Tuesday 11th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 25 محرم


الوقف والبناء الثقافي والحضاري للأمة
د, محمد سالم بن شديد العوفي *

كانت العرب في جاهليتها أمة أمية، لا تعرف القراءة والكتابة إلا نزراً يسيراً، فجاء الإسلام، فرفع من قدر العلم والعلماء، قال تعالى: }ن والقلم وما يسطرون{ (1)، وقال تعالى: }والطور وكتاب مسطور{ (2)، وحرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تعليم أصحابه الكتابة، وسلك في ذلك وسائل متعددة، حتى إنه اشترط لفكاك أسير بدر من المشركين تعليم عشرة من صبيان المدينة؛ فراجت الكتابة، واختار - صلى الله عليه وسلم - ممن مهر فيها من الصحابة كتاباً للوحي، كما اختار منهم من يكتب بين الناس مصالحهم.
ومع رواج الكتابة ظهر التأليف، ولم ينتصف القرن الأول الهجري، إلا وقد ظهر العديد من هذه التآليف, (3).
وفي القرن الثاني الهجري ظهر الكثير من الكتب في شتى الفنون، حتى قيل: إن الكتب التي ألفها أبو عمر بن العلاء (70 - 154ه) ملأت بيتاً حتى سقفه، يقول الجاحظ: ثم إنه تقرأ (أي ننسك) فأحرقها كلها، فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه, (4).
وكان تدوين الحديث، ثم السير والمغازي في مقدمة اهتمام علماء القرن الثاني الهجري، لعلاقتها بخدمة النص القرآني، وتقريب فهمه إلى أذهان الناس، ثم تتابع التأليف في الفنون المختلفة، وبخاصة اللغة والتاريخ، كما عرفت بدايات الترجمة في هذا القرن، فقد أخرج عمر بن عبدالعزيز رحمه الله كتاب أهرن بن أعين القس في الطب، والذي ترجم في عهد مروان بن الحكم، للناس للانتفاع به, (5).
وفي القرنين: الثالث والرابع الهجريين بلغت حركة التأليف حداً بعيداً من السعة والانتشار، وبخاصة مع ظهور صناعة الورق في عهد هارون الرشيد (70 - 93ه) وظهور طبقة من الناس، عرفوا بالوراقين، كانوا يقومون بعملية الاستنساخ، والتصحيح، والتجليد، وسائر الأمور الكتبية والدواوين (6)، وقد خصص في بغداد سوق كامل لهؤلاء الوراقين فيه أكثر من مائة حانوت (7)، فظهرت التآليف الكثيرة التي تقع في مجلدات ضخمة، مثل تفسير الطبري، وتاريخه، وتاريخ المسعودي الذي كان يقع في ثلاثين مجلداً، وكتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني، وكتاب غريب الحديث لأبي بكر بن الأنباري الذي يقع في خمسة وأربعين ألف ورقة، وغيرها من الكتب (8).
وصاحب هذا الشغف بالكتابة والتأليف شغف بالقراءة، حتى يقال: إن شخصاً مثل الجاحظ كان يكتري دكاكين الوراقين؛ يقرأ ما فيها من كتب، حتى أنه ذهب ضحية هذه الهواية عندما سقطت عليه الكتب، ولم يستطع القيام من تحتها لمرضه (9).
كما أن هناك شغفاً من نوع آخر، هو شغف اقتناء الكتب، وبذل الأموال الطائلة في سبيل ذلك، حتى إن أبا جعفر المديني المتوفى سنة 272ه، أنفق على ما جمعه من كتب حوالي ثلاثمائة ألف درهم، وجاء في كتاب صلة تاريخ الطبري أن نصر الحاجب المتوفى سنة 312ه، كان قد اشتهى جمع العلم وكتب الحديث، وخلف كتباً بأكثر من ألفي دينار (10) وكان عند اسماعيل بن عباد الوزير الصاحب، المعروف بالصاحب ابن عباد المتوفى سنة 385ه، من الكتب ما يحمل على أربعمائة جمل، أو أكثر، بل إن فهرس تلك المكتبة يقع في عشر مجلدات (11).
كان الخلفاء يتنافسون في اقتناء أندر وأنفس الكتب، وكذلك الأمراء، والوزراء، وكبار رجال الدولة، فعرفت المكتبات الخاصة؛ ففي بغداد انشأ هارون الرشيد بيت الحكمة، أو خزانة الحكمة، ولم تكن خزانة للكتب، بل مركز إشعاع ثقافي وحضاري يقصده العلماء والباحثون (12).
وفي مصر انشأ العزيز الفاطمي (365 - 386ه)، مكتبة كبيرة، بمساعدة وزيره يعقوب بن كلس، قيل: إن فيها ألفين وأربعمائة نسخة من القرآن الكريم، وعشرين نسخة من كتاب تاريخ الطبري، منها نسخة بخطه، ومائة نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد، وبلغ مجموع خزائن هذه المكتبة أربعين خزانة (13).
وفي الأندلس بلغ عدد فهارس خزائن المكتبة التي أنشأها الحكم بن المستنصر (250 - 366ه)، اربعة وأربعين فهرسة، كل فهرسة عشرون ورقة، كما بلغ عدد مجلدات هذه المكتبة أربعمائة ألف مجلد (14).
وكان العديد من المساجد في العواصم الإسلامية (بغداد، ودمشق، والقاهرة، وصنعاء) وغيرها يزخر بالكثير من الكتب والمؤلفات الدينية والعلمية والأدبية.
وكانت تلك المكتبات معيناً لا ينضب لنشر العلم والمعرفة، والمساهمة في بناء حضارة الأمة الإسلامية.
ومما ساهم في نمو تلك المكتبات، وازدهارها ما يقوم به بعض المهتمين بالكتب من وقفها وإدخالها في تلك المكتبات، ووقفها على طلاب العلم، أو تخصيص العقارات والثمار للإنفاق على المكتبات وتطويرها (15)، مما يدعو إلى القول، بأن الوقف ساهم مساهمة فاعلة في البناء الثقافي والحضاري للأمة الإسلامية.
ولم يختص هذا النوع من الوقف بطبقة دون أخرى، بل شارك فيه السلاطين، والملوك، والأمراء، والوزراء، ورجال الدولة، ورجال العلم، وعامة الناس (16)، في فترة كان المحسن دقيقاً وواعياً بأهمية المكتبة والكتاب في بناء الأمة والوجوب بها إلى مدارج الرقي والتقدم، لكن هذا المحسن بدأ يدب فيه الوهن والضعف في العصور اللاحقة، إضافة إلى ما تعرض له العديد من المكتبات الوقفية من إهمال وضياع ونهب وسلب، الأمر الذي يدعو إلى إحيائه من جديد، ولعل هذه الندوة التي ترعاها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في رحاب مكتبة تضم أندر المكتبات الوقفية في العالم، وأنفس المخطوطات، وتحمل اسم المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - الذي اهتم بالمكتبة والكتاب اهتماماً كبيراً، لعل هذه الندوة تساهم في إحياء ذلك الشعور، وأهمية الوقف في بناء المكتبة، ونشر العلم والمعرفة.
(1) القلم (1)
(2) الطور 1،2
(3) عبدالستار الحلوجي: لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات، ط2، 1979م، دار الثقافة للطباعة والنشر بالقاهرة، ص34.
(4) الجاحظ: البيان والتبيين، ط4، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ج1 ص321
(5) الحلوجي: مرجع سابق، ص36.
(6) ابن خلدون: المقدمة، تحقيق علي عبدالواحد وافي، ط3، دار نهضة مصر للطبع والنشر بالقاهرة، ج2 ص974.
(7) الحلوجي: مرجع سابق، ص38,
(8) المرجع نفس، ص39 - 40.
(9) المرجع نفسه، ص40.
(10) غريب بن سعيد القرطبي: صلة تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط دار المعارف بالقاهرة، ص105.
(11) ياقوت الحموي: معجم الأدباء، طبعة دار إحياء التراث العربي ببيرون، ج1 ص259.
(12) الحلوجي: مرجع سابق، 49.
(13) المقريزي: كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، طبعة دار صادر ببيرون، ج1 ص408 - 409.
(14) المقري التلمساني: نفع الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، ط دار الكتاب العربي ببيرون، ج1 ص371.
(15) الحلوجي: مرجع سابق, (16) يحيى ساعاتي: الوقف دينية المكتبة العربية، ط1، 1408ه، 1988م، ص16.
الأمين العام لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة رئيس اللجنة التحضيرية للندوة *

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
القمة التشاورية
منوعــات
ندوة المكتبات الوقفية
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
استطلاع
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved