Tuesday 25th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 10 صفر


البقع الزرقاء
قصة قصيرة

نظرت حولها بحذر ثم فتحت يدها المتكورة الممسكة بالمنديل الابيض الملطخ بالحبر الازرق برفق امتزج بالخوف فتحته ببطء وبداخلها يتردد ابتهال صامت بألا يراها احد ممن حولها وضعت القلم من يدها وامسكت بالمنديل بحنان تفتحه,, تنظر حولها بحذر ثم تبسط يدها على المنديل وتسحبها للاسفل وكأنها تقوم بكيه وهي منزعجة من تعدد ثنياته لدرجة استحال معها عودته لما كان رغم حرصها في طيه برفق لكن يدها المتوترة والخائفة كانت تتشبث به طوال الوقت,, تضمه بقوة,, تتعلق به لينقذها من الفشل وتعلق عليه آمالها العريضة,, حاولت ان تقرأ بعض الكلمات التي اختفت معالمها وتحولت لاطلال من اثر تشبثها به بيدها المتعرقة فقد اختلطت الكلمات وتداخلت ببعض في عراك عنيف احالها لبقع زرقاء غير واضحة المعالم,, فكرت ان تجففه لكنه سيطير مع اول نفخة هواء وستطير معه امانيها في النجاح الى ديار الحرمان من هذه المادة,, افاقت من انزعاجها على صوت حذاء احدى المراقبات الضيق وهي تمشط المنطقة باخلاص,, وفجأة توقف صوته خلفها تماما فامسكت بالمنديل تخفيه تسجنه داخل يدها المرتجفة,, تحدثت المراقبة مع الطالبة القابعة خلفها,, اعادت ظهرها للوراء بقوة حتى اوقفها ظهر المقعد عن التراجع,, احست باذنيها تتصبان كطبق فضائي وبعروقها تتوقف عن استقبال وضخ الدم وهي تحاول التقاط الكلمات مما يدور خلفها من حديث خافت لكنها لم تظفر سوى بضياع المزيد من الوقت,, نظرت لساعة يدها وحاولت ان تقرأ الاسئلة لكن قلقها المتزايد وتوترها لا يسمحان لها باكمال قراءة السؤال ويمنعانها من التركيز بل وحتى مجرد التفكير والتذكر فقد كانت ليلة الامس مثقلة بالهموم التي عاندتها وسخرت منهاومن قدرتها على النجاح هذا العام وهي تريد ان تهزم هذه الهموم بان تثبت لها انها بمستوى هذا التحدي وانها قادرة على النجاح رغم,, وبصراحة مطلقة اكملت حديثها مع نفسها,.
رغم اهمالها طوال العام ورغم عدم تركيزها,, ورغم تسرعها ومحاولتها تصيد هفوات اساتذتها,, ورغم غضبهم منهاوتعنيفهم الدائم لها,, ورغم رداءة حظها وضعف املائها,, الا ان هذا الامتحان الذي خشيته كثيرا ورغبت بالاستعداد له مبكرا ولم تفعل هو اكثر ما يقلقها فهذه المادة صعبة للغاية كما تراها وليس بمقدورها تتويجها داخل عرش عقلها الذي يضج بالكثير من الاهتمامات وهذا الاستاذ القاسي لا يقبل سوى بالاجابات النموذجية الكاملة ويرى الزيادة دوما كالنقصان,, واشد ما يغيظها منه تمسكه الشديد بهذه المادة التي لم يتخل عنها ولم يخفف من منهجها الطويل ودروسها المتشعبة فهي كما هي نفس المذكرات والمراجع بل وعدد الصفحات منذ عامين هي عمر رسوبها بهذه المادة التي يرفض لها استاذها النجاح فيها وكأنه يقصدها هي دون غيرها من الطالبات لهذا ولكل هذا هي تريد النجاح هذه المرة فقد تعبت من اجترار نفس مسلسل الفشل الموسمي فيها.
سمعت صوت المراقبة ذات الحذاء الضيق الاجش يقرر: يا بنات باقي من الزمن ساعة, عادت لتدقق النظر في منديلها وهي تحاول ان توزع نظراتها الخائفة والقلقة بعدل بين ورقتها والمراقبات حولها وهي تحاول تذكر ما كتبت على منديلها فقد روت لها احدى زميلاتها هذه الطريقة بتفاصيلها التي حاولت ألا تخل باي جزء منها فقد قامت كما فعلت زميلتها بكتابة اجابات الاسئلة التي تظن ان الاستاذ يوليها اهتماما اكثر من غيرها على منديل ابيض طوته بعناية,, وفتحته اثناء الامتحان الذي يكرم به المرء او يهان ولكن زميلتها نقلت عنه الاجابات المطلوبة ونجحت في نهاية العام بتقدير يرضيها, اما هي التي اختبرت في هذه المادة اكثر من مرة تعبت في استذكارها رغم لا مبالاتها بالمواد الاخرى وفشلت فيها ايضا رغم نجاحها بالمواد الاخرى فلم تستطع ان تنقل عن منديلها شيئا.
احست بالمراقبة الاخرى قادمة اليهاتحاول التملص من بين الكراسي بعناء لترى سر صمتها وشرودها فعادت الى ورقتها تلقي عليها نفس النظرات الخائفة والزائغة فاسئلة هذا الاستاذ دوما صعبة يستعصي على عقلها الصغير الالمام بتفاصيلها وكأنه يعاندها ويختار من الاسئلة ما لا يخطر على بالها,, نظرت حولهامرة اخرى وهي تمسك بمنديلها وتود ان تمسح به دمعة قاربت على الانتحار قفزا من عينيها,, وظلت في تردد حتى احست بالطالبات ينسحبن ويدعنها تؤنب نفسها فهي لا تريد النجاح بهذه الطريقة المحرمة وقد كانت ترفضها حين حاولت احدى صديقاتها الاستنجاد بها بركلات مفاجئة تلقتها من الخلف تطلب منها طوق النجاة الذي لم تستطع هي الامساك به او مجرد لمسه وبعد ظهور النتائج كانت تبارك لصديقتها في حين تواسي نفسها,, كان ذلك في العام الماضي وكانت تلك المادة التي رسبت فيها هي هذه المادة التي تحاول الان فك طلاسمها وبعد تفكير وتساؤل عن سر رسوبها المتكرر عادت الى واقعها لتدرك انها كالعادة فشلت في توقعاتها حول اسئلة استاذها! فجأة كانت المراقبة الاخرى تسير بجوارها,, امسكت بمنديلها بسرعة تخفيه فوقع منها على الارض وبسرعة انقضت عليه كطير جارح لتصطاده قبل ان تراه المراقبة وفي لحظات كانت تخفيه بين طيات ملابسها التي تتكاثر وهي جالسة فلن تعرض نفسها لاكثر من ذلك.
وقفت المراقبة امام الطالبات تنعي اليهن بصوتها اللاذع خبر اقتراب حتف الوقت البطيء باقي من الزمن نصف ساعة.
انتهت على اعلانها المرعب لمرور الوقت السريع وبدأت بفتور تقرأ اول سؤال لم يكن صعبا بل يمكنها الاجابة عليه دون منديلها الذي عرضها لمخاطر جمة واضاع الكثير من وقتها الذي احست الان بمدى اهميته,, وبعد نصف ساعة لا تعلم كيف انقضت وجدت المراقبة بقربها تطالبها بتسليم الورقة,, احست بنفسها كمن افاقت من حلم قلق ونهضت باستسلام للخروج من القاعة ثم سمعت صوتا لاذعا يخترق طبقات سمعها طالبا منها التوقف فقد سقط منها,,, من بين ملابسها شيء ما,, انقضت عليه مرة اخرى لتلتقطه قبل ان تصطاده المراقبة,, لكن يدها اصطدمت بيد المراقبة التي فتحته بلهفة لتكتشف سر البقع الزرقاء التي التهمت لونه الابيض,,وصرخت بانتصار تغشيني,, ساشطب على ورقتك باللون الاحمر لحرمانك من هذه المادة,وقفت تنظر لها بذهول وهي تحدث نفسها انها فشلت مرة اخرى سواء حرموها من الامتحان ام لا ,, ثم عقبت بهدوء كمن تذكرت شيئا: لكن ما جاءنا شيء من الذي بالمنديل.
مها الزبيري
***
تمتلك مها الزبيرى موهبة حقيقية كقاصة وهذه القصة شاهد جديد على تلك الموهبة,, موهبة تتميز بحساسية شديدة في انتقاء الموضوع بعيدا عن كل ما استهلكته القصة القصيرة العربية، وفي شكل يكاد يكون قد استقر لها واصبحت تتميز به, انها تلتقط نقطة صغيرة بحجم سن إبرة، وتبسطها لتجعل منها عالما كاملا للقصة,, هنا طالبة في اللحظة الدقيقة لاتخاذ القرار بين ان تغش او لا تغش، لكن هذه اللحظة قد استضافتنا بداخلها مها الزبيري لمدة ساعتين او ثلاث هي زمن الاختبار كأن لحظة المعاناة لبطلة القصة التي يفترض ان تستغرق ثانية تحدد فيها موقفا قبل ان تضيع منهاالفرصة قد تجمدت على ثباتها وراحت تنتقل من ثانية الى اخرى الى اخرى حتى شغلت وقت الاختبار كله,, مقدرة غير عادية على قراءة سيكولوجية للبطلة في هذا الموقف تكاد تغرينا على الاعتقاد بانها تجربة حقيقية مرت بها الكاتبة نفسها مع ان ذلك يقين ليس صحيحا فمها الزبيري في كل تجربة تكتب عنها من النقيض الى النقيض، تملؤنا بهذه القناعة، ومحال ان تكون قد خاضت بالفعل كل تجاربها الفنية التي تقاربها,لكن هذا الالتزام برصد كل التفاصيل الدقيقة التي تنسج منها بعالم كامل لقصتها قد افضى بشيء آخر يتمثل في تساؤلنا وقد فرغنا من القصة عن موقفنا من البطلة: هل نشفق عليها ونأسى من اجلها؟ ام ندينها ونتعامل معها بقسوة كصورة تبقى في الذاكرة؟ لا نستطيع حقيقة ان نحدد موقفا واحدا صريحا وقويا ازاء هذه البطلة - فهي كما نفهم من القصة - ترفض مبدأ الغش ولم تجربه من قبل بدليل ارتباكها هذه المرة، وحتى في هذه المرة تفشل في ان تستفيد من جهد ليلة كاملة قضتها في تعبئة المنديل بالمعلومات، ليس لعدم خبرتها فحسب وانما لان بداخلها شيئا يرفض ان يكون هذا السلوك هو وسيلتها الى اجتياز مادة رسبت فيها مرتين، وهي فوق ذلك ذكية بدليل حسن الاستيعاب الذي جعلها تنجح في جميع المواد دون ان تذاكرها كما اشارت القصة، ثم هي حقيقة لم تغش بالفعل ودفعت ثمنا فادحا مع ذلك، من اجل هذا كله نأسى لها ومن الناحية الاخرى نبغضها ونتخذ منها موقفا عدائيا لمشاكسة الأساتذة واهمال الاستذكار والاصرار على تخطي هذه المادة بتحد لا نعرف كيف جاءتها أسبابه في ظل ما تمارسه من اهمال ولا مبالاة وعناد أخرق ازاء المادة,, نكره فيها اساسا فكرة ان تحاول الغش ولو فشلت ومها الزبيري تشبع الاسباب التي تدفعنا الى كل من الانحيازين مع اوضد هذه الطالبة بسبب هذا الاستغراق في رصد ادق التفاصيل ليست هذه ملاحظة سلبية بل هي مقدرة متميزة في امساك محكم بالطبيعة الانسانية في ثانية من الثواني، طبيعة هي يقين بهذا الثراء الذي قدلا نشعر به في حياتنا العادية وانما يدلنا اليه الفن فتلك النفس البشرية التي تبدو كمنديل ناصع البياض تحت المجهر تشوبها بقع زرقاء لعبت بها المشاعر والانفعالات حرصا او خوفا او املا، كي تمددها لتشوب نصاعة الروح ونقاء الضمير,, قد لا يحتاج الامر الى اشارة الى عنوان القصة الذي يأتي موفقاً في الاشارة الى هذه الحقيقة حتى وان كان عبر تجربة للغش مفعمة بالبراءة.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
جبل الدعوة الى رحمة الله
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيق
تغطيات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved