Saturday 3rd April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,السبت 17 ذو الحجة


التآليف في الفقه لم تَنتَهِ!!
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

قال أبوعبدالرحمن: لا أريد بهذا النفي ما يتعلق بالوقائع المستجدة كبنك الدم، وزرع الأعضاء,, الخ؛ بل أريد المسائل التي قُتلت بحثا في كتب الفروع,, والسر في ذلك أن المبتغى من العالِم تحصيل العلم -نقليه، ونظريه-، وتحقيقه تصحيحا أو تمريضا، وتفسير غامضه، وحل مطلقه ومجمله، واحصاء ما يندرج او يستثنى في العموم والإطلاق، وتذليله للأفهام الكلية، والتواصل مع الأذكياء في مضايق الأفكار، ومحارات العقول، وتلجلج العبارات؛ فتحرر محل النزاع، وتسلط الأضواء على مالايرد، وتستدرك ما يرد، وتستلمح بعض ما ينطلي من شغب كالقياس مع الفارق، والتفريق بين المتساويين بلا فارق مؤثر، والمصادرة على المطلوب، ومطالبة الفقيه والمفكر بصحة أصله واطراده عند بدو تناقض محقق,, إلى مالا يحصى من نفائس النقل وحقائق العقل التي تُحلَّى بها الأسفار.
قال أبوعبدالرحمن: وعندما أقول:إن التآليف في الفقه لم تنته : فإنني استثني التراكم الفقهي من كتب الفروع الذي لا يزيد على أمهات المذهب فائدة مما أسلفته عن نفائس النقل وحقائق العقل؛ بل يبدأ هذا التراكم بمختصر في المذهب ويقوم مقامه أكثر من مختصر، ثم بشرح يقوم مقامه أكثر من كتاب متوسط، ثم بحاشية يقوم مقامها أكثر المطولات,, بل مرت فترة في الطباعة نُضدت فيها -في غلاف واحد في صفحة واحدة- مختصرات، وشروح، وحواشٍ، وتهميشات، ثم يكون في التقاط المعارف عسر.
خذ مثال ذلك شروح الهداية طبعت في غلاف بعنوان شرح فتح القدير ؛ فكان الأصل كتاب الهداية بأعلى المتن، ثم فتح القدير بأسفل المتن، ثم كتاب العناية بأعلى الهامش، ثم كتاب حاشية جلبي على العناية بأسفل الهامش,, وإن بعض الباحثين يحيل الى فتح القدير بينما نقله عن أحد الكتب الثلاثة المذكورة آنفا، والباحث المعاصر يعيش بحبحة من الورق والمداد؛ فيحرص على علامات الترقيم التي هي وسيلة إفهام؛ فإذا وجد في كتب الحواشي ذات الإدماج مثل قول ابن الهمام في فتح القدير:وثمرة الخلاف أيضا في لزوم الكفارة بالأكل فيه عند زفر تجب مطلقا وعند أبي حنيفة لا تجب مطلقا : فإنه يتلجلج في فهم العبارة بادىء ذي بدء: لا يدري هل يقف عند زفر، أو عند الأكل فيه؟!.
فيأتي المعاصر المتفرغ لمسألة من موسوعة؛ فيحذق علامات الترقيم بوضع نقطة بعد فيه ، ويبدأ أول السطر بعند على هذا النحو: ,,, بالأكل فيه.
عند زفر,, إلخ .
فلا يحصل للقارىء تلجلج,, على أن الرجوع الى أمهات المذاهب الأولى مغنية عن مثل هذه المعاياة.
قال أبوعبدالرحمن: إن كتب الحواشي والهوامش - وقد قلت ذلك مرارا- لا تخلو من نفائس علمية ولكن خارج نطاق المادة الفقهية ولاسيما عند علماء القرن السابع الى مطلع الثالث عشر الذين يحتفون بدقائق لغوية وبلاغية ومنطقية، ونوادر نقل.
وبإيجاز فالرجوع الى هذا التراكم وفحصه بتدقيق ترف علمي عائق للباحث الجاد النشيط ان كان مراده الفقه فقط,, وقل مثل ذلك عن الحواشي والهوامش في التفسير والمنطق,, إلخ: وإنما الرجوع لأمهات المذهب وأصوله من قبل أئمته المهيئين علميا وفكرا لنصر مذهب إمامهم,, وهذه الأصول الأولى لأئمة مجتهدين في مذهبهم، مستوعبين لمتفرقاته ووجوهه وما يتخرج على مذهبهم من وقائع؛ ولهذا أُمليت بعض الموسوعات إملاء,, خذ مثال ذلك الإمام أبابكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي شمس الأئمة؛ فقد أملى كتابه المبسوط في السجن بأوكند من نواحي فرغانة وراء النهر,, أملاه من خاطره من غير مطالعة في كتاب وأصحابه في أعلى الجب ,, أنهى إملاءه سنة 477ه,, وقد عده ابن كمال باشا من المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب.
والمبسوط شرح لكتاب الكافي للحاكم الشهيد، والكافي من كتب مسائل الأصول عند الأحناف,, ويراد بها كتب المسائل المروية عن أصحاب المذهب برواية الثقات، فهي ثابتة، أو متواترة، أو مشهورة.
واصحاب المذهب هم أبوحنيفة، وأبويوسف، ومحمد بن الحسن، ويلحق بهما زفر، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وغيرهما ممن أخذ العلم عن الإمام أبي حنيفة.
قال الطرسوسي: مبسوط السرخي لا يُعمل بما يخالفه، ولا يُركن إلا إليه (1) .
قال أبوعبدالرحمن: لا عجب إن أملاه من خاطره؛ لأن عصره عصر الحفاظ - وإن كانت كلمة الحافظ مقصورة اصطلاحا على حفاظ الحديث-، وهو حافظ لفقه أئمته من الحنفية على الأبواب,, ولو كان غير حافظ أغناه الأصل الذي بين يديه الذي شرحه، وهو الكافي ,, إذن لم يبق إلا الخاطر الفكري في اطار نصر المذهب، والدفع عنه بمقتضى أصوله,, وكتاب هذا شأنه، وتمذهب هذه وجهته سيكون فيه اختلاف علماء الأمصار وأدلتهم واعتراضاتهم غائبا إلا ما كان من اليسير العالق في الذاكرة، أو الموجود في المختصر الحاضر المشروح.
والتآليف في الفقه التي لم تنته بعد إنما تحفل بأصول الكتب في المذاهب لا لتأسيس المذهب والحجة؛ فلذلك شأن آخر يأتي بيانه,, وإنما يرجع اليها لبراءة الذمة من غفلة عن حجة أو اعتراض,, وقبل بيان الغاية والبرنامج للتآليف في الفقه الذي لم ينته بعد أقدم بهذه الكلمة عن التأليفات لابن خليل الظاهري في كتابه القدح المعلى ,, قال رحمه الله: وقد ألف علماء الإسلام في ذلك تواليف كثيرة لا تُحصى,, لكنها راجعة الى خمسة أنواع:
الأول: من ألف في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، واشترط الصحة.
والثاني: من ألف فيه ولم يشترط صحة من ضعف، ووكل ذلك الى اجتهاد الناظر فيه.
والثالث: من ألف في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقه الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار.
والرابع: من ألف كذلك، وزاد التعرض للترجيح في الأقوال والاحتجاج حسب ما ظهر له انه ألحق من غير تعرض منه لانتصار لمذهب إمام معين.
والخامس: من ألف كذلك إلا أنه جعل الاحتجاج والترجيح بحسب الانتصار لمذهب إمام معين من الأئمة الأربعة الذين وقف أهل العصر عند استكمال مذاهبهم.
فأجل الأقسام الخمسة وأفضلها الأول بلاشك؛ إذ هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم خالصا لم يشبه غيره.
والقسم الرابع أنفعها؛ لأنه يجمع علوما جمة، وتصرفا في أفانين كثيرة.
قال أبوعبدالرحمن: وبعد هذه الجولة فإن برنامج وغاية التآليف في الفقه الذي لم ينته بعد يتلخص في الآتي:
1- إن التأليف المعتبر لا يترشح له إلا من أحكم نظرية المعرفة البشرية، وعلم الدلالة اللغوية؛ لأن مطلب الفقيه معرفة مراد الله الشرعي، ولا يتم هذا إلا بحذق علم الدلالة اللغوية العربية التي جاء الخطاب الشرعي بمقتضاها، وبحذق حجج العقول ومصادر معرفتها تصورات وأحكاما؛ لأن العقل شرط التكليف، والخطاب للعقلاء؛ فلابد من علم محقق بمسالك الإدراك الصحيح، ومزالق الخطأ، ودرجة المعرفة بين الاحتمال والقطع والرجحان، والوجوب، والامتناع، والامكان، وصفة المعرفة من وجود وكيفية وصفة وآثار وجزئية وكلية,, إلخ,, وهذا التأهل ذاته يمنع من التلقائية والتقليد لمن لا تجب طاعته.
2- حذق المعرفة الشرعية، وهي الضروري العملي من علم الأصول الذي يخصص المعرفة البشرية دلالة لغة، وحجج عقول بمقتضى المراد الشرعي,, وقد يصل في هذا الحذق الأخير الى موافقة أصول فقيه متبع، وقد يصل الى موافقة هذا الامام في أصل ومخالفته في أصل، وقد يضيف في مخالفته أو موافقته قيودا واحترازات واستدراكات,, وتظل هذه المعرفة أمانة في عقله ووجدانه؛ فيكون على يقين أو رجحان بصحتها، ويكون أمينا في التزامها في تفريعاته؛ فلا يتناقض عن عمد؛ فإن استجد له تصحيح أو تخطئة أو استدراك في أصوله: أعلن ذلك للملأ، وأظهر حجته، وأصلح مذاهبه في مسائل فرعية حررها، وكانت مبنية على تراجعه الأصولي تصحيحا أو تخطئة أو استدراكا.
ومن حذق هذا الجانب لا ينطلق من كتب الفروع المذهبية، وإنما ينطلق من كتب التفسير، وكتب الحديث وشروحه,, وفي طليعتها كتب الأحكام شرحا وتخريجا ككتب عبدالحق، ونيل الأوطار، وكتب نقل اختلاف علماء الأمصار وحججهم، وكتب الفقه المقارن,, ويكفيه ابتداء -حتى لا يتشتت- مصنف عبدالرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وكتب ابن المنذر، والمحلى لابن حزم، والتمهيد والاستذكار لابن عبدالبر، وأمهات من كتب تحرير المذهب ونصره والاختلاف عليه ككتب البيهقي في نصر مذهب الشافعي، وكتب الطحاوي في نصر مذهب ابي حنيفة، ومطول أو مطولان في المذهب كالمجموع للنووي، والروض النضير، والسيل الجرار، والمغني.
3- الغرض من كتب الفروع استبراء الذمة لعل عند المخالف حجة معتبرة، أو اعتراض مؤثر؛ فيراعيه في الجدل، أو يذعن له في النتيجة ان كانت حجته قاهرة.
4- لو وافق اجتهاده الأصولي نظرية المعرفة الشرعية مذهبا متبوعا كالشافعي أو الظاهرية فلا يرجع لكتبهم ابتداء؛ ليؤسس فقهه، بل يرجع للأصول التي أسلفتها، وهي المعنية بالخطاب الشرعي دلالة وثبوتا.
5- موافقته لمذهب ما في الأصول لا يعني اكتفاءه بكتب فقه المذهب؛ لأن الفقيه في مسائله الفرعية الفقهية قد يخطىء التطبيق.
6- موافقته لمذهب ما في الأصل والمسائل الفرعية لا يعني اكتفاءه بفقه إمامه في المسألة؛ لأن الحكم قد يكون صحيحا، ويكون الدليل ضعيفا أو باطلا؛ لأن أدلة بعض المستدلين لا تنطبق على دعواه، ولأنه لا يلزم من فساد دليل ما فساد الدعوة الصحيحة القائمة ببرهان آخر.
7- التأليف في الفقه لا ينتهي أبدا الى أن تقوم الساعة ما توفرت أهلية الفقيه في نظريتي المعرفة الشرعية، والمعرفة البشرية وفق محورين:
أ- إما استئناف التأليف لطرح الفضول من التراكم الفقهي، والتوسع فيما يلزم من قيد واحتراز، وايضاح المسألة، وتقوية براهينها وإيضاحها، وترتيبها الأقوى فالأقوى، والتصدي للاعتراضات الموردة أو المحتمل إيرادها.
ب- وما تنقيح عمل فقهي سابق أقرب الى اجتهاد الفقيه المعاصر,, أعني اجتهاده الأصولي في نظرية المعرفة؛ فيطرح فضوله، ويأخذ مقبوله بتنقيح وترتيب وتقوية واستدراك.
8- إذا أراد التأليف على جميع الأبواب والمسائل فيكتفي نقليا بما أسلفته من مصادر، ويتبحبح فكريا ومنهجيا.
وله في طبعات قادمة - إذا وجد فراغا ونشاطا- أن يتوسع في النقل,, نقل ما استجد ولم يتكرر.
9- العقيدة والخُلق في موقفنا من أئمة الفقه من عدول الأمة في اختلافهم: أن نتقرب الى الله بمحبتهم، ونحقر أنفسنا أمامهم، ونشكر لهم ريادتهم وإمامتهم، واحضارهم العلم وتحقيقه، ونترحم عليهم، ولا يجوز ان نسلِّم الإصابة لعالم بعينه -مادمنا نملك أهلية الاجتهاد في نظريتي المعرفة-، ولا أن نعتقد عصمته لا بالمقال، ولا بلازم واقع الحال.
10- إذا تعلق الخطاب الشرعي بمعضلة لغوية، أو معضلة توثيق,, إلخ: فلا يجوز ان تكون تحقيقات الامام الفقيه -مهما كان علمه وامامته- هي مرجعنا في المعضلة ذاتها؛ بل نعرف لذوي التخصص حقهم؛ فنرجع لأئمة اللغة، وأئمة التوثيق بنظرة اجتهادية.
11- تجدد التأليف الفقهي ضرورة الى أن تقوم الساعة لتظل فضيلة تمييز الله للعلماء بدرجاتهم، ولنظل في العبودية لله؛ لأن الاجتهاد عبودية، وليظل التجدد في التأليف موجها لعامة المتفقهين المقصرين في نظريتي المعرفة، القابعين في كتب الفروع المذهبية,, ويكون التوجيه أن يلفت أنظارهم لمآخذ الاستدلال والاعتراض، وإحضار ما غاب عن مصادرهم من حجج واعتراضات؛ فيكون التدين لله عن بصيرة وأمانة في وجدانهم.
وهكذا يظل العلماء المعاصرون الحاذقون لنظريتي المعرفة في تواصل يكمل بعضهم بعضا تأييدا وتقويما واستدراكا وردا.
قال أبوعبدالرحمن: ويغيظ ذوي الحيوية الفكرية، والحرص على التعبد لله علميا باجتهاد نزيه: أن يظل الوضع مزريا باسناد الامامة الى معاصر ينقل فقه غيره، وليس عنده إلا الاستحضار الشفهي، والسرد كتابة دون منهجية ولا عزو ؛ فما حاجتنا لهؤلاء وكتب الأموات ناطقة بما هو أبلغ وأوضح؟!.
12- أفضل منهج للتأليف في الفقه الذي لم ينته بعد التوسع في مسائل خلافية قبل التفرغ للمطولات على كل الأبواب؛ لأن باحث المسألة يحضر للقارىء نوادر الحواشي، وييسر فهمها وقراءتها معا، ويحقق نقلها,,
ويحقق للقارىء كمال المتعة وكمال العلم بترتيب المباحث فكريا، وتاريخيا بايراد كلام السابق، واضافة ما استجد من كلام اللاحق,, ويحقق له المتعة بإكمال مادة المسألة من كتب أخرى غير كتب علم الفقه ككتب التفسير والحديث،
وبمعرفة ما يكون خلال المسألة من ذكر علم أو مصدر مفردة أو مصطلح؛ فإن باحث المسألة المتفرغ لها ينقل حواشي بحثه بما يترجح في الفكر أن اثباته أولى وأنفع,, ومثل هذه الدقائق لا يفرغ لها مؤلف الموسوعة.
وباحث المسألة اصبر على استقصاء الأدلة والمعارضات ومحاكمتها وتحرير محل النزاع، والفروق المؤثرة المعتبرة، واليقظة لمثارات الغلط أو المغالطة كالقياس مع الفارق، والاستدلال في غير محل النزاع، والتكثر بفوارق غير مؤثرة.
ومؤلف الموسوعة يستدل ويعارض ويحقق، ولكن يفوته كثيرا ما لا تسمح سعة عمله بالتفرغ له؛ وبهذا يكون في تحقيق المسألة الواحدة اضافة وبعد عن التكرار، وإن التآليف في المسيئلات يتيح للباحث أوسع جهد في أضيق نطاق؛ ومن ثم يكون قارئا فاهما واعيا مستوعبا لما قيل في المسألة من كتب الفقه؛ فيورد النص كاملا بأمانة، أو ينقل معنى النص إجيازا بأمانة ووعي معا.
13- من نشط لعمل موسوعي كبير يستوعب مسائل الفقه القديمة، والوقائع المستجدة فعليه ان يعيد تأليفه باختصار وتهذيب، واقتصار على أمتن البراهين وترتيب، والله المستعان.
(1) عن مقدمة خليل الميس لفارس المبسوط ص7-10.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved