Tuesday 4th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 18 محرم


قصة قصيرة
عندما يفيض الدمع

استرسل جرس الهاتف في الرنين, كان وقعه عليها كوقع الزلازل فقد أبحرت مراكبها الى ابعد من الافق في زيارة للمجهول, نهضت متثاقلة وبحركة اتوماتيكية ردت لتخرس ذلك النحيب الكئيب (ألو مين يتكلم) ,(دكتورة هدى حالة نزيف حادة بعد حادثة تصادم تحتاج لعملية أسرعي بالمجيء) (قادمة حالا جهزوا غرفة العمليات), هتفت بذلك وما هي الا دقائق حتى كانت تستعد لاجراء العملية، هي جرّاحة مشهورة يثق الناس في مقدرتها الفائقة واناملها الذهبية, جال خاطر سريع في مخيلتها طردته بسرعة رغم النشوة التي اصابتها للحظات, دلفت الى غرفة العمليات والمريض مسجى على السرير يحيطه البياض اللون الذي تعودت رؤياه، رمز الطهر والنقاء, هكذا كانت حياتها عندما كان هو بجانبها يشجعها ويغدق بحبه عليها قبل ان تنقلب الموازين ويختفي من حياتها كما تختفي النجوم استحياء لهيبة الشمس وسلطة شعاعها، لعله هو ايضا اختفى استحياء بعدما خان المواثيق وعهود الحب البائدة, تقدمت نحو السرير نظرت في وجه المريض قطبت جبينها, لعله ذلك الخاطر يالجرأته لقد عاد ثانية بجيوش اقوى ليستحل تفكيرها, حاولت ابعاده، خارت قواها فذلك الخاطر القادم تحت حصانة الواقع فهي لا تستطيع التعدي على حرمة الواقع لتحكم قبضتها على ذلك الخاطر وتخنقه انتقاما من ديكتاتوريته, شهقت في أعماقها (انه هو,, اجل هو,,) كادت تسقط من هول المفاجأة، تماسكت استجدت حزمها وصلابتها (ما الذي أتى بك ,, كم اود قتلك فقد شوهت معنى الحب الصادق الذي احترمه في نفسي، هدمت أسوار ثقتي فيها,, الآن وبكل وقاحة انت هنا) ابحرت بمركبها بعيدا عن هذا الهاجس وألقت المرساة بعيدا عند شرف المهنة وقبل كل ذلك انسانيتها وحبها لفعل الخير، تصببت عرقا, كاد قلبها ان يصيبه الاعياء، ان يتوقف عن العمل, مرت ساعات طويلة بل هي في حياتها لحظات حاسمة تستعيد فيها مجدها المسلوب, فكأنما وضعت اكليلا من الزهور في عنق حياة حبيبها الراحل بنجاح تلك العملية برحمته ومشيئته تعالى, بل ذلك اشبه ما يكون بمعركة خاضتها مع لاشيء بل مع ماضيها بكامل هندامه وعدته وعتاده، تابعت الحالة حتى اوصلتها بيديها للاستقرار وعبرت بها شارع الخطر وما هي الا ايام وتغادر من حيث اتت, دوت الجملة في اعماقها (من حيث أتت) وتساءلت (من أين أتت؟ أي محطة توقفت فيها بعد محطتها)؟ استثارت رياح هذا الهاجس ركام الذكريات في ذاكرتها التي اقفلت عليها بالاصفاد منعا لافلات اي شقي ليعبث في حاضرها.
نظرت الى المرآة تقبع هناك في زاوية من حجرة مكتبها، ركزت نظرها، انه احد اشقيائها يتمرد هناك على قانونها الصارم بحظر عدم التجول ونشوة الفرح والانتصار بادية على محياه وهو يحمل صورة لا تجهل ملامحها يهتز بها طربا, أعادت ودققت النظر، صورته امامها تراها بوضوح، انه هو نعم هو انه من عاشت معه احلام الطفولة والشباب, احبته بعمق اهدته احاسيسها الدافئة ومشاعرها الجياشة مغلفة بحبها الصادق مفعمة بمسك وجدانها، واعطته تصريحا يصرف حياتها كيفما يشاء, اندفعت كبركان ثائر في حبه, ارست دعائم حياتها المستقبلية على ارضه, احبها هو بجنون, هذا ما كانت تعتقده او هذا ما كان يجب ان يكون اختارها هي لتكمل معه المسير, بكت بحرقة، بكت بألم استجدت عطفه وحنانه وقبل كل ذلك حبه لها وضعفه امام دمعة تفر من مقلتيها (لا تسافر ارجوك لا احتمل فراقك كيف سأعيش بدونك)؟ وبعزة وكبرياء الرجل (لابد من السفر لاكمال دراستي، ان تخصصي لا يوجد هنا سأبحث عنه في بلاد الحضارة والانطلاق) انقبض قلبها تحجرت دموعها شعرت بغصة في حلقها فكلماته الاخيرة تنبىء بمستقبل مجهول (بلاد الحضارة والانطلاق) طالما خافت من هذه الكلمات كما خوفها ذاته من شبح الظلام, هو يراسلها كل اسبوع تحمل طيات رسائله كلمات الحب والغرام وشوقه الملتهب اليها, تكاد تحلق نشوة بما تقرأ, تكتب له كلمات ساخنة ملتهبة لعلها تضرم نار الشوق في قلبه فيعود اليها فقد افتقدت رسائله الاخيرة لشعاع الحب والمودة الذي ينير دربها في الحياة بعيدا عنه, لهيب حبه لها اخذت تخف ضراوته وتستحيل نارا باردة تتأجج ولكن دون حرارة تذكر, (حبيبتي الغالية,, إني اشتاق اليك احلم دوما بلقياك لنحلق سويا في سماء السعادة ولكن لعل الظروف تحول دون ذلك),, تجمد الدم في عروقها واضحى مكعبات ثلج تتدحرج في شرايينها فتجمد كل مشاعر ساخنة تحتضنها بين زوايا قلبها, (اجل انها ظروفي فستمتد دراستي لاربع سنوات قادمة اخشى ان اظلمك معي, اتمنى لك التوفيق في الايام القادمة من اعماق قلبي,, اخوك المخلص) ضحكت بهستريا (هه,, من اعماق قلبك,, خيانة منمقة ,, اعتذار وقح, امثلك يحمل قلبا بين حناياه، اشك في هذا,, أمثلك يستحق ان يلقب بانسان يحمل مشاعر واحاسيس؟ هذه كارثة) وأجهشت بالبكاء، نحيبها يكاد يفتك بها, وكأنما هوت من أعلى قمة الى هوة سحيقة تزمجر فيها الرياح وتولول حزنا, انتصبت شامخة كفكفت دموعها عقدت العزم على المضي نحو اهدافها في الحياة، الماضي لا يستحق وقفة اسى منها او حتى نظرة خاطفة، طالما سخر من حلمها، بأن تكون طبيبة لعله لا يثق في قدراتها وبلغة التحدي ولا غيرها قررت ان تصبح جراحة وتحقق حلمها لعلها تطبب جراحها التي اثخنت قلبها المكلوم , وتقوم اعوجاج ثقتها في نفسها التي انحنت في الأيام الشاردة, وها هي ذي تساعد من اغتال اغلى احلامها وبعد اربعة عشر خريفا هاهو تحت المشارط التي طالما سخر منها, انسلت بهدوء من خيالها ذلك بهتاف الممرضة (دكتورة هدى المريض في غرفة رقم 16 يريدك حالا) نهضت تجر خطاها التي ثقلت فجأة وكأنها جبال شامخة حتى وصلت الغرفة, اعتدل جالسا (اشكرك على حسن العناية) , (هذا واجبنا وما تمليه علينا انسانيتنا) كلمتها الاخيرة تحمل اكثر من معنى, (ستغادر المستشفى بعد يومين) واتجهت للباب,, (هدى عسى ألا اكون قد غادرت قلبك) نظرت اليه باشفاق,, (دكتورة هدى لو سمحت) وأغلقت الباب خلفها وفاضت عيناها بالدموع.
أشجان الليل
السليل

*****
** تبدو في كتابة الصديقة اشجان الليل لقصتها اثار واضحة لثقافة الافلام العربية,, فهذا الموقف كثيرا ما صورته بشكل او بآخر السينما العربية وما علينا من الموقف فطالما ان السينما قد انتبهت اليه لابد انه من المواقف الحياتية التي تتكرر هنا او هناك بشكل او بآخر ، لكن ما نعنيه من تأثيرات السينما على الكاتبة ما اخذته من اساليبها وطبيعتها لتكتب على غراره القصة, فتلك الافاضة في وصف علاقة البطلة السابقة بالمريض والتي استغرقت مساحة كبيرة من فضاء القصة كان بالإمكان ايجازها في جملة دالة وحسب، ان ذلك ليذكرنا بالمشاهد المقحمة في قصص الافلام والتي لا تخدم الحدث قدر ما تعيد صورا متعددة لجزء منه بصياغات مختلفة، واسلوب التشويق والمفاجآت هو ايضا من ادوات السينما, ليكن هذا الافتراض صحيحا او غير صحيح فالقصة بغض النظر عن استفادتها من اساليب السينما وفي ذاتها كقصة لا تخرج من كونها (حدوتة) تعتمد اسلوب الحكي الذي يتسلسل زمنيا وبالتالي يتمدد الزمن الفني للقصة ليصبح معادلا لكل السنوات المعاشة في الحياة للتجربة.
هذا عيب يتكرر كثيرا عند كتاب القصة القصيرة من الشباب لتصورهم ان القصة القصيرة مجرد حكاية، ولهذا قد يكون من الضروري ان نعيد التأكيد على ان الاهتمام والوعي بحبك الزمن الفني يتوقف عليه الجانب الاكبر من قيمتها الفنية ، فالقصة القصيرة فنيا ينبغي ان تكون لمحة خاطفة ومتوهجة تخرج من خلال هذه اللمحة كل الاحداث وان تعددت وشغلت ازمنة طويلة ذلك الزمن الفني يشبه لحظة (الثانية) التي يستغرقها الحلم ففي (ثانية الحلم) يكبر الصغير ويتزوج وينجب ويرى اولاده ويخوض معهم مواقف مشتركة مع ان الحلم حقيقة لم يشغل الا ثانية او جزءا من الثانية من نوم الحالم.
وحقيقة تمتلك اشجان الليل قدرة على تحليل المشاعر وتجيد التعبير عنها بلغة بسيطة ولكنها قادرة على الامساك بها وهذه ميزة ايجابية تؤكد ان بوسع صديقة الصفحة اشجان الليل ان تكون كاتبة قصصية جيدة ربما يساعدها على ذلك ان تكثر من قراءة مختلف المجموعات القصصية للكتاب المعروفين.


رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
حوار
منوعــات
القوى العاملة
عزيزتي
الرياضية
تغطيات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved