يبدو كأبي في حنانه وعطفه ورجولته وقوته,, أرمقه من بعيد عندما يمشي في ساحة الحديقة بعد قدومه من الجامعة فيمتلئ ثغري بابتسامة معبرة عن اشياء جمة,, يتقدم ويسلم ثم لا يلبث أن يستريح في فناء المنزل بعد ان يرتشق كوباً من العصير,, وانا كلي استعداد لقدومه وجبته جاهزة والحمام الساخن في انتظاره,, يجلس ويحكي لي كل شيء حدث معه في الجامعة فهو دكتور واستاذ فيها,, وانا مطلقة العنان في النظر له والاستماع لحديثه,, انه شغوف بمهنته يحبها ويضحي لأجلها,, وانا لا امتلك الا ان ادعو له بالتوفيق والسداد,, بعدها يخطو خطوات سريعة الى غرفته حيث الفراش الوثير واللون الجميل الهادىء ليلقي بجسده النحيل المتعب على السرير فينام,, اثناء المساء يدخل الى مكتبه ليتربع على كرسيه لقد حان وقت الكتابة,, انه يعشق الذكريات الجميلة,, يعشق الكتابة عن الحب والأمل,, عن التضحية والفداء,, ويحاورني ويأخد برأيي,, أسماء كيف يبدو الموضوع؟ القي نظرة عليه,, هل ترين ان افعل كذا,,؟ وهكذا نتسامر طوال الليل وتعذب المناقشة فيما بيننا,, في المقابل اجده انسانا رقيقاً مع ابنائه,, رفيقاً في تعامله معهم,, يحزن عندما يمرض احدهم ويفرح عندما يراهم بصحة وعافية,, رزقنا الله بطفلين جميلين كورقتين متفتحتين,, يحتضنهما على صدره ويلعب معهما غالب وقته يصطحب لهما كثيرا من الهدايا عند مجيئه للمنزل,, حتى مع اهلي كريم يتلطف لوالدتي ويحترم والدي,, يقدر اخوتي يصلهم في المناسبات وعلى كل احيانه,, يقدرني كامرأة,, وزوجة يتعامل معي بعاطفة الزوج لزوجته,, واحترام الاخ لأخته وحنان الاب لابنته,, يقدر متاعبي اثناء العمل في المنزل ويحاول جلب الراحة لي بأي وسيلة غزير الدمعة,, رقيق الطبع,, جم المشاعر,, دمث الخلق متواضع,, انه صورة معبرة عن الرجل الذي تطمح له اي فتاة.
نعم,, انه زوجي,, والحبيب الى فؤادي,, ومن عاشرته سنوات طويلة من العمر تفيض بالود والسلام والخير,, سنوات تحكي الألفة في اجمل معانيها,, والتضحية في قمتها عندما تصل للهدف,, سنوات كأنها كتاب مفتوح لقارئيه وقصة مشوقة لهواتها,, عندما اتذكر كل هذا الحشد لا تلبث دموعي أن تذرف,, ومشاعري تفيض بالحزن وكياني يضطرب,, اتذكر قلبه الطيب الذي غمرني به ولطافته التي تنم عن سماحته وما زالت كلمته تتردد لمسامعي رفقاً بالقوارير عندما زجرني ابي امامه,, انظر يمنة ويسرة لا اجده,, لا اجد سوى ذكراه,, لا اجد سوى هندامه,, حذائه,, عمامته,, كتبه,, عطره الفواح,, نظارته,, مذكرته,, كأني به سيدخل علي في الغرفة,, كأني به يقول اسماء جهزي لي الغداء,, اشياء كثيرة حرقت فؤادي وعذبت افكاري ورسمت هالة سوداء على محياي,, ماذا افعل تجاه هذا الخضم الهائل من الذكريات,, ما افعل,, انه مات,.
ذكرى
***
* امسي الحاضر هي القصة التي نسيت صديقة الصفحة ذكرى ان تضع لها عنواناً فوضعناه نحن,, في القصة حس جميل يأتي من بساطة الموضوع وبساطة البناء الفني معاً,, فنياً بدأت الكتابة بهذه الجملة المثيرة يبدو كأبي في حنانه وعطفه لتلقي بنا مباشرة في وسط الموضوع والموضوع ليس حدثاً بل شخصية وبدلاً من ان تتمادى في سرد الاحداث او روايتها تقف لترسم صورة لهذا الذي تكفيه جملة الاستهلال وحدها لنعرف كل شيء عن طبيعته واخلاقه,, كذا يأتينا البطل جاهزاً فلا يضيع منا بعض من الوقت في التعرف اليه، وبالتالي فكل اضافة صغيرة عن عاداته وسلوكه وتصرفاته تضيف جديداً على شخصيته.
الحق انه شخصية تحب حتى من قبل الذين لم يروه الا في هذه القصة وحدها.
هل كانت تستدرجنا الى ان نعقد علاقة مع شخصيتها الأثيرة حتى نفاجأ بذلك التحول في نهاية القصة يأتي صادماً ومفعماً بالحزن لتكون القصة قد ادت هدفها؟.
على ان هذه الشخصية - والقصة نستطيع ان نسميها قصة شخصية لا قصة حدث - لا نعرفها الشخصية من خلال نفسها اعني من خلال سلوكها وتصرفاتها وما تقول بل من خلال وصف خارجي لها يأتي على لسان شخصية اخرى هي راوية القصة او كاتبتها,, لا يختلف الأمر ومع ذلك فقد كانت بساطة الرصد للحركة والسلوك عاملاً في تقريبنا منها الى هذا الحد، الذي يمثل جوهراً فيه ما اصبحت تحتله هذه الشخصية (الزوج) من مكانة حددتها جملة الاستهلال يبدو كأبي بل اكثر من ذلك ان مشاعره كانت تفوق مشاعر الأب نفسه فالأب يزجرها والزوج يرده وهي قبيل نهاية القصة قد جعلت منه اباً وأخاً قبل ان يكون زوجاً.
في نهاية القصة نكتشف انها كانت تصف لنا بكل هذا الحضور الماضي الذي انتهى ونكتشف انها تتحدث عن حاضرها الذي اصبحت تفتقد فيه بأسى الزوج في عدة سطور، على قلتها تقطر ألماً ونصدقها,, الم نصدقها في استحضارها لما كان بهذه القوة حتى كدنا نتصور انها تتحدث عن لحظتها الحاضرة، فلماذا لا نصدق المها حتى وان جاء في كلمتين؟.
ان هذا الافراد للماضي وبتر الحاضر لا يعني الا حضوراً دائماً لذلك الأمس تنمحي في ظله وطأة الحاضر المؤلمة,.
للصديقة ذكرى اعود الى التأكيد على خصوصية هذه القصة فمن حيث (الشكل) هي قصة شخصية لا قصة حدث وانها اعتمدت في اجلاء هذه الشخصية وصفاً خارجياً لم تتركها تقدم نفسها بنفسها وانها استخدمت لغة بسيطة تغري بالتصديق وانها استطاعت ان تصادر انفلات المشاعر حتى لا تضيع القصة في زحمة البلاغة.
ومن حيث الموضوع الموضوع حضور وغياب وشخصية لا عقدة حدث ووطأة لمشاعر الالم تغيبها قدرة على استعادة ما سلب من راحة وسعادة حين كان لها ذلك الزوج.
اذن هكذا القصة جيدة لارتباط شكلها الفني بموضوعها على نحو بسيط وجميل.
نشكر الصديقة ذكرى ونتمنى لها مزيداً من التوفيق.