Tuesday 11th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 25 محرم


قصة قصيرة
صبي القرية

حينما كان (رشدان) صبيا صغيرا لم يناهز الحلم بعد، كان يجوب طرقات الحي بالقرية, حافي القدمين وقت الظهيرة, ممتطيا كل حين ظهر حماره الذي لم يكن سوى جريدة النخل, وقد وصل به الامر الى ركلها بقدميه وضربها بالعصا, متوهما انها لن تتحرك الا بذلك.
وكم تعجب كبار السن من شيوخ القرية, حينما يقف عليهم (رشدان) في منتداهم تحت ظل ذلك الجدار, وصوته يقرع اسماعهم والغبار قد علاه وهو يمتطي (حمار الوهم),, وحينما يمكرون به فانهم يفتعلون عندها شيئا من العطف والرحمة ليرفق بذلك (الحمار) المسكين,, لكنه ما أن يرى ذلك منهم حتى ينهال مجددا بالضرب المبرح والركل على حماره لتتعالى عندها ضحكاتهم,, ثم تطيش ب(رشدان) قدماه وهو يغادر ذلك المعترك, ظنا منه انه قد فعل الافاعيل وجاء بالاعاجيب مما لايقدر عليه اولئك المسنين.
وتركض الدنيا بأهلها كما ركض حمار (رشدان),, فاذا به يجلس هناك مع المسنين من اقرانه ورفاق العمر, ينادي عليه من بينهم ب (ابي عثمان) فقد كبر (صبي القرية رشدان) في ظل الايام وتزوج وكان له اولاد واحفاد, وراح (عثمان) الصغير يذكره بتك السنين من عمره ونشاطه آنذاك وقوة جلده, وهو يمر عليه هناك في منتدى القرية, ممتطيا (جريدة النخل),.
وحينما يخلو (ابو عثمان) بنفسه في المنتدى وتحت ظل ذلك الجدار,, تدور عندها الافكار في ذهنه وقد علا الشيب رأسه, فتعود به الذكرى الى تلك النافذة الصغيرة التي كان وهو صغير يقف عندها مليا ليشرف منها على صحن الدار فيرى اهل الدار متحلقين حول رب الاسرة يتبادلون احاديث الود,, وحينما يراه رب الأسرة واقفا هناك يسرع ببعث بعض الحلوى له مع اترابه من صبية الدار الصغار الذين كانوا ساعتها يبادلونه الحديث والضحك, وربما ناوله الحلوى بيده وتحدث اليه قليلا وداعبه وهو على ظهر (حماره) لم يترجل منه,, وحينها كان (رشدان) بعدها يتابع سيره, وهو يتمنى على صغره أن يأتي ذلك اليوم الذي يكون له فيه دار يأوي اليها, وفيها اسرة تنتظر قدومه,, فكان له ما اراد في ظل تلاحق السنين وتعاقب الايام.
فذاك (عثمان) الصغير وقد علاه التراب وهو يركض على (حماره) بأقصى الطريق يكاد يختفي خلف بعض نواحيه.
ومع حلول مغيب شمس النهار, يقدم (عثمان) على والده ليقله الى الدار على ظهر حماره, ف (حمار الوهم) ذلك قد تعلم منه (عثمان) السعي في قضاء حوائج الدار واهل الدار, ومزايا اخرى لا يزال جيرانه يتمتعون بها,, ف (حمار الوهم) في تلك القرية لم يكن مجرد لعبة يلهو بها (صبي القرية)، بل كان المعنى هناك اكبر من ذلك.
ويتواضع ساعتها (ابو عثمان) فيجاري (عثمان) الصغير فيما اراد موهما اياه بأنه سيركب خلفه على ظهر حماره الذي يمتطيه, ثم يسير الى جانبه, وقد اظهر (عثمان) الصغير الرفق بوالده , في موقف يستدر العطف والعبرات.
وما ان يصلا الدار حتى يجد (ابو عثمان) بقية صغار الدار على الباب في انتظاره ليشاركوا (عثمان) صخبه حول حماره, الذي لا تقر عينه ما لم يدخله الدار خوفا عليه من الضياع,, وفي الدار وقد اصبح ذلك (الحمار) عزيزا على الجميع فان ام (عثمان) تأبى ان تلقي به مع حطب النار اسفل القدر وهي تطهو الطعام ,, لمكانته عند ابنها الصغير (عثمان).
حسن بن سعيد الدوسري
***
** يجسد حسن الدوسري على التقاطه لهذا الموضوع العذب في قصته، ويحكي عن ذلك العالم الوهمي الذي تنسجه براءة الطفولة وتحيله واقعا حقيقيا ومعيشا لا يسمح الأطفال بالتشكيك فيه أو الاعتداء عليه حد أنهم يستطيعون اجتذاب الكبار بإغراء محبب يأتيهم من ذلك العالم المسحور الى المشاركة فيه,, يحكي حسن عن ذلك العالم بحميمية كأنه يتحرك داخله ويشارك فيه، والحق أنه قد أجاد في ذلك حتى كدنا أن ننسى معه أننا ازاء قصة لنعايش وهم الطفولة البريء وقد اصبحنا متورطين في تفاصيله.
لا يلتقط حركة الطفل وهو يضرب حماره الجريد أو تناوله الحلوى وهو ممتطيا اياه، أو إصراره على أن يسهم بامكانية يمتلكها ذلك الحمار الجريد في قضاء ما تحتاجه الأسرة والجيران، أو ردود الأفعال لدى الشيوخ ممازحين أحيانا ومشاركين في اللعبة أحيانا أخرى,, لا يلتقط هذا كله إلا فنان حقيقي.
ولأسف شديد ان صديق الصفحة حسن الدوسري لم يكن موفقا في حبك الزمن الفني للقصة ولهذا نراه يقفز من رشدان طفلا الى رشدان عجوزا وقد مرت الأيام، هذا زمن قد يصلح بالكاد لرواية ولكنه لا يناسب قصة قصيرة.
ربما كان صديق الصفحة حسن الدوسري يريد من ذلك ان ينبهنا الى دورة تتوالى: صغار يعيشون وهم البراءة وحين يكبرون يأخذهم الحنين الى المشاركة في ذلك الوهم عندما يرون صغارا جاءوا بعدهم بسنوات طويلة يمارسون ما كانوا هم أنفسهم يمارسونه حين كانوا صغارا، ولهذا قدم لنا ثلاثة أجيال,, الشيوخ الذين رأوا رشدان طفلا، ورشدان عجوزا وهو يرى الجيل الثالث متمثلا في أحد أطفاله عثمان ، لكن ذلك لم يكن يقتضي منه هذه القفزة الزمنية الهائلة,, وقد كان بوسعه مثلا ان يبدأ من لهو عثمان ثم يستعيد ذكريات طفولته رغم هذا كله فالقصة حقيقة شديدة الرقة وبالغة الجمال لعلها من أفضل ما كتب
حسن بن سعيد الدوسري.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
القمة التشاورية
منوعــات
ندوة المكتبات الوقفية
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
استطلاع
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved