Sunday 30th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 15 صفر


في الريادة النقدية
الدكتور محمد الشامخ نا قداً
د, محمد صالح الشنطي

حينما نتحدث عن الدكتور محمد الشامخ كناقد أدبي إنما نستذكر جهده الرئيس في هذا المجال متمثلا في كتابه النثر الادبي في المملكة العربية السعودية، والذي لم يكن فيه مجرد ناقد أو دارس، بل كان مؤرخا لفنون النثر في حقبة مبكرة، في وقت كان الأدب العربي في هذه البقعة الجغرافية الممتدة التي تحولت إلى مركز جذب رئيسي في المنطقة للثقافة والأدب بعد أن تحولت إلى كيان راسخ أنموذج - بحاجة ماسة إلى الكشف عن تضاريسه الابداعية والتأصيل لنهضته الفنية.
وقد كان كتاب الشامخ هذا من أوائل الدراسات التي استقصت فنون النثر القديمة والحديثة في المملكة وشكلت منطلقا لما تلاها من أبحاث في هذا المجال، فكان عملا رائدا لا يستطيع أي مؤرخ للأدب الحديث أن يتجاهله,وبدا هذا الاتجاه التأصيلي مستوعبا لحل الجهود التي بذلها الناقد في أعمال الأخرى التي يتناول فيها التعليم في مكة والمدينة، ونشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية وكتابه:
The Rise of modern Prose in Saudi Arabia
ثم ما نشره حول الأدب الإسلامي، وغيره من الأعمال فالكاتب نهض بمشروع ثقافي ريادي مكمل لذلك الذي شارك فيه كوكبة من النقاد الأكاديميين مثل الدكتور الحازمي والدكتور عزت خطاب وأقرانهم.
** ونحن حين نتكلم عن الريادة والرواد إنما نقصد جيل التأسيس الذي أخذ على عاتقه مهمة وضع القواعد الرئيسة للانطلاقة النقدية، حيث تم استقصاء البواكير الأولى للأعمال الابداعية وتقويمها، فما أنجزه الدكتور الشامخ في مجال نقد المقالة والقصة القصيرة، وما فعله الدكتور منصور الحازمي في كتابه عن فن القصة في الأدب السعودي أصبح من المصادر المهمة لدراسة هذه الفنون.
لهذا كله رأيت أن أتوقف عند جهد الدكتور الشامخ في هذا المجال.
ومن الواضح أن الدكتور الشامخ لم يكن مجرد باحث في النثر الأدبي بل كان ناقدا ينفذ إلى ما وراء النص، وان بدت بعض ملاحظات عامة ولكنه استطاع أن يلتقط مكامن الخصوصية حتى في النصوص التي تصنف في إطار التقليدية، ففي تعليقه على رسالة لجعفر البيتي يرى أن السجع تحول لى عنصر موسيقي وعامل من العوامل التي ساعدت في تصوير الألم، كما أن الإشارات التاريخية التي حفلت بها الرسالة لم تكن مجرد تكديس للأحداث والأسماء التاريخية، بل إنها قد أسهمت في تصوير مأساته وقد اومأ إلى الذاتية المبدعة.
في هذه الرسالة التي اتخذت شكلا تقليديا، ويقارن بين منهج البيتي وغيره كالشيخ جعفر البرزنجي مقارنة تكشف عن ذائقة شديدة الحساسية، فهو يرى في المحسنات البديعية التي هي لون من ألوان الصنعة اللفظية مظهرا من مظاهر الشاعرية في بعض النصوص النثرية مشيرا إلى صدورها عن منابع ذاتية ولكنها من جاوز السمة التقليدية وكثيرا ما يحتفل بالمضمون النفسي والفكري وينقب عنه في أدغال الصنعة والأشكال التقليدية للنثر العربي، ولم يقف موقفا جامدا من مسألة الأجناس الأدبية، بل وجدناه يعتبر بعض أنماط الكتابة التاريخية من الابداع الأدبي النثري ككتابات الشيخ حسين بن غنام، إذ يشير إلى أنه لم يكتف بتسجيل الأحداث التاريخية، بل أراد أن يصور الخواطر النفسية والصراع الإنساني، ووصف كتاباته التاريخية بأنها قريبة من الأسلوب الملحمي، وتتوفر فيها المتعة القصصية لما فيها من قدرة على تصوير المواقف المتأزمة والصراع النفسي، ونحا المنحى نفسه حينما تحدث عن كتابات بعض المؤرخين من أمثال عبدالله بن محمد عبدالشكور من المؤرخين الذين يستجيبون للنزعة الأدبية، فقد أومأ إلى ما أسماه الروح التخيلية على رواية الحادثة فصارت إلى الأدب أقرب منها إلى التاريخ على حد تعبيره، بل كان يتجاوز التاريخ إلى وصف جمال الطبيعة.
* وقد لمس في حديثه عن النثر بعض سمات الكتابة النقدية في ذلك العصر المبكر، وتوقف عند اشارات الشيخ عمر بن عبدالسلام الداغستاني إلى طبيعة الذوق الأدبي وما ينبغي أن يتسم به من صحة وسلامة وإن جاء حديثه في إطار الشكوى من حال الأدب، غير أن كتاباته جاءت موسومة بما كان شائعا من صنعة بديعية، وعرض لما جاء من تعريفات خاصة بالشعر والنثر في بعض الشروح التي كانت من أهم مظاهر التأليف في تلك الفترة، فقد عرف الشيخ محمد نوري منظومة زين الدين المليباري وتوقف عند مفهومه للنثر وعلى الرغم من تقليدية هذا التعريف، فإن المسألة تدخل في إطار التوثيق التاريخي، وقد أشار إلى بعض الشروح التي ربما كانت أدخل في باب النقد كشرح الرسالة الجدية لابن زيدون.
وهو شرح لغوي تقليدي، ولكن قيمته تكمن في انخراط الشارح في الحالة الوجدانية التي عاشها ابن زيدون لتشابهها مع حالته وهو لا يبالغ في قيمة هذه الآثار النثرية، بل اتصف بها النثر في الأقطار العربية الأخرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي ولكنها تميزت ببعض مظاهر القوة في الصياغة اللغوية، وكذلك سلامتها من شوائب العامية والعجمة.
ويعتبر الشامخ من الرواد في تأريخه لفني المقالة والقصة، حيث عقد الفصل الثاني في كتابه للحديث عن فن المقالة، وظل مرجعا رئيسا في هذا المجال لمن جاء بعده من الباحثين، ولمس في حديثه عن المقالة بعض القضايا الأدبية المهمة التي كانت موضع حوار في تلك الفترة فضلا عن وقوفه عند الخصائص الأسلوبية وتطورها بتطور الفن المقالة، وقد شهدت المقالة في مرحلة مبكرة على تفاعل كاتبيها مع ما كان مثارا من قضايا كتأثير الآداب الغربية على الآداب العربية والإشادة بالتجديد كما فعل محمد برادة حينما أثنى على الشاعر المدني ابراهيم الأسكوبي في وصفه للمخترعات الحديثة، وان بدت هذه الاشادة غير ذات شأن من الناحية النقدية الآن، ولكنها في زمانها كانت مؤشرا مهما على الانعطافة في ذوق العصر.
ويعلق الدكتور محمد الشامخ على مقالين نشرا في جريدة الحجاز في وقت مبكر من أواخر العقد الأول من هذا القرن بقوله ويبدو أن هذين المقالين أول إسهام حقيقي صدر في هذه البلاد حول قضية كانت حينئذ من أهم القضايا الأدبية، تلك هي موقف الأديب العربي المعاصر من الأدبين العربي القديم والغربي الحديث، كما يوحي إلى مقال تتحدث عن الأسلوب يصفها بالركاكة لكاتب اسمه محمد صادق، ولكن العنوان على أهميته لا يخدعه، ولا يتوانى عن الإشارة إلى ما يتسم به من عجمة وغموض.
ولم يقتصر بحث الدكتور الشامخ في بواكير الكتابة المقالية عن الموضوعات والمضامين، بل لمس الخصائص الأسلوبية، توقف عند بعض الظواهر اللغوية والبيانية، لكنه أولى القضايا الأدبية أهمية خاصة تعمد إلى تقييم دعوة الأسكوبي وبرادة إلى التجديد ووضعها في سياقها الحقيقي دون مبالغة، وكانت نقداته الأسلوبية ذات طابع لغوي في الدرجة الأولى، كما كانت المعيارية التي تتسم بالأحكام العامة هي السائدة كالوصف بالرداءة أو الجودة.
ويناقش الشامخ قضايا ذات طابع تأريخي تتعلق بتحديد بدايات الأدب الحديث ويقف عند آراء بعض من اهتموا بهذه المسألة كعبدالله عبدالجبار وأحمد العربي ويرى أنه لا يجوز تجاهل الانتاج الأدبي الذي ظهر قبيل عام 1334ه (1916م) إذ أن أعمال البيتي والكريدي والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ ذات جودة وأصالة، واعتبر أن الفترة التي تبدأ بعام 1908م عهدا جديد في تاريخ الأدب، ويربط بين المقالة الصحفية التي انتجت في المنطقة الغربية من عام 1916 إلى 1924م وبين الأحداث التاريخية المضطربة.
وقد وضع الدكتور الشامخ على مفصل مهم في تطور أسلوب المقالة في ذلك العهد حين تحدث عن تأثر المقالة بأسلوب الخطبة واعتمادها على إثارة الحماسة وطغيان النزعة السياسية عليها، فمخاطبة العواطف تطغى على مخاطبة العقول، وأحصى طرفا من المظاهر الأسلوبية كالمبالغة في التصوير واستخدام أساليب التهويل والإكثار من استخدام الكلمات الخطابية والاطناب والتكرار والترادف والتوازن الايقاعي بين العبارات والجمل، ويركز على النقد النصوصي، ويتحدث عن بروز الاستعارة بدلا من السجع.
على أن أهم ما يلفت الانتباه موازنة بين الوقائع التاريخية في تلك الحقبة والسمات الأسلوبية في المقالة المعبرة عنها، كإشارة إلى الطابع الجدلي في الموازنة بين الحضارة والبداوة حين انقسم الرأي من حول الحسين بن علي بين الربط وبين الحجاز والشام في مؤتمر الصلح في فرساي، والاتجاهين المختلفين لما يكتب في جريدة الحجاز وما يكتب في جريدة القبلة في تمثيلهما لوجهتي النظر التركية والهاشمية.
وقد توقف الكاتب عند المقالة الأدبية التي كان يسطرها بعض أدباء الشام المشهورين أمثال فؤاد شاكر، وعند حديثهم عن التراث الشعري القديم منسجمين مع النزعة الاحيائية النهضوية في تلك الفترة، ويفسر الشامخ شيوع بعض الانتاج الأدبي المهجري في جريدة القبلة بانحياز أدباء المهجر إلى جانب الشريف حسين لأن هذه الجريدة كفت عن نشر مقالاتهم حينما بدأ موقف يتغير منذ عام 1918م، وعلى الرغم من احتفال القبلة بالأدب المهجري فإن الاتجاه العام بها كان إحيائيا في الدرجة الأولى ويبرز دور الشامخ في تأريخه للحركة النقدية في موقفه عندما ماأثير من مسائل نقدية في المقالة التي يؤرخ لنشأتها وتطورها، وتحليله لجهد العواد النقودي وآرائه في تعريف الشعر واعتماده على الصورة المجردة وتقليده لبعض القاهريين كرجائي في وصفه للشعر بأنه صناعة روحية، كما يبرز تأثره بالنظرية الرومانتيكية الغربية وإشادته بفيكتور هوجو، ومقارنة تعريفاته للشعر بما قاله نقاد القرن التاسع عشر الغربيين أمثال جون ستيوارت ميل وتوماس كارليل.
وربط الشامخ بين الوضع الحضاري التاريخي والنقد الأدبي مفسرا شيوع المقالة النقدية باعتبارها من العوامل التي تساعد على ايقاظ الأمة بوصفها جزءا من الحركة الأدبية مستشهدا بأقوال العديد من كتاب هذه المقالة في ذلك العهد، ومتوقفا عند خواطر العقاد المصرحة ومقالته في البلاغة العربية، ولم يصرفه دور العواد التجديدي عن الإشارة إلى منزلقاته إذ يقول: إن مافي الأحكام النقدية التي أبداها العواد من ضعف لأبين من أن يشار إليه، وأن ما في نقاشه من أخطاء لأوضح من أن يرد عليها ولكن أهمية هذه الأحكام من الوجهة التاريخية هي أن العواد قلل من قيمة الأدب العربي العريق وأبدى اعجابه بأولئك الأدباء المعاصرين الذين استوحوا الأدب العربي وتأثروا به ص 102.
يتبع

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved