Sunday 30th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 15 صفر


فضاءات الكتابة
قراءة أولية انطباعية في المجموعة القصصية (امرأة لا تنام) 1-2
اليوسف: يعيد حشد واكتشاف نساء,, (ابن مسعود النجدي) كيلا ينمن
أحمد الدويحي

يقول الناقد جورج طرابيشي في دراسة له في بداية العقد الماضي حول (رمزية المرأة في الرواية العربية) وقد تناول عددا من الروايات العربية التي تناولت المرأة كواقع ورمز: ان الترميز هو بحد ذاته عملية تختزل المرموز الى محض بعده كموضوع بينما يحتكر الرامز او صانع الرمز (وغالبا ما يكون رجلا) كل الذاتية لحسابه, والمرأة عندما يرمز بها كوطن تخسر استقلالها وسؤددها الذاتي وتصير أشبه ما يكون بمادة صلصالية يصنعها الآخرون, ولا تصنع ذاتها, ولا تملك طاقة الحرية,,
وفي المجموعة القصصية للاستاذ خالد احمد اليوسف (امرأة لا تنام) وضعنا امام حد هائل من الاسئلة والمرافعات, حاولت ان اغالب نفسي وامضي عنها متجاوزا فضاءاتها, مع انني في العادة قد انسى اسماء الكتب التي قرأتها واسماء مؤلفيها وقد انسى اسماء اصحابي واصدقائي لكنني لم ولن انسى فضاءات الكتب التي قرأتها.
وبالتأكيد هذه المجموعة القصصية واحدة منها, واذا كان اليوسف قد أصدر من قبل ثلاثة مجاميع قصصية (مقطاع من حديث البنفسج - أزمنة الحلم البنفسجي - اليك بعض انحنائي) تراوحث بين الرفض والقبول بها شأنها كأي عمل ابداعي, فان هذه المجموعة بالذات, ألمس ان خالدا فيها قد وضع خلاصة لجزئية من عالمه الابداعي كان لابد لها ان تكون, وظفرها من تجاربه الاولى, نضجا ولغة وسردا ورؤية,,.
والمؤلف الذي قادنا ببراعة الى عالم منطقة ابداعية, لن ندعي ان احدا لم يسبقه اليها, بل انه كرجل قد فاق ما اوردته لنا الروائية (حنان الشيخ) في روايتها ذائعة الصيت (مسك الغزال) واستطاع بمعرفته الدقيقة والمتواصلة ان يأخذنا معه الى هذا (العالم السري) الذي يشكل نصف المجتمع, ليدخلنا في سراديب هذا المجتمع المتشح بالسواد, ويخلع عنه اقنعته وأجحيته واحجبته ايضا.
والذي يتشكل من امهاتنا ونسائنا واخواتنا وبناتنا,, ويجعلنا وكأننا نتعرف عليهن لاول مرة, ويسمعنا اصواتهن وصياحهن وأنأنتهن, ومنهن من تصل بها الحالة الى حد الهذيان في بيوت المعالجين بالطب الشعبي والمشائخ وعيادات الاطباء كما في قصص (غيابة الجب - الرنق - قلق,,) وهي قصص مليئة بصور الحرمان, والتطلع الى حياة اكثر رحابة, يملؤها الحب والاطفال والاستقرار,.
قدم لنا القاص خالد اليوسف في مجموعته (امرأة لا تنام) كما هائلا من النساء الضعيفات العاجزات, المسلوبات الارادة والحرية, منطفئات بين الحوار والمناجاة, بين الكلام والفعل,.
ولان طبيعة الفن ورسالته هي الاشارة الى العوالم التي يقتنصها الفنان فان هذا هو ما فعله اليوسف بالتحديد, فقد ظل عينا لاقطة على مساحة هائلة من جسد النصوص التي حملتها المجموعة.
يقدم لنا نماذجه, ببراعة تامة دون ان يضع مبضع الجراح على الجرح، وبمعنى آخر دون ان يضع الحلول، لان هذه ليست مسؤولية الفنان, والفن بالذات بعيدا عن ما يختلط في اذهان الكثيرين والفنان ليس بمصلح اجتماعي وليس بطبيب نفسي ولا هو كذلك بصاحب قرار فقط عليه ان يدلنا ويأخذنا معه حيث الخلل اما مهمته الاساسية فهي الكشف والمتعة والالم احيانا وهذا ما احسب ان خالد اليوسف استطاع ان يجذبنا اليه في مجموعته المشار اليها، والمجموعة التي ضمت تسع قصص, تستطيع ان تغرق في عالمها النسائي دون ان تتنبه الى أن كاتبها رجل، نظرا للتفاصيل الدقيقة لهذا العالم السري الذي يشاركنا ويقاسمنا الحياة دون ان نعطيه ادنى درجات الاهتمام وليس معنى هذا اننا لا نجد حضورا للرجل في ثنايا نصوص اليوسف، فهو حاضر بقدر ما تفرضه ضرورة النص وقد جاء في صور مختلفة, ما بين الحنون كزوج وحبيب وابن واب، ومتسلط وسلطوي لا يرى الامور الا من خلال ما يتحقق ويعزز سلطته وذاتيته المطلقة.
فهذه قصة (ارتحالات ابن مسعود النجدي) التي جعلها المؤلف مفتاحاً لنصوصه تتمحور حول شخصية واحدة هي (ابن مسعود النجدي) وما لهذه الرمزية من دلالة في تركيبتها الاجتماعية، من خلال سردية هائلة، لا تعتمد على حبكة مركزية او حبكة خاصة، انما تنتشر في كافة قصص المجموعة ليخفي لنا اي توثيق لشخصية بذاتها، انما تبرز لنا كلوحة كاملة بطريقة انسيابية.
وهذا النوع من الكتابة ليس كتابة تسجيلية واقعية,, برغم ما فيها من تشاؤمية.
لان الفن في جوهره يقوم على عنصر الاختيار.
وهذا ما احسب ان خالد اليوسف في مجموعته قد لجأ اليه, واصبغ على نماذجه التي التقطها من الواقع الرداء الذي سنراه.
والكاتب شخص لنا الواقع من خلال سردية ممتعة وحوار بين الشخصية المحورية في هذه القصة (ارتحالات ابن مسعود النجدي) وظله الذي اراد الكاتب ان يهمشه لكنه لا يخفي هذا المحاور الظل؛ لانه بدوره عليم بهذا الواقع، وهذا المحاور الظل (للراوي) رفعته اللغة التي نهضت بالنص الى مستوى الراوي.
وهو الجد في ذات الوقت الذي سيرته رغما عنه، ويحافظ على مسيرته وكتبه ومهنته ايضا رغم انه (الراوي) في تهميشه لشخصية (المحاور) قد طلب منه الا يسأله عن شيء، عليه فقط الاستماع الى ما يريد ان يبوح به (الراوي) والنص معا,.
ويبقى السؤال المهم في ذات الوقت, وذات اللحظة,.
ما هي مهنة الجد التي يشد اليها حفيده,,,؟!
وهذا ما يفيدنا به الجواب, حينما يأتي سهلا في الاشارة التي وضعنا امامها الكاتب في مفتتح النص (ارتحالات ابن مسعود النجدي) وهذه الارتحالات على ما فيها من غربة ظلت الصحراء غائبة كملاحظة اولى عن عمق النص بما توحي به الحياة فيها من دلالات، تقودنا الى سبب هذا الترحال الجماعي,,, (!) وركوب البحر والبر أياما وليالي سوداء مع انها اي (الصحراء) ارض معطاء ذات نخل.
وفي الارض الجديدة حيث زرع حبها في مخيلته وحيث المال الوفير حيث تبدلت حياته(!!), فيشير الكاتب صراحة وبدون مداورة الى السبب الذي كانت (المرأة) هي جمرته: كنت صيداً سهلا لمرأة لا تمتاز كثيرا عن غيرها، لكن عدم تعودي على رؤية النساء في قريتي كان ممهدا لي للوقوع في شباكها,, ص 17.
بهذه اللمحة الاشارية التي جاءت في ثنايا النص ليختزل الكاتب تاريخ العلاقة الانسانية بين رجل وامرأة فكلاهما مستلب؟ فالرجل الذي غادر الصحراء والارض التي احبها في ارتحالات طويلة من ارض الى ارض، دون ان يقوى على البقاء في ارض جديدة وما لقاؤه في ارض جديدة بامرأة الا كمحطة يتزود فيها لرحلة اخرى جديدة وعالم مجهول آخر رغم ارتباطه السابق العائلي وزواجه من امرأة خصوصا بعد معرفتهم بنجديته (!!), وهذه القصة على ما فيها من قدر هائل على الكشف والضرب في منطقة محرمة فان الكاتب ابتعد عن التعقيد اللفظي واستطاع بدون مواربة، بل بسرد مباشر رفعته جرأة الكاتب التي اخفت عن عمد او غيره الارضية الاولى لارتحالات ابن مسعود النجدي, والتحليل الاجتماعي والنفسي الذي لم نجد له اثرا سوى في كلمات قليلة جاءت لترفد السياق العام للرحيل الاجتماعي (!!).
وفي قصة (رداء امرأة) برز الحدث والمنلوج الداخلي لامرأة أرملة تبيع اشياء تافهة على قارعة الطريق لتيسر حياة كريمة لابنين مازالا في مراحل الدراسة الابتدائية,, ولتضمن لهما حياة شريفة, الا انها تفاجأ باحتراق صندوق بضاعتها, ويعمد القاص هنا الى ايحاء جميل حيث يربط بين احتراق صندوق بضاعتها واحتراق قلبها بالحب,, بعد ان تمنعت عنه كثيرا، ونلمس في هذه القصة بالذات الاندياح الداخلي الذي يشكل ضفيرة الحدث, بحيث لا نستطيع ان نسم اي نص قصصي بانه امتلك ادواته بغير الحدث الذي لابد منه، الى جانب التشخيص واللغة والحبكة التي يرى البعض انها لم تعد ضرورة، ومنهم كاتبنا الذي تأتي الحبكة عنده خارج النص لا داخله.
وفي قصة (ياهذا!! رغما عنك أصغي)، تجاوز القاص خالد اليوسف البدهيات, وانطلق في توصيفات لم تخدم بناء النص ولم تبرز شخوصه مع انه نجح في تجسيد الحالة التي تتمحورحولها نصوص المجموعة (المرأة) بالرغم من انه لم يدعنا نسكن الى مثل هذا الانطباع في بقية النصوص: بل انه في القصة التي استطيع ان اسميها القصة (الذهبية) وهي القصة التالية (البريق) قدم قصة نموذجية، اكتملت فيها كل عناصر القص من حيث توفر الحدث واللغة والبناء للشخصية والسرد الذي يفضي الى عوالهما, وهذه القصة تذكرني بقصة لتشيخوف القصة العربية يوسف ادريس وهي (جمهورية فرحات), ولعلني ابادر هنا الى توطيئة لهواة الاصطياد, واذكر للذين لا يثقون في انتاجنا الابداعي واشير الى ان خالد اليوسف ليس بالطبع يوسف ادريس, وان لكل منهما عوالمه وشخوصه ورؤيته ولغته, فجمهورية فرحات تدور في مخفر شرطة ظلت الشخصية المحورية في غرفة لليلة واحدة تستقبل زبائن آخر الليل, وبالتأكيد فلكل منهما قصته, اما خالد اليوسف فان الشخصية المحورية عنده في هذه القصة (البريق) صبي في دكان ذهب وفرق طبعا بين زبائن الذهب وزبائن مخفر شرطة في آخر الليل انما المكان والقدرة على استنباط الشخصيات والعوالم في مكان واحد محدد فرضته ضرورات خطاب الابداع,,!!
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved