Tuesday 20th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 4 محرم


رجال من ورق

المشهد الأول
نزل من سلم الطائرة مترنحاً وقد اخذ منه الجهد مأخذه يحمل في يده اليسرى حقيبة توحي بكل الشهادات وهي في الحقيقة فارغة الا من بعض المجلات والصور التذكارية وربما بقايا السجائر,, وفي يده اليمنى معطف قد رسمت عليه علامات لكل معاناة الرحلة وربما نتائجها في صالة المطار رمى بنفسه على أقرب مقعد وهو يتنهد الصعداء ويلتقط انفاسه، لم يكن يصدق انه وصل بالفعل وانه على ارض وطنه التي طالما اسمعها الكثير وقال: انها لن تستطيع ان تحقق طموحاته الجبارة.
فتش في جيوبه ليطمئن على جواز سفره الذي لا معنى له بدونه: تفقد ما معه من نقود لعله يجد فيها ما يكفي لسد جوعه المستورد وهل تكفي اجرة لسيارة توصله لبيته: كذا ان كان ما يزال يذكر موقعه,, في هذا المكان ومنذ سنوات تذكر خاله وهو يودعه قائلاً: ان الطموح مطلوب ولكن في حدود المعقول وفي اطار القيم الاسلامية ونطاق القدرة الانسانية: ودون اغترار يصل الى حد الذروة, بل يكون هناك ضوابط تتمثل في الحكمة والصبر وحسن الاختيار يكون هناك ابداع النجاح وبلوغ الهدف.
المشهد الثاني:
السيارة تطوف بين الشوارع وهو مستلق ومغمض العينين والسائق محتار في أمره فهو لم يسمع منه كلاماً واضحاً يجد فيه دليلاً للموقع المحدد بعد عناء وصل الى باب المنزل الذي طالما رأى انه ليس من مقامه ولا يناسب مكانته والتي طالما حلم انها ستكون عالية جداً تبهر الجميع,, تنهد في اسى ودق الجرس بعد برهة وجد ابوه واقفاً امامه قال له في كرم واصالة تفضل اهلاً ومرحباً بك تفضل ولنتحدث في الداخل لم يكن الاب يعلم ان الواقف امامه بذلك اللباس الاجنبي هو ولده: الذي سئم انتظاره ولكن لم ييأس من عودته تفضل ايها الضيف العزيز مالك لا ترد لقد تغيرت ملامح ناصر وتلاشت حيويته وتبعثر شبابه.
قال ناصر لوالده بنبرة خجل: مرحبا يا والدي: الم تعرفني انا ناصر تملكته الدهشة وقيدت لسانه ولكن قلبه زاد في نبضاته حتى دفعت يداه لناصر وضمه الى صدره الذي اتعبه الحنين وروعه الفراق وعاتبه بدموع لسان حالها يقول: لا بد ان يكون حسن ابصار ثم مقارنة وتمييز: فيختار الاصح ويتدارك الاخطاء فلا يمكن الاعتماد الكلي فقط على المعرفة الذاتية والاحساس بالميل الى غاية ما.
فعنصر الزمن سيف يجب الامساك به بحكمة: فاما ان يهبك خير الوجود أوينهي نجاحك من الوجود بعد انتهاء مدة الفرص المتاحة لكل فرد,, مسح الأب دموعه ثم قال: الحمدلله على سلامتك يا بني كيف طاوعك قلبك ان تبعد عنا كل هذه السنين مبروك شهاداتك وعسى ان تكون قد حققت احلامك، لقد حلمت البارحة حلماً سرني: وصحوت على شمس شعرت انها ستجلب معها ما يفرح بعد كل ما فات من عناء,, اوه: لقد انستني الفرحة بك ان اخبر امك يا ام ناصر اسرعي لقد وصل ناصر الغالي: وصل رجل البيت وأمل الاحلام المستعصية.
المشهد الثالث:
في الليلة التالية لم يستطع النوم: الحيرة تكاد تقتل ما بقي لديه من صبر,, هل سيخبر اهله بفشله ام يواصل حبال اوهامه بالأكاذيب وما عساه ان يفعل: وكيف سيجد عملاً يناسبه: ياه اما زال يرى ان هناك اشياء كثيرة لا تناسبه: وماذا بعد هذه الحيرة والتفكير المتردد,, من المفروض ان يكون الانسان غنياً بالرضا,, ومحكوماً بالتواضع: يعلم دائما ان رأس الحكمة مخافة الله، فالرجل الحكيم يستطيع ان يكون صائب الرأي عند الاشتباه والحيرة بما لديه من احاطة وسعة افق.
بعد ان استعاد هذه الكلمات في ذاكرته تنهد قائلاً بأي وجه القاك يا خالي؟.
- في تلك الاثناء طرقت الباب والدته وألقت عليه السلام: ثم قالت: ما بالك يا بني لم تنم بعد: لقد رأيت النور مضاء عندك فقلت ربما تريد شيئاً: قال ناصر: شكراً يا امي لا اريد شيئاً فقط لم يكن لدي رغبة في النوم، أردفت ام ناصر قائلة: اذاً لم لم تجلس معنا يا بني ولو قليلاً فلم املأ عيني من صورتك او سمعي من صوتك الم تشتق للجلوس معنا والسمر في ليالينا: مالك لا ترد هل تريد ان تنام؟ سأذهب اذاً لأدعك ترتاح,, لا يا امي اجلسي براحتك وحدثيني عن اخباركم: حسناً يا بني ان هذا شيء يسعدني جداً فهناك امور مهمة اريد ان احدثك بها، اما اختك فقد تقدم لها خاطب نريد ان تسأل عنه, ايضا اخوك محمد سيذهب في رحلة لعدة ايام مع اصحابه لو تفضلت تسأل عنهم وعن سلوكهم، وابوك المسكين لقد تحمل الكثير وعانى الكثير اتمنى ان تجد جزءاً ولو يسيراً من وقتك لتتفق معه في المحل، ويا ليت لو استطعت ان تعيد ترميمه واصلاحه من جديد, فانت تعلم يا بني انه مصدر رزقنا بعد الله.
ومنه كنا نبعث لك المال حتى تحقق ما تريد كنا نحرم أنفسنا لنرضيك لانك ابننا الغالي ولعلمنا انك ستعوض تعبنا وصبرنا خيراً بنجاحك فما رأيك يا بني: لم لا ترد؟ هل اخذك النوم؟ وقف بسرعة اخافت امه قائلاً: ماذا تظنين يا امي: هل املك عصا سحرية؟ او هل اصنع المعجزات,,؟ اخوتي كبروا يا امي وهم الآن مسؤولون عن حياتهم وتصرفاتهم، واختي لها اب ما زال على قيد الحياة: اما المحل فهو لا يستاهل قرشاً واحداً يصرف عليه بل انه يسبب لي الخجل وأبي بإمكانه المعونة بأقاربه واصحابه اما انا ليس عندي وقت الا لمشاغلي فانا نفسي اريد المساعدة.
كان واقفاً امام الشباك اثناءكلامه فلما التفت وهو يقول: اليس كذلك يا امي؟ لم يجد امامه احداً، لقد ذهبت مع دموعها لتدفن امل الانتظار وتسدل الستار على حطام الاحلام.
ان هناك من الاحداث والمواقف التي تمر في حياة الفرد معظمها لايسر ولم يوافق حظه فيها نصيب: هنا يكون لقيمة الصبر دور مهم في ان تأخذ الامور مأخذ الرضا من قوة الايمان ايماناً بقدرة الله وينتهي الامر بالقناعة والتسليم حين ذاك يكون الانسان قد اجتاز الاختبار: فالاعتصام بالصبر بعد الله واجب حتى لا يخرج الفرد عن فطرته بالتغافل عن هذه القيمة وبالتالي يصدق الاتكال,, احست بهذه المعاناة في قرارة نفسها وقد ايقنت تماماً ان الرجال ليسوا سواء، بل هناك رجال كالجبال يحتملون اي حمل مهما ثقل, ورجال لا يتحملون هبة نسيم لأنهم رجال مجوفون: فهم رجال من ورق.
دلال عبد الله الدايل
الرياض

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
القوى العاملة
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved