مع التربويين التربية الخلقية د,عبد الحليم العبد اللطيف |
من أهم جوانب التربية لدى علماء التربية من المسلمين الجانب النفسي أو الخلقي فقد عظم اهتمامهم به وتأكيدهم عليه واعتبروه المحور الأول للضبط الإجتماعي ويؤكدون بما لايقبل الجدل أو الشك أن أزمة العالم جميعا وبدون استثناء إنما هي أزمة نفوس وضمائر وإفلاس ديني وخواء روحي إلا من عصمه الله وتولاه, إن أعظم سلاح ينبغي ان يتزود به المسلم وهو يواجه هذه الحياة هو الأخلاق، وقوة الإرادة وصلابة الانضباط وحسن التوجه وسلامة القصد، وصحة الذوق، وهي معان أصيلة وكريمة اهتمت بها التربية الإسلامية الماجدة القاصدة كثيرا ودعمتها بمددٍ وعدد من التوجيه لاينضب، وهذا التألق والانضباط الأخلاقي في التربية الإسلامية ينبغي أن يكون سلاح المسلم الذي تربى على مائدة القرآن في كل الأحوال، فالنفس في ظل الإسلام لم تعد تتصرف حسب رغباتها واهوائها وشهواتها المذلة، وانما تحكمها الآداب الشرعية والأعراف الفاضلة المرعية، والإسلام يعتبر الأخلاق الفاضلة من شعب الإيمان، وفي الحديث أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا، والخلق والأخلاق كلمة ذات دلالة عميقة فهي بعيدة المدى في مدلولها، إن الشهادة الكبرى والتكريم العظيم لمعلم الإنسانيةواستاذ الحياة محمد صلى الله عليه وسلم ماوصفه به ربه بقوله وإنك لعلى خلق عظيم حيث يعجز كل بليغ وكل قلم وكل تصور عن وصف قيمة ومعنى هذه الكلمة العظيمة، ولقد كان واقع سيرته صلى الله عليه وسلم أعظم شهادة من كل ماروي عنه، ولكن هذه الكلمة أعظم دلالة وأكبر عمقاً من كل شيء آخر مما وصفه به الواصفون، والله أعلم حيث يجعل رسالته، إن هذه الرسالة الكريمة فيها من الصفاء والكمال والجمال والعظمة والشموخ والشمول بحيث لايحملها إلا من وصفه ربه بالخلق العظيم ، في تماسك وتوازن واعتدال, يبلغ قمة الكمال الإنساني، ان لهذه اللفتة دلالتها العميقة في تمجيد العنصر الاخلاقي في ميزان الله، وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية والناظر المنصف يجد بوضوح في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم العنصر الأخلاقي بارزاً وأصيلاً فيها بدءاً من عقيدة التوحيد والتجريد لله رب العالمين ثم تامل الطهارة والنظافة والامانة، والصدق والعدل والرحمة والحشمة والبر وحفظ الوجود والعقود والمواثيق، ومطابقة القول للعمل، والنهي عن الإفك والإثم والجور والظلم والخداع والغش والضرر، واكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الحرمات والاعراض، إن التشريعات العظيمة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كلها تحمي وتنمي الأخلاق الفاضلة والصفات والسمات النبيلة، والتربويون المعاصرون، يرون ان هدف التربية هو التشكيل الأيديولوجي لأبناء المجتمع، ومعروف تربويا ان هذا التشكيل عملية مستمرة مدى الحياة، والنمو في نظر جون ديوي والمتأثرين به يتم عن طريق الخبرة المكتسبة من مواقف الحياة المختلفة ليتحقق بذلك حسن التكيف بين الفرد وبيئته.
واذا كانت التربية لدى هؤلاء تعني التشكيل (الأيدلوجي) لأبناء المجتمع اي تنميتهم على نحو معين يشمل كل نواحي الحياة، جسدية كانت أم عاطفية أم اجتماعية أم فكرية، أم أخلاقية أم روحية فإنها عملية لابد ان تشمل الحياة كلها على حد تعبير، ديوي، (وكاندل) والتربية على حد تعبير (جراتان) من أوسع الميادين، فهي من المهد إلى اللحد، وكذا هي عند علماء التربية من المسلمين، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فيلخص إذاً رسالته السامية في هذا الهدف النبيل وتقوم سيرته الشخصية وصفته الذاتية مثالاً حيا ونقياً وصورة حية قال عنها ربه وانك لعلى خلق عظيم هذه الأخلاقيات العالية، هذه الصفات الفذة في سيرته وتربيته صلى الله عليه وسلم لم تنبع من البيئة من حوله، ولا من اعتبارات أرضية اخرى إنما تستمد من منهجه وجوهر رسالته، وطلب من البشر تحقيقا في حدود القدرة والطاقة، كي يحقق العابد ذاته ويؤكد إنسانيته وآدميته، كي يتهيأ لمقعد صدق عند مليك مقتدر والأخلاق الإسلامية المنبثقة من التربية الصحيحةليست فضائل مفردة مجردة، صدق وامانة وعدل ورحمة وبر وإحسان إنما هي منهج شامل متكامل حصين متين تتعاون فيه التربية الصحيحة مع الشريعة الكريمة التي هي اسمى الفضائل وجذرها العميق وتقوم التربية هذه على فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعاً وتنتهي كلها إلى الله، وقد تمثلت هذه الأخلاقية الاسلامية العالية في المدرسة المحمدية الأولى وتمثلت في ثناء الله عليهم في العديد من الآيات، كما تمثلت في الثناء العظيم بقوله وانك لعلى لخلق عظيم إذا ليس القصد من الخلق مجرد لين الجانب وحسن العشرة كما يفهم البعض وان كان هذا حسناً ومطلوباً وخالق الناس بخلق حسن كما انه ليس الخلق مقصوراً على التعفف عن الزنا والخمر، وإن كان هذا مطلوباً قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم,, الآية بل يشمل هذا وذاك بل يشمل ماهو أعم وأعمق من جوانب الحياة، من ضبط النفس والصدق والإحسان في العمل والى الناس، والأمانة، والديانة، والصيانة، والشجاعة في الرأي، والعدل في الحكم، والصلابة في دين الله، والعزم والحزم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحرص على النظافة واحترام المال العام، واحترام النظام، والطاعة في غير معصية، واللين في أيدي الإخوان، وغير ذلك من الفضائل الخلقية المرعية واحترام مشاعر المسلمين من الأصول المرعية في هذا المقام، فأين هذا مما تفشى في مجتمعات المسلمين من التعامل بالصلف والجلف والغش والخداع والتغرير، والسعي الى البذاء والأذاء، وجرح مشاعر الزملاء وحتى النبلاء والرفقاء، والسعي بينهم بالوشايات والجراحات والانحراف وراء التظاهر والتفاخر والهمز واللمز والسب والثلب مما يتنافى مع أخلاق المسلمين وتربية سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وما أتى به كتاب رب العالمين, واذا كانت وظيفة المدرسة بناء الاخلاق، فإن الطريق الى ذلك سهل وميسور لمن وفقه الله حيث المدرسة تتلقى التلاميذ وهم مزودون بغرائز مختلفة وميول متعددة فتقوم بتويجه هذه الغرائز وتعجيلها نحو الخير والفضيلة والامتاع والإبداع فغريزة حب الاستطلاع (البذيئة الحقيرة احيانأً) تتولاها المدرسة الحديثة بالتدريج فتحولها الى حب الكشف والاختراع، وغريزة حب الشهوة والظهور وتحقيق الذات (وهي الشهوة الخفية) تحولها المدرسة النابهة الى الخدمة العامة والنفع المتعدد، تنمي كلاً منها إلى مايناسبه واروع مثال ماتم في جيل الصحابة الكرام، حيث حولت التربية الاسلامية قوماً كباراً في السن من أخلاق جاهلية بدائية إلى اخلاق عظيمة بناءة، علماً ان التأثير في مثل هؤلاء الكبار أمراً ليس سهلاً مثل قيادة الطلاب والشباب وهم في مدرستهم وفي دور تشكيلهم، والمدارس الإسلامية تقوم على التنمية الخلقية للتلاميذ بالتدريج بما لديها من إمكانات، واهم ذلك المدير والوكيل والمدرس وغيرهم ممن يعنون بتربية الطلاب، ولابد من شرط الكفاءة فيهم ففاقد الشيء لايعطيه، كما لابدمن الولاء للمهنة والتهيئة الكاملة لها قبل الشروع فيها ويكون ذلك بأفضل الطرق التربوية المسلم بها إن من اسمى نواحي النمو الخلقي في المدرسة تكوين المستويات الخلقية الذوقية كتقدير العلم واحترام المعلم وحب المدرسة والنظام والمحافظة على مشاعر الناس، وأحاسيسهم وتكوين العادات الطيبة كحب العمل والإنتاج وتقدير العاملين ونبذ المهملين والعصاة واعداء الدين والفضيلة والحب في الله والبغض في الله واحترام انظمة المجتمع ومصالح الأمة، والمدرسة التي تريدها التربية المجيدة - تهتم كثيرا بهذا الجانب وتوليه جل عنايتها وكبير اهتمامها، والمدرسة الجادة تعد الطلاب تماماً للتكيف مع حياة المدرسة ليصبحوا بعد ذلك قادرين على التكيف مع الناس في الحياة العامة خارج نطاق المدرسة، إن كل تصرف غير حميد في الحياة العامة من قبل الشباب والطلاب والكبار ايضا سببه ولاشك في الأهم الأغلب القصور التربوي، واذا كانت التربية في المدارس جادة وقاصدة حصل خير كثير ودفع الله بها أشياء كثيرة غير حميدة، إذاً فواجب المربين كبير واثرهم في طلابهم بين وواضح خاصة من كانت لديه المقدرة والمعرفة والدراية بالطرق التربوية الصحيحة، والتربوي المسلم يعد الناشئ للحياة والممات، يعده انسانا سويا في جميع الاحوال والظروف وهذا هو الفرق بين التربية الاسلامية وغيرها من الطرق التربوية الأخرى، فهي -اعني تربية غير المسلمين- محدودة، الزمان والمكان، انني هنا اركز على التربية الاسلامية المجيدة ذات الاصول والجذور الثابتة التي أتت لخير بني الإنسان، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وما ارسالناك إلا رحمة للعالمين .
والله الهادي والمعين.
|
|
|