Tuesday 11th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 25 محرم


طارق العائد من أمريكا
قصة قصيرة

كنت في المطبخ وافقا بمحاذاة الفرن أعمل شايا كعادتي في هدوء عميق, واذا بالهاتف فجأة ينتفض ويصرخ فالتفت الى الخلف وتوجهت ببصري نحو الهاتف وكأني اذا نظرت اليه سأعرف من المتصل, تصرف غريب والأغرب أني كلما رن جرس الهاتف تذكرت الموت فكلاهما يطلباني ويطلبانك على حين غرة, والمصيبة أنك لا تعلم متى يأتيانك، بيد أن الفرق بين الموت والهاتف، هو ان الهاتف اذا طلبك تستطيع ألا تجيب أما اذا طلبك الموت فليس لك إلا ان تجيب.
وهذه المرونة في الإجابة على الهاتف جعلتني احار في أمري هل انتظر الشاي حتى يغلي وأهمل الهاتف حتى يتعب من نواحه وينام، أم اجيب عليه وأظل اتربص بالشاي من بعيد وأنا على أعصابي؟ حرت فعلا وهكذا حالي احار عند الاختيار واذا اخترت ندمت على الاختيار واذا لم اختر، فوّت الفرصة فزدت ندما.
وبسبب من حيرتي عطفت على هذا المتصل إذ انه مسكين فهو لا يدري ما يجري لا يعلم أني أضعه في مقارنة مع وريقات شاي, وقد يكون هذا المتصل شخصا ذا شأن كبير جدا في المجتمع (وهل الشخص ذو الشأن الكبير جدا سيهاتفني أنا؟) المهم مرة أخرى أن هذا المتصل قد يكون عظيم الشأن له صولات وجولات في المجتمع ومع ذلك لا يساوي عندي في تلك اللحظة وريقات شاي.
ولكن لحسن حظي أُلهمت بقرار سريع, فماذا قررت؟ قررت ألا اختار! وأن التزم بحل وسط والحل الوسط ليس اختيارا إنه تراجع عن اختيار وحلي هو أن أجيب على الهاتف لأعتذر عن المكالمة بأدب، ثم أعود بسرعة جنونية الى سيد شاي, ولذا أخذت طريقي بخفة نحو الهاتف المزعج قبل ان يدخل الهاتف في غيبوبة من شدة الصياح.
ولكن لماذا كان قراري السريع من حسن حظي؟ ذلك لأن المتصل كان,, إنسانا,, إنسانا غير عادي, نعم غير عادي, بالنسبة لي على الأقل، ولماذا كان إنسانا غير عادي؟ لأن ظهوره كان غير متوقع, ومن تراه كان او يكون؟ إنه ذلك العائد من بلاد العم سام, عاد ولم يتسمم عاد فجأة -بالنسبة لي كما غاب فجاة بالنسبة لكثيرين- وبين الغيبة الرمادية (من غاب وليس اغتاب) والعودة البيضاء ما يزيد على ست سنوات، أي أربعة وعشرين موسما بقيظها وصقيعها بخضرائها وصفرائها ومن هو هذا العائد من أمريكا؟ إنه ببساطة الصديق القديم الجديد طارق.
عندما التقطت السماعة داعب أذني صوت رخيم وهادىء أحمد موجود؟ أنا أحمد, هلا أبو حميد! هلا,, مين؟ من أنت؟ اردت أن أعرف من المتصل بسرعة، لا أحب الغموض، أخشى منه، ولذلك أسعى معاندا لكشف ألغازه، وتتبع دهاليزه، وهذا ما حبب استاذ الرياضيات فيّ لاني لما رأيت أن أسئلة الكتاب كانت غامضة شأن كل الأسئلة في الدنيا، انتابني خوف منها فقمت بحلها كلها ولم أدع منها بابا إلا وفتحت مغالقه بل اني كسرت بعضها وكل ذلك لكي أعيد الطمأنينة الى نفسي,, ياسلام!
المهم ان طارق لم يكشف عن نفسه في بادىء الأمر وظل يراوغ والشاي من بعيد يراوغ، طارق لا يريد ان يميط اللثام عن نفسه، والشاي الذي أوشك على الثورة كالبركان لا يريد أن يهدأ ومع ذلك كنت مهذبا مع طارق على عكس ما يكون عليه المتوجسون وبقيت لا أعرف من المتصل الى ان بدأ يرمي علي بإشارات تقريبية, فاستطعت أن أزحف رويداً رويداً نحو كشف كنهه، كالثعبان المتربص بفريسته، ثم صرخت فجأة طارق!! وطرق صوتي أذنه طرقا شديدا.
وكأن طارق ليس اسم إنسان وإنما عنوان رواية عتيقة ملفوفة بقطعة حرير صيني داخل خزينة صغيرة مدفونة في الذاكرة، وكادت أن تُنسى (تعبير جميل!) رواية ذات أحداث ومعارك وأبطال,, أبطال من أيام مدرسة منارات الرياض كان في الرواية أعداء لكن حتما طارق ليس أحدهم قلت له: عدتَ ياطارق؟! وفي نفسي أقول: بأي حال عدت ياطارق؟ قال لي: نعم إني أكلمك من الرياض، وبعد حديث ممتد دعاني الى وليمة بمناسبة هذه العودة البيضاء عودة بشهادة جامعية في الحاسب الآلي.
حاسب آلي؟ ومن أمريكا؟ ومن؟ طارق؟ ذلك الولد الضخم الذي كان يخيف المدرسين والطلاب سواء بسواء؟ حقا كان يبدو مخيفا لكن حقيقة لم يكن كذلك البتة, كان وما يزال يحمل في داخله ينبوعا من العاطفة (عندما رأيته لأول مرة بعد غياب ست سنوات، عرفته بسرعة فائقة، لم يتغير أبدا ما يزال ذلك الولد الضخم, كنت أخشى أن يكون قد نقص وزنه فتختلف صورته عن صورته في تلك الرواية الملفوفة بالحرير الصيني في ذاكرتي) نعم إن من حق طارق ان يقيم وليمة، بل ولائم لهذه المناسبة ومن حقنا عليه ان يتركنا نعبر عن فرحتنا به.
انتهت المكالمة، ووضعت السماعة على جنب الهاتف الأيمن, ثم ما لبث ان داخلني شعور غريب، سعادة بعودة طارق، يبطنها نواة حزن, وذلك لأن ذكرياتي مع طارق في المدرسة لن تعود كما عاد هو إنها ماض، وستظل كذلك وبينما كنت أفكر في الماضي صفعني سؤال مخيف: هل أنا أحب طارق؟ أم أني أحب الماضي متجسداً في طارق؟
وأثناء تساؤلي ذاك، احسست بأن شيئا آخر كان يجب ان افكر به في تلك اللحظة رفعت رأسي على عجل، ورميت بنظرة حادة على الشاي! لقد نسيت الشاي! ويا لهذا الشاي الحاقد لقد ارتكب كارثة في غيابي!
أحمد عبدالعزيز أبا الخيل
***
** تمتعنا قصة طارق العائد من أمريكا بالتقاطها لكثير من التفاصيل الصغيرة التي ترصد حالة نفسية حقيقية لا ينتبه اليها احد غالبا,, مثل ذلك الموقف اثناء اعداد الشاي مع رنين الهاتف الذي ربما ليس هناك من لم يمر به وما يصاحبه من حيرة وتردد لهما نفس التبرير الذي التقطه كاتب القصة بل انه من هذه المواقف الصغيرة ينسج قصته كاملة التي خلت من حضور ماثل لاي شخصية اخرى بخلاف الراوي حتى ان بطل القصة المفترض طارق يأتينا عبر تمثل لصوت عبر الهاتف، وما نعرفه عن اخلاقه وسلوكه يأتينا من خلال تعليق الراوية,, مثلما تمتعنا ايضا بالتقاطاتها ذات البعد الفلسفي البسيط كتساؤل الراوي أهو يحب طارق حقيقة ام يحب الماضي الذي تمثل في هذا الصديق الذي أصبح بكامله مجرد ماضٍ يشك ان يصحو مرة اخرى حين يلتقيه بعد سنوات الغياب, ثم هي تمتعنا ايضا بالتكنيك الذي يستخدمه الكاتب والذي يبدو جديدا مثل جدة الموضوع.
على أننا في لحظة قد نكتشف انه ليس ثمة حدث محدد ينتسب الى بطل القصة طارق وبالتالي يكون البطل غائبا بدرجة، ويكون الحدث غائبا بكليته، إلا اننا بتأمل اضافي نكتشف للقصة حدثها الأساسي، هو ليس واقعة اعداد الشاي وتصادف صراخ الهاتف المفاجىء الشبيه بنداء الموت في ضميره، ولكنه ذلك التحول في الحالة النفسية وفي المواقف وعلى مهل داخل الراوية نفسه، الامر الذي ينزع بطولة القصة عن بطلها المدّعى والذي حملت اسمه في عنوانها تأكيدا على وجوده لتنسبه الى الراوية نفسه الذي اصبح هو البطل الحقيقي للقصة.
هذا كله جميل في القصة وإنما على جانب آخر تصدمنا بعض الملاحظات التي تنال من سلاسة القصة وعذوبتها فنيا، من هذه الملاحظات: أسلوب السؤال والجواب في تقديم المعلومة الجديدة: تعرفون من كان الطالب؟ لقد كان طارق الذي عاد من بلاد العم سام دون ان يتسمم وقد انتشرت مثل هذه الأسئلة في قصة الصديق احمد ابا الخيل خاصة في الجزء الأول منها الذي يزيد على ثلثيها، فهذه الأسئلة اشارات نستفيق معها دائما كلما أخذنا القص على وجود الكاتب فكلما استطاع الراوي ان يستحوذ علينا فنصدقه أيقظنا الكاتب عبر هذه الأسئلة على انتباه بأن الشخصية الفنية للراوي ليست الا الشخصية الحقيقية للكاتب وهذا عيب فني أكدت عليه بعض المعلومات التي حرص الكاتب على ان يطلعنا عليها غير مبالٍ بسياق الزمن الفني للقصة فها هو يتعجل ان ينقل الينا مشاعره بعد ان التقى العائد من أمريكا وهو فنيا كان ما يزال في سياق المكالمة التي للتو يعرف منها ان صديقه طارق قد عاد، ولهذا وضعنا قوسين يحدان هذه العبارة القافزة من زمن لاحق الى زمن القصة ولاشك ان صديق الصفحة سوف يلحظ ذلك ومع كل ذلك فان صديق الصفحة احمد ابا الخيل يملك موهبة حقيقية في كتابة القصة، ولسبب ما نود ان ننبهه الى الاحتراس من اللجوء الى السخرية او الاستخفاف او التعليق- حتى وان كان طريفا- على بعض المواقف فقد يتملكه هذا النزوع فيفسد في قصصه قيمتها الفنية، وان اراد مثالا ضاربا في التمادي، فهذه الجملة تعبير جميل والتي جاءت بعد صورة بالغة الجمال لولا هذا التعبير الذي لا يشعرنا بوجود الكاتب فحسب ولكنه يطفىء في العبارة ألقها.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
القمة التشاورية
منوعــات
ندوة المكتبات الوقفية
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
استطلاع
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved