في بحث للدكتور رفيق يونس المصري بمجلة الأموال حول مشروعية بيع التقسيط جاء الآتي:
انتشر بيع التقسيط في عصرنا هذا انتشاراً كبيراً، وربما ظهر اسمه صراحة في المعاملة، وقد لا يظهر، بل يدخل ضمنا فيها، وتكون معتمدة عليه، ومستندة إليه.
من هذه المعاملات المعاصرة التي تعتمد على بيع التقسيط المعاملات التالية:
أ- بيع المرابحة للامر بالشراء في المصارف الإسلامية حيث يعد المصرف الإسلامي عميله بشراء سلعة موصوفة، يطلبها منه هذا العميل، ويعد العميل المصرف بأن يشتري منه هذه السلعة إذا ما اشتراها المصرف.
في بيع المرابحة هذا يقوم المصرف بدفع ثمن السلعة نقداً، ويقسطها على العميل أقساطاً.
2- خصم الأوراق التجارية في المصاريف التقليدية: حيث يبيع أحد التجار سلعة بثمن مؤجل أو مقسط، يأخذ به من المشتري ورقة تجارية (سفنجة - كمبيالة - سند سحب - أو سنداً إذنيا - لأمر) يستطيع أن يخصمها لدى أحد المصارف (التقليدية) ليحصل على قيمتها الحالية التي تساوي قيمتها الاسمية مخصوماً منها الفائدة ومصاريف الخصم.
3- الإجارة البيعية، التمويلية Leasing: يفضل التجار، إذا ما أرادوا بيع سلعتهم بالتقسيط، ألا ينقلوا ملكية السلعة المبيعة إلى المشتري، فور عقد البيع، ولهذا السبب، عندما تكون السلعة قابلة للإيجار، فإنهم يلجأون إلى إيجار السلعة، بدل بيعها، فتبقى هناك أقساط، ولكنها تتحول من أقساط بيع إلى أقساط إجارة, وبما أن الإجارة هي من العقود غير الناقلة للملكية فإن الأصل المؤجر فيها يبقى على ملكية المؤجر، ولا تنتقل ملكيتها من المؤجر إلى المستأجر إلا بعد سداد آخر قسط، ويتم النقل في صورة هبة، أو في مقابل مبلغ رمزي، ولو أنهم لجأوا إلى البيع، بدل الإجارة، فإن ملكية الأصل (السلعة) تنتقل إلى المشتري فور عقد البيع.
وبهذا تجد أن بيع التقسيط إما أن يمارسه التجار صراحة بهذا الاسم، أو أنه يدخل ضمناً تحت أسماء أخرى مستحدثة، مثل: المرابحة، أو الخصم المصرفي، أو الإجارة البيعية أو الإجارة التمويلية.
وهذه العمليات المستحدثة تتعاطاها مصارف إسلامية، أو مصارف تقليدية، أو شركات متخصصة في التقسيط، أو المرابحة، أو التأجير, وهذا التأجير يكاد ينتشر في جميع بلدان العالم، لا سيما المتقدم، ظاهره التأجير وحقيقته التقسيط.
ودراستنا هذه تدور حول مشروعية بيع التقسيط من حيث هو، أما هذه العمليات المستحدثة فقد أفردت لها دراسات مستقلة.
عندما يذكر بيع التقسيط يفهم منه أن هناك مبيعاً يعجل، وثمناً يقسط إلى أقساط معلومة، لآجال معلومة, كما يفهم أن هذا الثمن قد زيد فيه لأجل هذا التأجيل، فلو عجل الثمن لكان أرخص.
هذا البيع جائز شرعاً عند جمهور العلماء، ومن منعه فإنما منعه لأنه رأى فيه شبهاً بالربا، من حيث إن فيه زيادة في الثمن لأجل الزمن.
وهذه الزيادة لأجل الزمن جازت في البيع لأجل الزمن جازت في البيع المؤجل، ولم تجز في القرض, فلماذا اعتبرت ربا حراما في القرض، ولم تعتبر كذلك في البيع؟
هذه المسألة من المسائل الشائكة والدقيقة، حتى إن عددا من العلماء الكبار، قدامى ومعاصرين، ذهبوا فيها إلى المنع.
من القدامى أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن، ومن المعاصرين محمد أبو زهرة في كتابه بحوث في الربا.
حجج المجيزين
أولاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الأصناف الستة: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد.
في هذا الحديث، ذهب العلماء إلى أنه:
إذا كانت المبادلة ذهباً بذهب فيشترط التساوي والتعجيل، ولو جاز هنا التفاضل والتأجيل لجاز القرض الربوي، وهو غير جائز.
إذا كانت المبادلة ذهباً بفضة فيشترط التعجيل، ولا يشترط التساوي، بل يجوز التفاضل لاختلاف الصنفين, ولو جاز هنا التأجيل لأمكن الزيادة في التفاضل لأجل اختلاف الزمنين أيضاً، أي لأمكن عقد القروض الربوية بالذهب تسدد بالفضة، أو بالعكس.
إذا كانت المبادلة ذهباً ببر، جاز التفاضل والتأجيل، أي جاز التفاضل لأجل اختلاف الزمنين.
ثانياً: في الذهب بالذهب يمتنع رباً يسمى ربا النساء، فلا يجوز ذهب بذهب (بيعاً لا قرضاً) مع تأجيل أحدهما، ولو تساويا، ذلك أن تأجيل أحد البدلين هنا يخل بتساويهما، فمن تمام التساوي في المقدار أن يكون هناك تساوٍ في الزمن.
ويعرف العلماء ربا النساء بأنه فضل التعجيل على التأجيل، فمجرد الزمن هنا يعد ربا وهو ممنوع في الذهب بالذهب، ولكنه غير ممنوع في الذهب بالبر, ففي الذهب بالذهب امتنع الفضل في المقدار، وامتنع معه الفضل في الزمن، لأن الفضل في الزمن لا يمكن تعويضه ومقابلته بفضل في المقدار, أما في الذهب بالبر فقد جاز الفضل في الزمن، وأمكن تعويضه عن طريق الفضل في المقدار.
وهناك حجج أخرى ذكرها بعض العلماء لا أوافقهم عليها، ولا مجال لذكرها هنا، وقد ناقشتها في كتابي بيع التقسيط، وكتابي الجامع في أصول الربا .
حجج المانعين
احتج الذين منعوا الزيادة في الأثمان المؤجلة بأن الزيادة ربا، لأنها زيادة في نظير الأجل، وكل زيادة في نظير التأخير تعد ربا، ولا فرق بين أن تقول: سدد الدين أو زد في نظير التأجيل، إذ المعنى فيهما واحد، فهو ربا، وقوله تعالى: وأحل الله البيع وحرم الربا (سورة البقرة 275) يفيد تحريم هذه البيوع، لأنها داخلة في عموم كلمة الربا، وهي تقيد الإباحة في قوله تعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم (سورة النساء 29), فإن كل العقود الربوية مقيدة لهذه الإباحة، وإذا قيل: إن البيوع بأثمان مؤجلة داخلة في معنى: وأحل الله البيع وحرم الربا، إذ هي بيع، يقال: إنها تحتمل أن تكون داخلة في عموم البيع أو الربا، وعند الاحتمال من غير ترجيح، يقدم احتمال الحظر على احتمال الإباحة، وخصوصاً أن إحلال البيع ليس على عمومه، بل خرجت منه البيوع الربوية، وهذا منها، والبائع بالأجل مضطر للبيع، فلا يكون راضياً، ولايصدق عليه قوله:تعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم, ومن جهة أخرى فإن هذه زيادة من غير عوض، فتنطبق عليها كلمة ربا، وتندرج تحت التحريم.
يجوز للمضطر أن يقترض بالفوائد إذا وجد مغالاة في الثمن بين البيع نقداً وبيع التقسيط إذا باع السلعة بالتقسيط، لا يحق للبائع الاحتفاظ بملكيها كضمان أو خوفاً من تسديد المشتري للأقساط إذا احتفظ البائع بملكية المبيع
يلجأ بعض الباعة، وتسندهم في ذلك بعض القوانين الوضعية، إلى شرط الاحتفاظ بملكية المبيع، من باب الضمان، خشية تخلف أو تأخر المشتري عن سداد الأقساط المترتبة عليه.
وربما يلجأون أيضاً، للغرض نفسه، إلى الاجارة التمويلية، عندما تكون السلعة المبيعة قابلة للإجارة، كالعقار والسيارة وغيرها، وبنهاية مدة الإجارة ينقلون الملكية مجاناً، أو بثمن رمزي.
وهذا غير جائز، ولم يجزه مجمع الفقه الإسلامي، لكن يجوز رهن المبيع نفسه، أو أن يشترط البائع على المشتري عدم التصرف بالمبيع إلى حين استيفاء الثمن.
اشتراط حلول الأقساط إذا تأخر المشتري في السداد
إذا تأخر المشتري في سداد أحد الأقساط أو بعضها، يجوز للبائع اشتراط استحقاق باقي الأقساط فوراً، وقد أجاز هذا عدد من الفقهاء القدامى والمعاصرين، كما أجازه المجمع، كما سنبين.
وأرى أن هذه الأقساط تستحق بقيمتها الحالية لا بقيمتها الاسمية، فيوضع فيها لتعجيل ما كان زيد فيها للتأجيل, وهذا هو رأي فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا.
قرار المجمع
قرر مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة في شأن بيع التقسيط ما يلي:
- تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال.
- البيع بالتقسيط جائز شرعاً، ولو زاد فيه الثمن المؤجل على المعجل.
- لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع، ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده، لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة.
- يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط.
- يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها، عند تأخر المدين عن أداء بعضها، ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.
- يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه، ما لم يكن معسراً.
إذا اشترى سلعة بالتقسيط على أمل بيعها لتسديد الأقساط
يلجأ بعض الناس إلى شراء عقار مثلاً بالتقسيط، وليس معه إلا قيمة الدفعة الأولى، أو العربون، على أمل التمكن من بيع العقار نفسه بربح، ومن ثم تسديد المتبقي عليه.
لو فعل هذا بالاعتماد على إيرادات متوقعة من مصادر أخرى فهذا لا أرى به بأساً، أما أن يفعل هذا بالاعتماد على إمكان بيع العقار نفسه، فهذا أشك في جوازه لشارٍ لم يقدم ضماناً، وفيه نوع من التغرير بالبائع، ويفضي إلى النزاع, فهذا مثله مثل من يبيع بيع سلم (حيث يعجل الثمن ويؤجل المبيع)، على أن يتمكن من تسليم المبيع من شجرة معينة، أو حقل، أو من محصوله الخاص, فهذا لا يجوز، والجائز هو الاعتماد في ذلك على السوق كله، بحيث إذا لم تنتج أرضه، أو أنتجت ما ليس كافياً، أو ما هو غير مطابق للمواصفات، أمكن اللجوء إلى السوق، ولذلك اشترط العلماء، في بيع السلم أن يكون المبيع موجوداً في السوق وقت حلول موعد التسليم، وعند آخرين يجب أن يكون موجوداً من وقت العقد إلى وقت التسليم.
وإني أضع هذه المسألة تحت أنظار العلماء.
المغالاة في فرق الثمن المؤجل
قد يحترف بعض المرابين تعاطي العينة أو التورق أو التحليل، ويغالون جداً في فرق الثمن الآجل عن العاجل، مستغلين تدين الناس، وسذاجة بعضهم، والاحتكار الذي قد يتمتعون به، نتيجة غياب المنافسة.
وهنا أرى أن الشخص إذا كان مضطراً للنقود، لأجل غذاء أو دواء أو كساء ضروري أو حاجة أساسية، ورأى أن هؤلاء يغالون في فرق الثمن، ويستغلون، فيمكنه أن يقترض بالفائدة، إذا لم يجد من يقرضه بدونها، إذا كان معدلها أقل، لأن هذا من الضرورات، والضرورات تبيح المحظورات.
ويحسن أن يلجأ المشتري إلى خبير أو أكثر لحساب المعدل السنوي، أو القيمة الحالية للأقساط، فقد يلجأ الباعة إلى أساليب ملتوية قائمة على التمويه والتضليل والخداع.
اتخاذ بيع التقسيط حيلة للقرض الربوي
قال تعالى: وأحل الله البيع وحرم الربا (سورة البقرة 275)، فأحسن طريقة للمتحايلين أن يظهروا البيع، ويبطنوا الربا، يساعدهم في ذلك البيع الآجل، حيث يكون فيه أجل وزيادة.
تجوز الزيادة في الثمن إذا بيع بالتقسيط
هل الزيادة في بيع التقسيط هي في مقابل زيادة الثمن؟
ومن الحيل الربوية:
1- بيع العينة: مثل أن يشتري سلعة ب 100 مؤجلة، ثم يبيعها إليه ب 90 حالة, سميت عينة من العين، وهو النقد، أو لأن البائع يعود إليه عين سلعته.
2- بيع التورق: مثل أن يشتري سلعة ب 100 مؤجلة، ثم يبيعها إلى طرف ثالث ب 90 حالة، سمي تورقاً من الورق، وهي الدراهم.
وقد أجاز بعض العلماء التورق بلا تفصيل، وأنا أرى أن الطرفين يأثمان إذا كانا عالمين بأن هذا المشتري متورق، ولا يأثمان إذا لم يعلما بذلك, ويأثم الثلاثة إذا كان التورق منظماً بعلمهم جميعاً، كما يحدث في بعض أسواق المسلمين اليوم، حيث يتحرجون من الربا الصريح ولا يتحرجون من الربا التحايلي (التورق), والمتورق يجوز له التورق إذا كان مضطراً، لا سيما إذا كان سعر التورق والقرض واحداً، فهو أحفظ لماء الوجه، وأبعد عن المنة، والله أعلم.
3- بيع المحلل: مثل أن يشتري سلعة ب 100 مؤجلة، ثم يبيعها إلى طرف ثالث ب 90 حالة، ثم يبيعها هذا الطرف الثالث إلى بائعها الأول، فتعود إليه السلعة.
فالعينة بين اثنين، والتورق والمحلل بين ثلاثة، وفي التورق لا تعود السلعة إلى صاحبها الأول، على عكس المحلل.
المراجع:
* ابن الهمام، شرح فتح القدير، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة د,ت.
* أبو زهرة، بحوث في الربا، دار البحوث العلمية، الكويت، 1390ه - 1970م.
* أبو زهرة، الإمام زيد، دار الفكر العربي، القاهرة، د,ت.
* الجصاص، أحكام القرآن، دار الفكر، بيروت د,ت.
* الحاكم، المستدرك، دار الفكر، بيروت 1398ه - 1978م.
* السياغي، الروض النضير، مكتبة المؤيد، الطائف، ط2، 1388ه - 1968م.
* الشوكاني، السيل الجرار، تحقيق محمود إبراهيم زيد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405ه - 1985م.
* الشوكاني، نيل الأوطار، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة د,ت.
* الصنعاني، ربا النسيئة أو رسالة في جواز الزيادة في الثمن لأجل الأجل، تحقيق عقيل المقطري، مكتبة دار القدس، صنعاء، 1412ه - 1992م.
* الصنعاني، القول المجتبي في تحقيق ما يحرم من الربا، تحقيق عقيل المقطري، مكتبة دار القدس، صنعاء، 1412ه - 1992م.
* مجمع الفقه الإسلامي، المجلة، جدة، العدد 6، ج1، 1410ه - 1990م، والعدد 7، ج2، 1412ه - 1992م.
* مسلم، صحيح مسلم، بشرح النووي، دار الفكر، بيروت، 1401ه - 1981م.
|