيها بعض بطون عبس.
والصحيح ان الحطيئة اسلم ايام النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أي حال فقد كان اسلامه ضعيفا شأنه في ذلك شأن اغلب العرب في ذلك الحين فقد كانوا حديثي عهد بجاهلية ولم يستطيعوا التأقلم مع حياة الاسلام الجديدة بسرعة نظرا للتغيير الهائل السريع الذي احدثه الاسلام في حياة الناس، ولكن الحطيئة على أي حال كان ممن دخلوا في دين الله افواجا.
ومما نستدل به على الظلم الذي لحق هذا الشاعر ان الحطيئة كان تلميذا لزهير بن ابي سلمى وراوية لشعره وصاحبا لابنه كعب وقد كانا يكثران من التردد على زهير ويسمعان منه ويتعلمان فكانا امتدادا لمدرسة أوس بن حجر الشعرية حيث كان أوس استاذا لزهير وزهير استاذا للحطيئة وابنه كعب ثم رأينا النقاد بعد ذلك يشيدون بكعب ويغضون من شأن الحطيئة وكلاهما متخرجان من مدرسة واحدة وقد نرى في الحطيئة افضلية على كعب في بعض شعره ولكن ذلك لم يعجب النقاد فأشادوا بكعب لا لشيء الا لانه ابن زهير الشاعر الذائع الصيت من ناحية ومن ناحية اخرى قصته المشهورة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - واعتذاره بقصيدته الرائعة بانت سعاد وانا لا اريد من خلال هذه المقالة الدفاع عن الحطيئة لشخصه ولكنني اريد الدفاع عن شعر رأيته من اجمل الشعر واعذب فأما ما يقول النقاد والرواة عن سوء هجائه وسلاطة لسانه فهذا في نظري اعزوه لشدة فقره حيث ناله من الحاجة مالم ينل غيره فاخذ شعره وسيلة لرزقه فكان يطلب النوال من ممدوحيه فمن لم يعطه هجاه ومن حرمه من الناس سلط لسانه عليه فكان لشدة فقره اكبر الاثر في مزاجه ونفسيته، فقد كان يمني نفسه بالثراء وارتفاع الشأن وخفض العيش فأراد ان يتكسب بشعره - كما فعل استاذه زهير فنال من عطاء هرم بن سنان والحارث بن عوف المريين ما نال - ولكن الظروف قد اصطلحت على معاداة الحطيئة فقد مدح زيد الخيل وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة وكان هذا الاخير من عظماء العرب واشرافهم وكانت مضاربه نحو الشام فقد دافع عنه الحطيئة واشاد به حين كان الخصومة بينه وبين عامر بن الطفيل فنال منه بعض الثراء.
ثم لما احتاج له مرة اخرى ذهب ليستجديه فبلغه خبر موته فعاد حزينا محروما وقال قصيدة رائعة منها
وما كان بيني لو لقيتك سالما
وبين الغنى الا ليال قلائل
ولو نظرنا للشعر فقط بعيدا عن الشاعر لتغيرت نظرتنا بقدر كبير حتى ولو كان الهجاء مقذعا ثم ان هجاء الحطيئة كان هجاء يتناول فيه مكانة الناس الاجتماعية وتخليهم عن بعض العادات كالكرم ونرى في هجاء بعض الفحول شعرا تنفر منه النفس وهجاء مقذعا نستحي حتى من التحدث فيه.
ولكن النقاد نظروا لهم نظرة تختلف عن الحطيئة فعدوهم فحولا وعدوه خاملا غير ذي خطر واما ما ذكره الرواة من هجاء الحطيئة لنفسه وأمه وابيه وما رووا له من شعر في ذلك فلاشك عندي في انه شعر منحول مكذوب به على الحطيئة نسجه الرواة من عند انفسهم.
ثم ان هناك شيئا آخر اثّر بقدر غير قليل في مزاج الحطيئة وسلوكه غير الفقر وهو انه كان قصيرا جدا قريبا من الارض ولذلك سمي الحطيئة وكان دميم الخلقة لا تطمئن اليه النفس مما حدا بالناس للسخرية منه وازدرائه فجعل يدافع عن نفسه بسلاحه الوحيد وهو الهجاء المقذع وقد كان سلاحه هذا سيفا ماضيا يتقيه الناس جميعا ويخشونه فقد يحط هجاء الحطيئة من شأن اقوام كما رفع مدحه من شأن اقوام هم بنو أنف الناقة عندما مدحهم بقوله
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسويّ بأنف الناقة الذنبا
فأخذ هؤلاء يفتخرون بلقبهم بعد ان كانوا يتوارون منه خجلا
ولهذا بالغ في اكرامه اقوام لئلا يهجوهم , ولم يكن الحطيئة يحب الهجاء ولا يرغب فيه بل دعاه لذلك فقره وسيرة الناس معه وازدرائهم إياه.
وما قصته مع الزبرقان بن بدر إلا دليل على ما نقول فقد هجاه وهو لا يريد ذلك, ولكن الزبرقان لم ينشد السلامة فأثار حفيظة الحطيئة فهجاه بقصيدته المشهورة والتي ابتدأها بمدح من اكرموه آل شماس وهم ابناء عمومة للزبرقان ورهطه فقد طرق الحطيئة باب الزبرقان كما يطرقه بقية الضيفان ولكن الزبرقان وامرأته لم يكرماه كما ينبغي اوقل لم يبالغا في اكرامه وقد كانت زوجة الزبرقان تغار من مليكة ابنة الحطيئة فانصرفت عن اكرامه ثم انصرف زوجها الزبرقان مما جعل الحطيئة يتحول عنهما الى بني شماس ابناء عمومة الزبرقان وكانت بينهم وبين الزبرقان ورهطه خصومة فأكرموا الحطيئة وبالغوا في ذلك وطلبوا منه هجاء الزبرقان فلم يفعل وابى عليهم ذلك ولكن الزبرقان طلب من شاعر آخر ان يهجو له بني شماس فلما سمع الحطيئة ذلك قام بهجاء الزبرقان ورهطه وهو كاره لذلك كما اسلفت لكنه لم يكن ليسكت على هجاء من اكرموه وكأنه رأى في ذلك تحرشا من الزبرقان فقال قصيدته السينية التي بدأها بمدح بني شماس ثم هجاء الزبرقان ورهطه ومنها
لما بدا لي منكم غيب انفسكم
ولم يكن لجراحي فيكم آسِ
ازمعت يأساً مريحا من نوالكم
ولن ترى طاردا للحر كالياسِ
جار لقوم اطالوا هون منزله
وغادروه مقيما بين أرماسِ
ملو اقراه وهرته كلابهم
وجرحوه بأنياب واضراسِ
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فانك انت الطاعم الكاسي
سيري امام فان الاكثرين حصى
والاكرمين ابا من آل شماس
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
ولقد كانت هذه القصيدة سببا في سجن الحطيئة حيث استعدى الزبرقان عمر بن الخطاب على الحطيئة فذكر له ما قال فيه من تلك الابيات فاظهر عمر للزبرقان انه لا يرى في هذا هجاء ولقد كان عمر بصيرا بالشعر ولكنه اراد ان يدرأ الحد بالشبهة ثم استدعى حسان بن ثابت فقال مقولة مفادها ان الحطيئة لم يهج الزبرقان فحسب بل اقذع في هجائه ايضا, فأودع عمر الحطيئة السجن فلبث في السجن مالبث ولكنه استعطف عمر بقصيدة ما اظن ان نجد في ادبنا اجمل منها في هذا الغرض حيث قال
ماذا تقول لافراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لاماء ولاشجر
القيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله ياعمر
أنت الامام الذي من بعد صاحبه
ألقى اليه مقاليد النهى البشر
ومما يروى ان عمر رقَّ لحال الحطيئة بعد سماع هذه الابيات حتى بكى فأمر باخراجه من سجنه واعطاه ما يسد حاجته.
اما ماذكره الرواة من ان عمر اشترى منه اعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم فهذا من مبالغة الرواة وتزودهم على الحطيئة بلاشك والمتأمل لهذه الابيات يرى كيف استطاع الحطيئة مخاطبة قلب ذلك الخليفة العظيم والوصول اليه بأقصر الطرق والتأثير فيه لدرجة البكاء ثم الفكاك من السجن بعد ذلك.
ولقد ضربت في هذا المقال صفحا عن شعر الحطيئة فركزت على موهبته وحياته وظلم النقاد له.
وحين تحول مشاغلي وعدم فراغي عن قراءة وعرض لديوان الحطيئة وما فيه من روعة الشعر وجماله فان يوما ما سيأتي يمنحني فيه الله الجهد والفراغ فاحقق ما أريد.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
الطبية
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved