Tuesday 20th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 4 محرم


قصة قصيرة
العمة وساعة الخراش

في ظلام الليل الدامس الحالك السواد,, وفي بلدتها هناك كانت (العمة) يرحمها الله,, قد استيقظت للتو من منامها في جوف الليل المظلم على صوت دقات (ساعة الخراش), تلك الساعة التي كنت في صغري اعجب وأنا أسمعها توصي بعض من في الدار بقولها (عشوا الساعة) لأتسمر هناك عندها ولأنظر كيف يمكن ان تعشى هذه الساعة,.
انها صحبة قديمة عرفتها منذ دهر وزمن بعيد,, بين العمة يرحمها الله وبين (ساعة الخراش) المقربة منها, والتي كانت تعاملها كما تعامل طفلاً صغيراً من اطفال تلك الدار الطيبة المباركة,, فقد وضعتها في صندوق المعدن الخاص ب(ساعات الخراش) في ذلك الزمن, له واجهة من زجاج لتبدو من خلفه للحفاظ عليها والعناية بها,.
صحبة قديمة كانت بينهما كالشأن بين العقلاء, فكم كانت تمتن (العمة) كثيرا لها وهي تدق إلى جوارها لتوقظها لصلاة الليل, ولتعرفها كم مضى من الزمن,, وكم كانت تأنس وتنفرج اساريرها وهي تنظر في وجهها الاخضر المتورد بظلام الليل,, فقد كانت (ساعة الخراش) تضيء قريبا من حولها لشدة توهجها في ذلك الزمن,.
صحبة قديمة كانت بين (العمة) يرحمها الله وبين (اغراضها وحاجياتها) البسيطة المتواضعة,, ف(صندوق الخشب) هناك لا يكاد يغيب عن ناظريها, وكذا الشأن بالنسبة لسراجها العتيق الذي كانت توصي ايضا بمسح زجاجه إذا ماكان هناك ضيف سيحل عليها قريباً والذي كانت تشعله وتقوم على ضوئه الخافت لتصلي من الليل, وأواني (الحنا) و(مشاط الرأس) و(مكد الخشب) و(المفرق) وهو (قرن الغزال) الذي كانت تفرق به رأسها,بقايا من ذكرى الامس,, مازالت عالقة بالذهن,, وصور وخيالات كريمة ما زالت تلوح للناظر ويتردد طيفها بين الحين والآخر,, كنت قد رأيت ذلك وعاصرته في عهد كريم مضى وتقضى, إلى جوار (العمة) يرحمها الله,, يلوح لي خيالها الكريم وهو يروح ويجيء على (ضوء السراج) وسط محرابها وقد تجردت من الدنيا في تلك الساعة المهيبة بين يدي المولى سبحانه, تصلي له وتبتهل إليه,,وكان يقرع اذني الصغيرتين بين الحين والآخر صوت دعائها ويصل إلي همس مناجاتها فكنت آنس عندها للاغفاء على ذلك,, وكان من دعائها (يا الله عند ليل قارب ومغرب غارب, تكفينا شر المكارب).
حسن بن سعيد الدوسري
***
* في زماننا انتهت ساعة الخراش التي (تعشى) وحل مكانها ساعات حديثة، ولكن كاتب القصة يذكرها لنا وكأنه يمسك بها بين يديه ويصفها بدقة او كأن عدوى تلك العلاقة الحميمة بين الساعة والجدة قد انتقلت اليه فأصبح يحفظ لها نفس القدر من الود، مع ان تلك الساعة المحددة التي مايزال يذكرها من صباه كاتب القصة ربما تكون قد فقدت او تعطلت فمن اي المناهل يستمد صاحب القصة هذه القدرة على التذكر؟
يلحظ القارئ ان الكاتب قد أوهمنا انه يصف تلك الساعة كأنما برغبة ان يقدم لنا (تحفة) من زمان قديم، ولكنه - تحت ستار هذا الايهام - ينقل لنا زمنا قديما بكامله ببساطة الناس فيه وطيبتهم تلك الطيبة التي تفرغ صدورهم إلا من طاقة الحنان تشمل الناس والاشياء معا وإلا من سكينة دائمة تقر وتترسخ بالحفاظ على فروض العبادة، وبخلاف ذلك هم لا يحملون ضغنا لأحد ولاهما بسبب احتياج إلى شيء لا يستطيعون الحصول عليه,, حياة في ذلك العصر بسيطة وغنية بالقناعة وبطيبة الناس وحميمية العلاقات بين هؤلاء الناس وبين اشيائهم مثلما هي بينهم وبين غيرهم من الناس، نكاد نشتم من القصة، رائحة زيت سراج الجدة واصطكاك باب الصندوق المعدني للساعة وهو يغلق عليها بعد ان تعشى وتمتمات تلك الجدة بالدعاء الذي حرص الكاتب على ان ينقل إلينا نصه.
اقول يوهمنا الكاتب بأنه يكتب قصة عن ساعة الخراش فإذا هو يكتب عن ذلك الزمن القديم بكل ما فيه والذي ربما عاش في طفولته جزءا منه، فأحبه وأصبح هو بمثابة طيب العطر كلما تذكر طفولته.
أمن خلال هذا الحب يصف لنا الكاتب الساعة وكأنه يراها؟ هذا كله جميل في القصة ولكنه لا يعفي الكاتب او يمنحه حق التجاوز عن (تقليدية) القصة التي اعتمدت لنفسها اسلوب السرد والحكاية وغياب الحدث الاساسي للقصة وإن كان حقيقة قد حرص على الا يتمدد بين يديه زمن ذلك الحكي او الزمن الفني للقصة، فكل ما وراه يخرج من خلال لحظة عابرة للتذكر.
أظن ان في هذه المنطقة التي اختارها الكاتب مسرحا لقصته يستطيع ان يقدم لنا اعمالا في ارتباطها الشديد ببيئة محلية وواقع اجتماعي حتى وإن كان ذلك الواقع يعود إلى زمن قديم فمن هذه السمات تحديداً تميز كاتب مثل فؤاد التكرلي أو محمد خضير من رواد كتابة القصة في العراق مثلما تميز كاتب مثل كواباتا في اليابان بل كان من اسباب منحه جائزة نوبل اهتمامه ببيئته المحلية وقدرته على تصديرها إلى الادب العالمي, فإن كان رواد بارزون كهؤلاء يمكن ان يمثلوا طموحا لكاتب يبدأ طريقه كالصديق حسن لعله مما يسعد هذا الكاتب انه من تلقاء نفسه اتجه إلى حيث كانوا قد اتجهوا هم.
وربما يكون من الضروري ايضا تنبيه صديق الصفحة حسن الدوسري إلى الابتعاد عن كل ما يشير إلى وجوده كتدخله بالشرح احيانا أو التعليق او التعقيب، ولعله يلحظ اننا قد حذفنا السطور الاخيرة التي لاتتصل بكتابة القصة قدر ما تتصل به هو شحصيا في ترحمه على جدته الحقيقية لاجدته بطلة القصة فإذا اضطر إلى شرح كلمة كالمفرق فعليه ان يضع ذلك الشرح في هوامش لا داخل القصة,.
مع تمنياتنا للصديق حسن الدوسري بمزيد من التوفيق.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
القوى العاملة
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved