Friday 2nd April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الجمعة 16 ذو الحجة


شخصيات قلقة
فرانسوا فيون ,,الشاعر الذي أصبح لصاً

كانت مدينة باريس في حالة خراب شامل، أكثر من خمسة وأربعين ألفا لقوا حتفهم من أثر المجاعة والطاعون، والذئاب التي أنهكها الطوى تجتاح أطراف المدينة,, وفي هذا العام المشئوم استشهدت جان دارك، وأيضا ولد طفل قُسم له ان يصبح واحداً من أعظم الشعراء بما وهبه الله من نغمة غنائية لا تبارى في حدتها وقوتها وجمالها,, إنه فرانسوا فيون، الذي فتح عينيه على تلك الظروف القاسية ثم صدم بوفاة أبيه، ليجد نفسه يتيما تعوله امه البائسة التي ينهكها العمل الشاق ثم لا تجد قوت يومها، بل اوشك صغيرها ان يموت من الجوع امام عينيها، ومن ثم ذهبت الى قسيس جامعة باريس الذي يمت إليهم بصلة قربى، والذي يعيش حياة ميسورة بعض الشيء، وبالفعل منح هذا الرجل عطفه واسمه وماله لهذا الولد الصغير، وسعى من أجل توفير حياة كريمة له فكان يقرأ له في الأمسيات الموحشة كثيرا من القصص، كما عقد أواصر المعرفة بينه وبين الشعراء اللاتين، ودفعه دفعا من اجل إكمال تعليمه الجامعي حتى حصل على لقب استاذ في الأدب، ولبس طرطور الكهنوت، وحلق شعر رأسه، وهي أمور تتيح له راتبا ضئيلا وامتيازات قلما يحصل عليها الآخرون.
لكن مع الاسف كان فيون ينزلق - بعد كل هذا - انزلاقا شديدا في طريق آخر من طرق الحياة، كانت اليق به وأكثر موافقة لطبعه, وربما لم يحصل على تلك الدرجة الجامعية إلا إرضاء لمربيه لأنه بمجرد ان وفى بوعده، نفض عنه عناكب الجامعة ولم يعرها التفاتا إلى الابد، وتحول ببساطة إلى لص وقاتل وخارج على القانون وطريد عدالة، ولا أحد يعرف البواعث التي تلطف من بشاعة ما اختاره لنفسه كأسلوب حياة, لقد فضل ان يعيش متمرداً على المناصب، متمردا على نفسه،وعن هذا يقول انه قد حاول فهم الحياة، وإذا هو يكتشف انه يعجز عن فهمها وانه اعجز من ان يفهم نفسه ذاتها.
وربما جاز لنا ان نقول إنه لو لم يسلك هذا السبيل البشع لما حصلنا على شعره الذي لا يجاريه شعر آخر، لقد كان بالامكان ان يكتب لنا شعراً ولكن ليس كهذه الاشعار الصارمة المتوقدة الشخصية، الكاملة، التي كان يعتصرها اعتصارا من عبقريته ومن بؤسه,, فالحقيقة الوحيدة هي ان فيون لم يفد إلا قليلا جدا من دراساته للأدب، ولم يقرأ إلا شعرا قليلا وذلك لقلة معرفته باللاتينية، ولهذا جاء شعره انعكاسا مباشرا لحياته العارمة المتشظية.
ان مأساة فيون تتلخص في افتقاره إلى حافز يحفزه الى انتهاج حياة محتشمة، يزينها الفكر، ويصونها الحذر, لقد كان شابا ألمعيا مرهف الحس، استطاع ان يكشف النفاق والزيف المستترين وراء المناصب والتقاليد البالية، وكثيرا ما قارن بين الثراء النسبي للسلطات الاكليروسية، وبين حياة عامة الناس بما فيها من بؤس والشقاء، ليصل في نهاية المطاف إلى قناعة غريبة، تجعل من السطو والسرقة مهنة شريفة، وتساوي بين ان تكون استاذاً بالجامعة او منشداً بفرقة جوالة من الممثلين والمشعوذين, لقد ضحى فيون بحياة مضمونة - وإن تكن زائفة وممقوتة - في سبيل حياة غير مضمونة ولا مأمونة، هي حياة فنان شاعر، وأيضا أفاق متمرد، أو بمعنى ادق متشرد .
ففي مساء الخامس من يونيو سنة 1455، كان فيون في الرابعة والعشرين من عمره، وكنا نراه جالسا على مقعد صخري، في ليلة شديدة الحرارة، وبجواره امرأة سيئة السمعة تدعى ايسابو,, وفجأة يأتي رجل يقال له شرموين، وهو ثمل وفي حالة عصبية، فما كاد يلمح فيون حتى ابتدره قائلا: تاالله لقد وجدتك، ويحاول فيون تهدئته، وتسرع المرأة بالفرار، ويندفع شرموين هذا في ثورته فيستل خنجراً، ويضرب وجه فيون، فيقطع شفته الى نصفين، ويزداد الشجار سوءاً حين يتمكن فيون من طعن الرجل بخنجر في فخذه ثم شجّ رأسه بحجر ليلقي الرجل حتفه، ويحكم على فيون بالنفي خارج فرنسا لمدة عام,, ليبدأ فيون صفحة طويلة من النفي والطرد والعربدة والسرقة.
كما انضم إلى بعض العصابات المنظمة، وسرق مع اثنين آخرين خزينة كنيسة كلية نافار، وكان بها حوالي خمسمائة كرون ذهباً، وهو مبلغ ضخم بعملة تلك الايام, اخذ فيون نصيبه وعاش به بعيدا عن باريس خمس سنوات، وقد اسف على تلك الفترة اسفا كبيرا.
ومن هذه الحياة المتقلبة والبائسة كان فيون ينتج شعره مباشرة، فحين انبه ضميره لسرقة خزينة الكنيسة كتب منظومة العهد الصغير التي تشهد على نفسه, لقد كان يعاني من الذكاء المتوقد الخبيث، الذي ينساب أحيانا بالفكاهة الحلوة، والقدرة على تصوير كل مخلوق من مخلوقات الطبقات الدنيا تصويرا بارعا ومازحا، ولا يكتب إلا في فورة من المشاعر والانفعالات لدرجة انه لا ينتبه إلا ان الشمعة تذوب قطرة قطرة، وان جسده ينتفض من البرد، وبمجرد ان ينتهي يعيد قراءة القصيدة فيشعر بالبهجة ثم ينام ملء جفنيه وسط جيوش من الفئران, ويصف نفسه بأنه قذر قذارة فرشاة مسح البلاط، وانه خالي الوفاض من اي درهم وجائع,, ثم يقول: على انني اقسم بالله ان فرنسوا فيون لشاعر، وان هؤلاء الآخرين ممن تعمر ايديهم بالمال ومظاهرهم بالاناقة سوف يصبحون نسيا منسيا بعد حين، بينما يخلد فرنسوا فيون ابد الدهر.
لقد اصبا فيون كبد الحقيقة حين قال هذا، فشاعريته الفذة هي التي جعلت البوليس يتستر عليه احيانا ويتركه مقيما في باريس رغم المرسوم الملكي بالنفي وهذه الشاعرية ايضا هي التي جعلته ينزل ضيفا على بلاط دوق اورليان، وهي التي انقذته ذات يوم من حبل المشنقة, إلا ان الطريق الوعرة التي يسلكها لابد ان تنتهي به نهاية مأساوية غامضة، ان آجلا أو عاجلا!,, ولعل هذه النهاية تبدأ حين قبض عليه اسقف اورليان وزج به في السجن نظرا لتواجده على ارض فرنسية رغم قرار النفي، وكان هذا الأسقف ويدعى تايبولت شديد القسوة على لصوص الكنائس، فعذبه عذابا شديداً يبدأ بصب الماء البارد عليه وينتهي بالقائه في جب قذر اسفل القلعة، حيث قضى هناك صيفا بأكمله لم يذق فيه من الطعام إلا الخبز الجاف والماء, لقد حطم هذا السجن صحته وجعله كومة من الجلد والعظم وأزال شعره واسقط اسنانه، وأورثه سعالا مضنيا، وكان عجيبا ان يظل على قيد الحياة بعد الذي لقيه، لكن ليس من العجيب ان تكون كراهيته لتايبولت اضعاف كراهيته لأي مخلوق في هذه الدنيا، لذلك نظم رائعته العهد الكبير وصب فيها على رأس تايبولت اكداسا من اللعنة, ولم يفرج عنه إلا عفو عام لمرور الملك بالمدينة ليعود إلى باريس وهو اشبه بالناطور، يجلس وفي قلبه حسرة ومرارة، وفي ضميره وخز وتأنيب، وفي اهابه روح طفل لم يعد يثق إلا في شيء واحد فحسب هو الشعر.
لقد اصبح عجوزا طاعنا وان لم يتعد الثلاثين، ولم يعد في الدنيا ما يخيفه بعدما رأى الموت قاب قوسين او ادنى، ولم تبق به حاجة إلى التصنع ومنافقة الناس، فجميع رفاقه القدامى قد انزلقوا إلى الهاوية، فهذا تورجسن قد غُلى في الزيت، ومونتجي تأرجح في حبل المشنقة، وكولن يتعفن في غيابة السجن، وبرنيه دي لابار هذا المقامر الذي كان يستعمل زهرا مغشوشا، وجاك هذا الذئب,, عن كل هؤلاء وأحوالهم ابدع فيون العهد الكبير ليفتح صفحة جديدة للشعر الفرنسي، تتميز بعدم الكلفة،وحلاوة النغم، والعبارات الكاملة دون زيادة او نقص، واللغة الطبيعية التي تشبه الكلام العادي, اننا نواجه في شعره روحا عارية مجردة من كل رداء، ومع هذا فهي روح لطيفة، رقيقة، مرهفة المشاعر، صريحة وأمينة, ومن هنا يمكن القول بأن فيون ورابليه ومنتيني هم الذين صاغوا العقل الفرنسي، وانه ليس ثمة في الادب الفرنسي الذي جاء من بعدهم ما هو غريب عن هؤلاء الثلاثة، ففرلين على سبيل المثال يكاد ان يكون نسخة مجسمة من فيون، الذي عاش قلقا روحيا بين نقيضين هما: الوصول إلى جوهر الحقائق، ثم الهروب والانفلات بعيدا عن براثن تلك الحقائق المرعبة.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
لقاء
عزيزتي
المزهرية
الرياضية
تحقيق
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved