Tuesday 25th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 10 صفر


أحسن الله عزاءكم يا مسلمون

منذ هممت ان أخُطَّ خطّ عرفان ووفاء عن إمام جليل، ودوحة فارعة، فلق الله نواتها في هذه البلاد المباركة وتعهدها ووالاها حتى اخرجت شطوءها وامتدت واظلت بلاداً، وعباداً، وراح رائحتها دانون وقاصون,منذ ذلك وانا اتردد متهيباً مشفقاً اقدم واحجم وإلا فكيف يسبر وليد اغوار والد وكيف تحيط بصمة في كف عملاق بخصيصة من خصائص ذلك العملاق ولكني مضيت استرجع الايام واستندي الذكريات وافتق الاكمام لعلها تبث مااستودع فيها من الارواح الشذية الزكية التي تحمل من روائح الشيخ وروائعه ما تحمل لذا برقت هذه الخواطر:
بنفوس ملأها الحزن، وعمّرها التسليم لقضاء الله وقدره تلقى المسلمون في مشارق الارض ومغاربها نبأ وفاة علم من اعلام المسلمين وعالم من علمائهم الابرار فقدنا بفقده عالماً فاضلاً ، مربياً لاجيال من العلماء وطلاب العلم انه شيخنا ووالدنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز والذي توفي صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين من شهر الله المحرم لعام الف واربعمائة وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة عن عمر يناهز التاسعة والثمانين.
لقد قضى حياته -رحمه الله- في سبيل العلم تحصيلاً وتعليماً، نفع الله به عدداً كثيراً من الطلاب الذين تتلمذوا عليه او تتلمذوا على طلابه.
إن الشيخ عبدالعزيز -نوَّر الله ضريحه- يحتل الصدارة بين العلماء في علمه وادبه واخلاقه وسداد رأيه وحسن تعامله وكونه قدوة حسنة قولاًوعملاً,لقد كان - رحمه الله- صرحاً شامخاً في العلم والاجتهاد وبعد النظر، غاية في التأمل والاستنباط، والحرص البالغ على نشر العلم وطرق تعلمه والتعايش مع طلبة العلم على مختلف مستوياتهم ومداركهم ومراحل تعلمهم.
سماحة الشيخ -رحمه الله- تميز بالعلم الغزير والاخلاق السامية والنبرة الصادقة والالفاظ العطرة والعقل الراجح والورع الحقيقي والترفع عن سفاسف الامور والصبر عند الملمات مما لاتكاد تجده مجموعاً عند غيره من الرجال، لقد سعى الى نشر العقيدة الصحيحة في انحاء الارض وسعى كذلك الى نشر التربية السليمة والاخلاق المحمدية فكان مدرسة فريدة في جمع الناس على الخير.
كان -رحمه الله- طويل البال، واسع الاطلاع راسخ القدم، عميق التفكير، دقيق التصوير، قوي الحجة، ناصع البرهان.
كان يتصف بصفات يندر ان تجتمع في شخص ومن ذلك غزارة العلم ورجاحة العقل والزهد في الدنيا ومظاهرها وحب الخير للآخرين وايصاله لهم وبذل جاهه وماله في ذلك.
كان سماحته -رحمه الله- يبذل جاهه في خدمة الصالحين ومعونتهم ولايرد صاحب حاجة يستطيع ان يقضيها له وبالجملة فإن الشيخ كانت له عناية بالغة باصحاب الحوائج والمعوزين وكان ينفق جزءاً كبيراً من راتبه في ذلك، لقد تمثل حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وفيه(ومن كان في حاجة اخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) الحديث.
ان قضاء حوائج الناس وإقالة عثراتهم وتفريج كرباتهم خلق جميل وسلوك نبيل وقد تجسد هذا الخلق في سماحته فقد كان رضي النفس كريماً متواضعاً يبسط يده بالخير ويبذل نفسه لقضاء حوائج الناس وكان حريصاً اشد الحرص على ان يكون عمله في ديوان السر، وكان -رحمه الله- يفد الى بيته كل يوم طلبة العلم والدعاة وعامة الناس ممن يبغون الشفاعة في امر من الامور فكان بيته ملتقى الضيوف وذوي الحاجات ومنتدى العلماء وطلبة العلم.
كان -رحمه الله- عف اللسان عن اعراض الناس لايتكلم الا بالخير ولاتراه الا ذاكراً لله او معلماً او باذلاً للعلم او داعياً الى الله ولايسمح لاحد ان يتحدث في مجلسه في أعراض الناس بل يرى للناس فضلهم وسبقهم، ولايسمح لاحد ان يتحدث امامه بسوء ومجال النصح عنده مفتوح وكان من انصح الناس للناس فإذا سمع وتأكد ان فلاناً من الناس عنده خطأ او عليه ملحوظة ينبهه على ذلك بحسن ادب وبحسن منطق وبرهان ولاينتصر لنفسه ولا لرأيه، ولايسفه في التعامل مع المخالف اويرميه بالكلام البذيء الفاحش من القول بل يدعو بالتي هي احسن عليه رحمة الله.
لقد قضى الشيخ حياته في العلم والتعلم وبناء الرجال وتربية النفوس وإثراء الامة بالفتاوى العلميةوالبحوث الشرعية التي تتسم بالعمق والاصالةودقة التحقيق ولذا لاتكاد تجلس معه قليلاً من الوقت الا وتخرج بفائدة علمية او ادبية او خلقية وكان حديثه يتسم بوضوح العبارة وصدق المقالة,.
لقد كان سماحته -رحمه الله- لين الجانب، دائم البشر، حسن الخلق، ليس بفظ، كثير التواضع، لايحقد على احد، لايعجل ولايجهل، وان جُهِل عليه احتمل، يحب في الله ويبغض في الله، تعلوه السكينة والوقار، وهبه الله ذاكرة نفاذة وقريحة وقادة بذل للحديث وللسنة النبوية كل جهده، وانفق فيها شبابه وشيخوخته، ما كلَّ ولاملَّ، حتى بلغ الذروة في علمه وحفظه، وحتى صار بحق فقيهاً في المحدثين ومحدثاً في الفقهاء وإماماً لاهل السنة.
لقد كان الشيخ نموذجاً طيباً يحتذى، وجوهرة وضاءة يهتدى بها في السلوك والاخلاق وفي حسن التعامل مع ولاة الامر وطاعتهم فيما يرضي الله ونصيحتهم بالرفق واللين في السر والدعاء لهم.
عاش سماحته آلام الامة وآمالها فكان يدرك بعمق شراسة الغزو الفكري الاستعماري للمسلمين ويدرك ما يتعرض له شباب الاسلام من وسائل خادعة واساليب ملتوية هدفها وغايتها ابعاد المسلمين عن دينهم وصرفهم عن عقيدتهم ولذا حذر وانذر -رحمه الله- من ذلك واوصاهم بلزوم التقوى على كل حال وقد كان -رحمه الله- حريصاً اشد الحرص على التئام الصف وتوحيد الكلمة واجتماع الامة والائتلاف بينها ونبذ الفرقة والخلاف الذ ي يهدد كيانها.
حقاً لقد كانت وفاة الشيخ فجيعة كبيرة تألم لها المسلمون في ارجاء العالم الاسلامي, لقد وقع هذا الخبر في نفوس محبيه موقعاً عظيماً شعروا فيه بعظم الخسارة وفداحة الخطب وشدة المصاب.
يا الله مات العالم الذي قلّ نظيره من العلماء لقد اذهلنا الخبر حقا وبموته انطفأ مصباح من مصابيح العلم فخسرت به الامة الاسلامية عالماً فذاً ورعاً زاهداً والآن قد لقي ربه من ذا سيسد ثلمته؟
سيذكرني قومي اذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
كان -يرحمه الله- قبل وفاته في كامل وعيه تام الحواس ما عدا البصر سليم الادراك لم يتغيب في عمله محتسباً معلماً حتى اللحظة الاخيرة التي ازداد عليه فيها الوجع لتخرج روحه الى بارئها.
لقد كان مشهد الجنازة مشهداً مهيباً مبكياً يذكِّر بمقولة الامام احمد (بيننا وبينهم أيام الجنائز) لقد اكتظ المسجد الحرام بالالاف من المسلمين للصلاة عليه وتشييعه يتقدمهم خادم الحرمين الشريفين وولي عهده والنائب الثاني وبقية الامراء والمشايخ والوزراء، لقد صلى على الشيخ وشيّعه خلق كثير وعدد هائل من البشر لايُحصي عددهم الا الله سبحانه وتعالى لقد ازدحمت الطرق والممرات المؤدية للحرم بالمشيعين بل لقد غصت الطرق والمقبرة بالمشيعين كل منهم يريد ان يلقي على هذا الفقيد نظرة اخيرة ويقول له وداعاً ايها الامام وموعدنا معك في الجنة- ان شاء الله-.
ان مصابنا فيه كبير، وواجبنا ان نقول إنا لله وإنا إليه راجعون رحم الله شيخنا ابا عبدالله واسكنه فسيح جناته والهمنا واولاده واهله وجميع المسلمين الصبر واحتساب الاجر وانني اذ أعزي العالم الاسلامي به اخص خادم الحرمين الشريفين وولي عهده والنائب الثاني وابناء الفقيد واهله واخوته وجميع المسلمين بخالص التوجه بان يحتسبوا مصيبتهم عند الله الذي له ما اخذ وله ما اعطى وكل شيء عنده بأجل.
واخيراً ان هذا المشهد العظيم الذي عاشته المملكةوالبلدان الاسلامية في توديعها هذا العالم يدل علىوعي هذه الامة وتقديرها للمخلصين من رجالها والعلماء العاملين بعلمهم من ابنائها وهو آية من الآيات الدالة على الوفاء الذي تتميز به هذه الامة المسلمة في مملكتنا الحبيبة للاوفياء لها، رحم الله فقيدنا المحبوب وعالمنا الجليل وشيخنا الفاضل واسكنه جناته وامطره الله بشآبيب رحمته وجعل قبره روضة من رياض الجنة وجمعنا الله به ووالدينا في دار كرامته ونرجو الله ان يعوضنا عنه خيرا.
وشكراً جزيلاً لهذه الامة علىوعيها ووفائها وتقديرها للمخلصين من ابنائها والجادين من رجالها.
محمد بن عبدالله الشائع *
*وكيل المعهد العلمي في محافظة شقراء .

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
جبل الدعوة الى رحمة الله
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيق
تغطيات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved