Saturday 17th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,السبت 2 محرم


تكفير المعيَّن في الدنيا غير الشهادة له في الآخرة
أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري

لا يجوز الامتناع عن تكفير من صح منه الكفر، وارتفع المانع من تكفيره، بحجة أن تكفير المعين شهادة له بالخلود في النار، ولا يُشهد لمعيَّن!!,.
قال أبو عبد الرحمن: لا تلازم بين الحكم بالتكفير، والحكم بالخلود في النار,, بل من علمنا أنه وجُد منه الكفر، وصح لنا بالشرع تكفيره، ومات على كفره: فنحكم فيه بالكفر، ونشهد بأنه لقي الله كافراً حسب علمنا الذي رتب الله عليه أحكامنا الدنيوية فعلاً وقولاً واعتقاداً,, ومن ثم نُجري أحكام الكفر في الدنيا التي أمرنا ربنا بإجرائها، ونشهد بشهادة الله في شرعه أن من مات كافراً فهو من المخلدين في النار، محرمة عليه الجنة,, ولا يلزم من شهادتنا للمعيَّن بأنه مات كافراً أنه يلزم أن نشهد للمعين بالنار، لأن الله لم يجعل لنا الحكم في المعين بالنار كما جعل لنا الحكم في معين الكفر,, ألست ترى بأننا نحكم بأن فلاناً بن فلان المعين من اليهود كافر، ولا نشهد له بالنار إلا إذا علمنا موته على الكفر بلا عذر.
وعلى ضابط لزوم الحكم بالنار لمن حكم بكفره مشى عدد من العلماء,, فأما الغزالي فقد بين أن الخبر عن كفر شخص يعني الإخبار عن مستقره في الدار الآخرة، وأنه في النار على التأبيد,, ولكنه في نفس الوقت بيَّن أن الحكم بالتكفير مسألة فقهية تكون تارة معلومة بأدلة سمعية، وتارة تكون مظنونة بالاجتهاد (1) .
قال أبو محمد ابن حزم: وقال تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) ]سورة التوبة/ 65 - 66[.
فهؤلاء كلهم كفار بالنص.
وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئاً صح عنده بالإجماع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى به: فقد كفر,, وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، او بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين (فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه): فهو كافر.
ومن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام، أو جحد شيئا صح عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كافر، لأنه لم يحكّم النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينه وبين خصمه (2) .
قال أبو عبد الرحمن: ما ذكره أبو محمد من جملة مسائل الكفر، وهي مما يكفر به بالشرط الذي ذكره أبو محمد، وهو بلوغ الحجة وقيامها، ليتحقق معنى العناد وتعمد الكفر، وليتحقق شرطاً وجود المقتضي وتخلف المانع.
وقال أبو محمد أيضاً: ومن قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر، لتكذيبه القرآن (3) ,, وقد قذفها مسطح وحمنة ولم يكفرا، لأنهما لم يكونا حينئذ مكذبين لله تعالى، ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفرا.
وأما من سب احداً من الصحابة رضي الله عنهم فإن كان جاهلاً فمعذور، وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق كمن زنى وسرق، وإن عاند الله تعالى في ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر (4) ,, وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب (وحاطب مهاجر بدري): دعني أضرب عنق هذا المنافق,, فما كان عمر بتكفيره حاطباً كافراً (5) ، بل كان مخطئاً متأولاً.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آية المنافق بُغضُ الأنصار.
وقال لعلي: لا يبغضك إلا منافق.
قال أبو محمد رضي الله عنه: ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأنه وجد الحرج في نفسه مما قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان بأيديهم، ومن عادى علياً لمثل ذلك فهو أيضاً كافر، وكذلك من عادى من ينصر الاسلام، لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك (6) .
وقال أبو محمد أيضاً: كل من كان على غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام فهو كافر، ومن تأول من أهل الإسلام فأخطأ: فإن كان لم تقم عليه الحجة ولا تبين له الحق: فهو معذور مأجور أجراً لطلبه الحق وقصده إليه، مغفور له خطؤه، إذا لم يعتمده لقول الله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) ]سورة الأحزاب/5[، وإن كان مصيباً فله أجران: أجر لإصابته، وأجر آخر لطلبه إياه,, وإن كان قد قامت الحجة عليه، وتبين له الحق، فَعَند عن الحق غير معارض له تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم: فهو فاسق، لجرأته على الله تعالى بإصراره على الأمر الحرام,, فإن عَنَد عن الحق معارضاً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مرتد حلال الدم والمال,, لا فرق في هذه الأحكام بين الخطأ في الاعتقاد في أي شيء كان من الشريعة وبين الخطأ في الفتيا في أي شيء كان (7) .
قال أبو عبد الرحمن: ظهر من كلام أبي محمد أنه يسمي الإصرار عناداً، ولكنه لا يعتبره من العناد الذي يكفر به إلا إذا صحبه تعمد المعارضة والمحادّة لله.
قال أبو عبد الرحمن: الإصرار عناد لله بواقع الحال، ولكنه لا يكون عناداً مكفراً إلا إذا كان عناداً بواقع الاعتقاد، بأن يكون متعمداً محادّة الله ومعارضته.
قال أبو عبد الرحمن: إن الحكم بأن ذلك المعتقد أو القول أو الفعل كفر يكون قطعياً يقينياً ويكون راجحاً,, ويتبع ذلك درجة الحكم فيما يترتب على الكفر من آثار في الحياة الدنيا، وكذلك درجة الحكم فيمن صح في علم الله كفره كفراً مخرجاً من الملة أنه من أهل النار ويخلد فيها,, أما تعيين الحكم الأخروي في المعين الذي صح ظاهراً (8) كفره بأنه من أهل النار فلا لأن كفره صح في علمنا، ولا ندري ما في علم الله عن سريرة المعين ودقائق أحواله,, قال ابن أبي العز: الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما اثبته الرسول، او اثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه، او النهي عما أمر به: يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويُبين انها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر، ونحو ذلك,, كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها.
وأما الشخص المعين إذ قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟,, فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت (9) .
وقال: ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، ويمكن ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله كما غفر للذي قال: إذا مت فاسحقوني ثم اذروني,, ثم غفر الله له لخشيته، وكان يظن ان الله لا يقدر على جمعه وإعادته أو شك في ذلك.
لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا، لمنع بدعته، وأن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه.
ثم إذا كان القول في نفسه كفراً: قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يمكن ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً (10) ، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة اصناف: صنف كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين,, وصنف المؤمنين باطناً وظاهراً، وصنف اقروا به ظاهراً لا باطناً,, وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة.
وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين: فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق.
وهنا يظهر غلط الطرفين، فإنه من كفَّر كل من قال القول المبتدع في الباطن: يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين (11) .
وقال: لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة كالعشرة رضي الله عنهم,, وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من شاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين,, ولكنا نقف في الشخص المعين، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم، لأن الحقيقة باطنة، وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسنين ونخاف على المسيئين، وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال:
أحدها: الا يشهد لأحد إلا للأنبياء، وهذا ينقل عن محمد بن الحنفية، والأوزاعي.
والثاني: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث.
والثالث: أنه يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون كما في الصحيحين: أنه مر بجنازة: فأثنوا عليها بخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت,, ومر بأخرى، فأثني عليها بشر، فقال: وجبت,, وفي رواية كرر: وجبت ثلاث مرات, فقال عمر: يا رسول الله: ما وجبت؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً وجبت له النار,, أنتم شهداء الله في الأرض.
وقال صلى الله عليه وسلم: توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار,, وقالوا: بم يا رسول الله؟,, قال: بالثناء الحسن، والثناء السيىء,, فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار (12) .
قال أبو عبد الرحمن: عدم الشهادة للمعين بالنار ليس وقفاً على من اعتقد مقالة كفر من أهل الملة، بل في عموم الكفار، فنحن نشهد بكفرهم، وأنهم من أهل النار، ونلعنهم جميعاً، ولا نجزم لواحد معين منهم بأنه من أهل النار، وليس ذلك شكاً في كون الكفار من أهل النار، وإنما ذلك خوفاً من أن يكون ذلك الكافر في علمنا ليس من أهل النار في علم الله، لمانع يمنع من ذلك لا يعلمه إلا الله,, وما أملح هذه الكلمة للدكتور محمد نعيم ياسين,, قال: إن هنالك حكمين يترتبان على كفر العبد:
الحكم الأول دنيوي: وهو استحقاق المرتد في الدنيا جميع ما دلت عليه النصوص الشرعية من الأحكام التي يجب تنفيذها عليه في هذه الحياة الدنيا، والتي مبناها على ما يصدر عن الإنسان في الظاهر دون النظر إلى مكنونات القلوب، وذلك كاستحقاق المرتد القتل إن لم يتب، والتفريق بينه وبين زوجته، وعدم حل ذبيحته، ولا إنكاحه، وغير ذلك فهذا من اختصاص العباد في هذه الدنيا ويطبقونه على الشخص المعين,,وبعض هذه الأحكام يختص بالإمام كالاستتابة والقتل.
والحكم الثاني هو الحكم الأخروي: وهو استحقاق المرتد للخلود في النار، فهذا الحكم يختص بإصداره وتنفيذ على فلان وفلان ممن يستحقونه أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى، ونحن لا نقدر عليه في الحياة الدنيا، ولا نعلمه بخصوص شخص معين، وليس من اختصاص العباد أصلاً، فليس لأحد في هذه الدنيا: أن يدعي أنه يعرف مقعد شخص معين في الجنة أو النار,, اللهم إلا من اعلمهم الله بذلك: من الرسول عليهم الصلاة والسلام، وكمن بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة (وهم العشرة من الصحابة الذين شهد لهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة)، وكمن أخبر عنهم الله في كتابه، أو شهد الرسول أنهم من أهل النار كابي لهب الذي نزل فيه قرآن يدل على ذلك,, نعم لنا أن نحكم بصورة إجمالية، فنقول: من كفر بالله، او ارتد عن دينه: خلِّد في النار، وحرمت عليه الجنة,, وهذا هو الحد الذي يجب على المسلم أن يقف عنده، وإلا كان باغياً ومعتدياً (13) .
قال أبو عبد الرحمن: كلام ابن أبي العز السالف الذكر عن عدم الشهادة لمعين مقيد بأهل القبلة (14) .
(1) الاقتصاد في الاعتقاد ص 221.
(2) الفِصَل 3/299.
(3) لأنه كان مؤمنا بالقرآن، فجاء القرآن ببراءتها، فتمادى في القذف، فكان ذلك نقضاً لإيمانه بالقرآن وذلك هو الكفر به.
(4) لم أجد فرقاً بين التمادي بعد قيام الحجة وبين العناد، وانما يتصور الفرق فيمن ظل يشرب الخمر بعد قيام الحجة عليه حيث غلبته شهوته وعادته غير متعمد محادّة ربه وعناده باستباحة شربها، وإنما يكفر من سب الصحابي إذا سبه لصحبته وإيمانه.
(5) هذا مثال غير مطابق، لأن عمر رضي الله عنه صحابي، ولأن عمر اتهم صحبة حاطب بالنفاق، لأجل الخطأ الذي بدر منه، ولم يسبه لأجل صحبته.
(6) الفصل 3/300 - 301.
(7) الفصل 3/301.
(8) يراد بالظاهر الأحكام المترتبة في الدنيا، ويراد بالباطن الأحكام المترتبة في الآخرة.
(9) شرح العقيدة الطحاوية ص 357.
(10) قال أبو عبد الرحمن: ابن أبي العز ها هنا ملخص كلام شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمهما الله - متمسك بتعبيره.
(11) شرح العقيدة الطحاوية ص 358 - 359.
(12) شرح العقيدة الطحاوية ص 426 0 427.
(13) كتاب الإيمان (اركانه وحقيقته ونواقضه) ص 282 0 283.
(14) وهكذا سائر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية كما في المسائل الماردينية.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
ملحق الاحساء
مقالات
الفنيـــة
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
التقسيط والقروض البنكية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved