Thursday 3rd June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 19 صفر


حين غنت الزرقاء,,,7-7
قراءة نقدية في ديوان: أين اتجاه الشجر للشاعرة ثريا العريض

ان تضع الشاعرة لها مسميات عجيبة ساخرة منها لانها مجرد فرقعة في الهواء، كأنها طرقات العدم تعلن للانسان قرب نهايته، فلماذا التمسك بهذه الاصوات! ولقد شكلت الشاعرة صورها في هذا الجزء بهدف الرؤية الموضوعية للصوت الواهن او الشاحب او المشروخ او الميت,,, الخ وقدمت ازاءها رؤية فنية ناجحة.
(ح) الصوت الضد (التشكيل بالصمت):
تعلن الشاعرة عن نفسها من اول الديوان، إن الصمت لديها أحد عناصر التشكيل الفني، وحين يكون الصوت مشروخا، خاليا من المعنى، مجرد صراخ أجوف، تتدثر الشاعرة بالصمت وتنحاز إليه, ويصبح الصمت ضرورة لأن الواقع اكثر دمامة وكآبة, واستعادة الواقع، استعادة للحظات التخاذل والضعف، والشاعرة لا تحب ذلك، هي تميل للانتصار للحياة، للازدهار، لحب الوطن, تعلن الشاعرة من البداية قائلة:
بعيني امرأة تتوحد بالصمت
توأد,, أو تفتدى
وتصرخ في صمتها للقوافل:
ارث السراب مخاتل
لا يحتوى صوتي الغض نهنهة النوح,, ص18
التوحد بالصمت هنا احدى وسائل الشاعرة للتغلب على مجابهة الواقع، بعد ان صارت الكلمات لا تقول شيئا، والقوم لا يسمعون، وهي تدرك الثمن الفادح الذي سوف تدفعه,,, لا يهم! ولكن تأتي صورة (تصرخ في صمتها للقوافل) لتضيف للصمت بعداً آخر قد يكون ايجابيا ان مرآها وهي مضيعة سليبة يتطلب من القوم ان يتوقفوا قليلا، يرقوا لحالها، يحاولون انقاذها، ان صوتها المبحوح يجعلها تلجأ إلى الصمت كسلاح تجرب المواجهة به, هي تقول لهم، انتم تصدقون الامل الزائف ارجعوا إلى اليقين، وتبكي ولكن البكاء لا يكاد يخرج من حلقها، لانه لا توجد كلمات تحمل البكاء ولا يشي الصمت بفحواه، وهناالحيرة التي تجسدها الشاعرة وتجسد من خلالها الصمت وتتعامل مع لغته الجديدة وتجعل له كمية وحجما وحيزا، لننظر إلى قولها:
بيني وبينك يا وطني
ركام من الصمت والكلمات
وهذا الذي يتناوبنا هوسا وانشطارا
بذاكرة الاغنيات,, ص23
إن للصمت ركاما كما للصوت!! وهذا هو الذي يقف بينها وبين وطنها حجر عثرة، انه وطن يلوك الكلمات الجوفاء ويمضغ الاغنيات الزائفة، وفي صورة اخرى ترى الصمت قادرا على عزف الالحان، تقول الشاعرة: (تراتيل امرأة/ يعزف الصمت فيها انتشاء الحياة) ص25 وهذا يؤكد قوة الصمت لديها وانها اختارته بديلا عن الصوت الاجوف والمعنى الميت, والصورة هنا دقيقة هامسة حيث يؤكد الصمت الايجابي هذه القوة، قوة الحياة ودفقها واستمرارها، انه قادر على العزف، وانشاء ألحان الخلود والبقاء، هل يمنح الصمت مثل هذه القوة؟ إن الشاعرة تعتقد في ذلك، وترى للصمت لغته وأسلوبه, وتدلل على وجود صمت آخر لا تحبذه ولا تحتفى به في شعرها وهو الصمت بمعناه المباشر الذي يعني الخوف والحذر والهروب، تقول:
يجف بحلقي النداء/ وما من عزاء/ يطالبني الجميع ان اتغاضى/
وانضم صامتة لصفوف الكفيفين/ او ابتعد,, ص43
وهذا الصمت السلبي يقتل الحواس جميعها ولا يترك مجالا للوقوف او التحدث، انه صمت يقطع اللسان ويعمي الابصار لذلك لا نتيجة من ورائه، والشاعرة لم تستخدم هذا النوع من الصمت إلا في مواضع قليلة من ديوانها مثل قولها: وبصمت مدير ندبج انشودة للوطن ص63 فهو صمت مدير ترفضه الشاعرة لانها تبحث عن صمت فاعل مؤثر، تنحاز الشاعرة دائما للصمت الايجابي القادر على البوح، وتجعله عنصرا من عناصر تشكيل الصورة الشعرية، والصمت في بعض الصور يبدو ابلغ من اي صوت وأكثر فصاحة من اي لغة، تقول الشاعرة:
قل هو الصمت
والشوك منغرس في حناجرنا
مرجع انت يا وطني
تتحدر حتى الشرايين
منهمرا بلهاث الالوف,.
لقد وصلت الرسالة رغم الصمت الذي تزعمه الشاعرة، هنا استخدم الصمت على مستوى فني آخر، انه الصراخ الذي يخرج بقوة من اعماق الانسان العربي لما اصابه، والصورة دموية كئيبة ولكن تشكيلها يحتاج إلى تأمل، الشوك منغرس/ تتحدر الشرايين/ لهاث البشر,, انها جوقة من فاقدي النطق يصرخون معا بألم شديد، تستوقفنا صورته حيث نشعر بالدماء تنزف وإن كنا لا نراها، الشوك ينغرس في الحناجر، وهي صورة بشعة لا يستطيع الانسان ان يخرج من حلقه صوتا سليما بعدها، ثم اشارة الى الوجع والألم، وكأن ذكر الوطن هنا فيه نوع من العزاء والتأسي، وصورة اخرى (تتحدر في الشرايين) بمفردات تحملك على استحضار مشهد الدماء، ونلتقي في الصورة الاخيرة لنرى الدماء منهمرة ممزوجة بألم الناس ووجعهم لذلك يصرخون, ان الشاعرة هنا توظف الصمت توظيفا جيدا وتشكل به رؤيتها الفنية البالغة النضج بعيدا عن الجلبة والصراخ بالتعبيرات المباشرة التي ألفناها في هذا المقام.
وترصد الشاعرة في صورة اخرى مراحل موت النداء، وتمزق اوصاله، تقول الشاعرة:
من يقايض صمتا بعيدا؟
ويعلن فينا احتفاء القصيد؟
ألفنا تسول افراحنا في المنافى
نزيف القوافي
التشظي على القارعة
بين الصدى والتواريخ يا وطني
والنداء البليد
رضينا بأصداء امس تليد
تلبّس ايامنا الضائعة
احترفنا الاهازيج
والشوق
والغصة الدامعة,, ص71
هي دعوة إلى الانعتاق من اسر الماضي، فإذا كنا سوف نجتر الماضي فليكن السوكت افضل، وليختف الشعر من حياتنا إذا كان هدفه استعادة الماضي، فحتى افراحنا نسرقها من الراحلين والقوافي الممجوجة تجعلنا اسرى حياة لم تعد مناسبة لنا، ونحن نردد كلماتهم وأصواتهم، نبكي لهم ونشتاق بالنيابة عنهم، وتدمع اعيننا دون سبب، فهذه الرومانسية الحالمة لابد ان تنتهي ونتمرد عليها لنحقق لوطننا دعائم القوة والنجاح، الشاعرة ترحب بالصمت، ولكنه الصمت الرافض هنا، والصورة الشعرية تمتاز هنا بثراء الحركة وتوظيف العناصر المختلفة:
1- صورة الانسان الذي يتسول الفرحة من الآخرين صورة مضحكة مبكية معا.
2- أضحى الشعر مملا متخما بالقوافي التي تعيد وتزيد وتسترجع في الوقت الذي نقف فيه في مكاننا والعالم يتحرك، نزيف القوافي هنا يجسد انتهاء الفن الجميل بعد ان ذبح على معول العادة والتكرار.
3- الصورة في التشظى على القارعة فيها الاشتعال والانتظار لكن لاي شيء؟ فلا شيء يأتي.
4- أيامنا التي نحياها ارتدت زيا قديما من ازياء الماضي ولانها ايام ضائعة لم نحرص عليها او نحافظ على حركتنا فيها، فإنها تتدثر في اكفان الماضي وتمضي الصورة الى نهايتها لتقنعنا في النهاية ان ننحاز إلى الصمت ونختاره دون سواه، خصوصا إذا كان صمتا قادرا على الرفض.
وفي صورة اخرى نجد الشاعرة تستخدم نوعين من الصمت، الصمت الاسود الذي يدمر المجتمع والصمت الفاعل الذي تنادي به دائما وعلينا ان نتدبر اختلاف النوعين من صورها الشعرية التي يمكن ادراكها بعد القراءة الاولى لهذا المقطع:
نتآكل في الصمت همهمة وصراعا
لننزع من حائط الصبر تقويمنا
ونحمل ارواحنا
ونرحل خلف الحدود
ربما الصمت ليس مشاعا,.
هناك بأرصفة
يجلجل فيها صدى الاغنيات
نرسم للحلم سارية وشراعا,.
فغمغمت الشمس شاحبة:
,, كل البحار تراوح في الصمت
كل البلاد تموج به
لا تحتويه حدود
هو الصمت يحصر انفاس هذا الوجود,,! ص99-100
ويصدق اكثر على هذه الصورة عنوان هذا الجزء من الدراسة: التشكيل بالصمت، فالصمت هنا يتولى رسم ملامح صورته بوجهيها، صورة مقبضة (نتآكل - ننزع - نحمل ارواحنا - نرحل), وكل التعبيرات السابقة تؤدي إلى نتيجة واحدة: الانتهاء - الامّحاء - والتلاشي، ويصبح الرحيل بحثا عن نوع آخر من الصمت هو الحل, (ربما الصمت) - يقصد السلبي - (ليس مشاعا) ويرسم صورة اخرى متفائلة للنوع الثاني من الصمت، وهو الصمت الفاعل، القادر على ايجاد صور بديلة، هو صمت (يجلجل بالاغنيات - نرسم به احلامنا) وعن طريق المقارنة تترك لك الشاعرة امر الاختيار وهي لا تختار لك فاختر أنت الذي يناسبك بين نوعي الصمت، وتعود الشاعرة للتدخل في الاختيار لتقول لك ان الصمت الاسود يدمر ويحصر انفاس الوجود، وحين يخير الانسان بين الموت والحياة فلابد ان ينحاز إلى الحياة.
وللصمت شرنقة يخترقها الأمل والحلم إذا كان قويا قادرا على الاختراق، لنطالع هذه الصورة الاخاذة، تقول:
واستيقظي حين شدو البلابل
يخرق شرنقة الصمت
واستقبليني بفاتحة من غناء,, ص101
إن الصمت السلبي المشين غير قادر على مقاومة الحياة، انه ينزاح من طريق السعداء القادرين على الامل وصورة شدو البلابل الذي يخرق شرنقة الصمت من الصور الجريئة الجديدة، ولتجسيد هذه الصورة الذهنية علينا ان نجهد انفسنا في تخليل وقائعها: ان البلبل حين يغني فهو ينتصر على الصمت الارعن المميت، انه لحن الحياة الذي يرفض الموت ويعلو عليه والصمت له شرنقة، اشارة إلى سوداويته وتأثيره القاتل على الانسان، فهو يشرنقه وينهي حياته لو استطاع,.
وبعد,, فلقد كانت سياحتي مع هذا الديوان ممتعة حقا، ولا أريد ان افسد متعتي ومتعة القراء بازجاء النصائح والارشادات الى الشاعرة، فذلك ادعاء لا طائل من ورائه، بل يفسد العمل الفني الجميل، وسيظل الشاعر الفنان شاعرا حرا طليقا وسيظل الناقد ناقدا، يشهر سيفه احيانا في وجه العمل الفني فيمزقه ويشرحه - وتلك بطولة لا ندعيها، وهناك ناقد آخر يصطاد الفراشات الجميلة مكتفيا بلذة القنص وجمال التكوين الذي امتلكه وشارك فيه الفنان، وكلاهما على حق، فالساحة الادبية في حاجة إلى الاثنين معا ولكني استمتعت حقيقة بهذا الديوان وبصحبة هذه الشاعرة التي تحلم بالقادم وتنتظر الغد العربي، لقد غنت الزرقاء وكان غناؤها مرثية حزن على الواقع الذي نعيشه والامل الذي نجهضه، فهل وصلت اغانيها إلينا؟!
د, محمد محمود رحومه

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
المحرر الأمني
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved