Thursday 3rd June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 19 صفر


الطفولة والعالم عند وليم بليك
د, نذير العظمة

تمثل الطفولة عند وليم بليك العالم الذي نحن نحيا فيه؛ بخيره وشره، والعودة إلى عالم الطفولة هي العودة إلى الإنسان، ومنظومة قيمه المتشابكة المتضادة, هذا العالم المتعدد الأبعاد يتقلص إلى درجة الزوال والموت إن نحن حبسناه في البعد الواحد، فالبراءة براءة الطفولة ما تزال نابضة خفية في الحضارة والتجربة, إن الانكفاء إلى الطفولة وحدها لا يحل المعضلة، والانطواء في التجربة وعالمها وحده لا يحمل الحل الذي نتطلع إليه في عالم التشتت والقيم المتقابلة المتناقضة.
وكما يفتش قلقامش في الملحمة التي تحمل اسمه عن السبل التي تحول ثلثه الفاني إلى ثلثيه الخالدين فيسمو بإنسانيته إلى الخلود، فذلك وليم بليك يبحث عن الطبيعة الكاملة في طبيعة الإنسان الناقصة، لا يهرب منها بل يواجهها ويسعى إلى رسم صورة واحدة للعالم والإنسان، صورة يكون الخير فيها والشر جسدا واحدا، كما الإنسان والعالم اللذين يحملان ضمنهما الحياة والموت بله الخير والشر والجمال والقبح، الهدى والضياع.
ويحاول بليك أن يزيح طبيعة الواقع وأن يحل محلها طبيعة بديلة.
فالطفل الذي يضيع في قصائد البراءة يعود إلى أمه وأبيه إلى الفطرة السمحة، إن ثيمة الضياع تجاورها ثيمة العثور في قصيدتَي الطفل الصغير ضاع وعثر على الطفل الصغير من قصائد البراءة، والبنت الصغيرة: ضاعت والعثور على البنت الصغيرة من قصائد التجربة.
ولابد من أن ينجم هنا السؤال ما الفرق بين الضياع والعثور في عالمي البراءة والتجربة, هل الضياع هو الضلال، وهل العثور هو الهدى، أم أن المسألة أبعد غوراً من ذلك واكثر تشابكا؟ ولابد لنا من العودة إلى النص هنا وهناك حتى نتلمس العالم الذي يرسمه الشاعر وليم بليك للضياع والعثور في بعدي البراءة والتجربة.
يقول الشاعر في قصيدة الطفل الصغير ضاع من البراءة ما يلي:
أبي يا أبي
إلى أين تمضي
حنانك خلفتني مسرعاً
أنا طفلك الغض
أدركني الآن قبل الضياع
وما من أب يدرك الطفل والليل داج
يبلله القطر والوحل وحل عميق
هنا الطفل يبكي
هناك بعيدا تعالى البخار
وإذا عرفنا الضياع ضياع الطفولة عن الفطرة في عالم الدموع والبخار الذي يتعالى بعيدا فإنا نسمع صوت الفطرة في قصيدة مجاورة، يحتضن الطفولة ويردها إلى الأمومة المعذبة.
يقول بليك في قصيدة عثر على الطفل الصغير ما يلي:
في الوادي الموحش طفل ضاع
يبكي والله قريب منه
بالضوء يقود الطفل إليه
ولكي نقرب الصورة إلى فكرنا الإسلامي لابد أن نتذكر الضلال والهدى كقيمتين يخير بهما الله الإنسان في عالم الطبيعة فأيهما يختار، ولكن الصورة في قصيدتي بليك لها أبعادها وخصوصيتها وتميزها، فالطفل يضيع في العالم لكن الله يرده إلى أمه من الوادي الموحش، فالطفل يبكي هناك لكن الله قريب منه، ألسنا كلنا عيال الله كما في الحديث الشريف ومن يحرسنا في العالم الموحش غير الله ومن يردنا إلى الهدى من عالم الضلال ويردنا إلى الأم الشاحبة.
لكن بليك الذي يستلهم الفطرة والطبيعة ينغمس في عالم الطفولة.
ليكتشفهما لا في حالة الركود,.
بل في تجليهما الإنساني وتحولهما في الزمن التاريخي بأشكال متعددة أخرى.
لذلك فإن الموسيقى والطفل هما قائداه إلى هذه الينابيع المخبوءة في الإنسان والحضارة.
الطفل الذي يقابل الزمار في القصيدة الافتتاحية في قصائد البراءة يلهم الزمار أن يبري قصبة ريفية ويغطها في الماء ويكتب هذه الروائع من أجل الإنسان.
في هذه القصيدة يقود الطفل على غيمة الشاعر المغني إلى فردوس الطبيعة، إن براءة الطفل تؤدي إلى براءة الطبيعة وتقود إليها.
والشاعر في أغانيه يستلهم مبراءة الطفولة قبل ان تشوبها التجربة، ثم ينعطف على قصائد التجربة ليكشف فيها البراءة.
وينغمس كالريشة التي براها من القصب في الماء ليعبر عن الفرح والحزن والشقاء والسعادة في أحوال الناس جميعا إلا أنه مع الإنسان وضد المؤسسات التي تقمع حيويته والطفولة هي بذرة الإنسانية فإذا قمعنا الطفولة قمعنا الإنسانية، ولذلك نرى بليك يتخذ من الموسيقى المرموز إليها بالزمار أو عازف الناي مفتاح النقلة من عالم إلى عالم ووسيلة الإنسان للعودة إلى الطبيعة والتوحد معها إلى طبيعة يؤاخي فيها الأسد الحمل ويقود الطفل الضائع إلى الأمن والسلام ويتحول الطفل إلى رسم للفرح ومرادف للحمل بنقائه وبراءته.
يذكرنا بالبارىء الذي صنعه، ويصير الطفل الحمل أو الحمل الطفل مركز البراءة طبيعة ميثولوجية يبتكرها بليك احتجاجا على عصر يقهر الطفولة، ويمعن في تدمير براءتها، فيسترجعها الشاعر إلى مركزية كونية.
في قصيدته الطفل الأسود الصغير التي نشرنا ترجمتنا لها في عدد سابق من أعداد الجزيرة، يفصح بليك عن طفل كوني يتجاوز البشرة والعرف واللون في إخوة إنسانية واحدة في خيمة البارىء الواحدة.
كما أنه يستنطق الطفل الأسود ليعلن الحاجة إلى التحرر عند كلا الفريقين البيض والسود على الطفل الإنجليزي أن يتحرر من الغيمة البيضاء والطفل الزنجي أن يتحرر من الغيمة السوداء ليحلقا في سماء الله العالية متحدين.
كما أنه في قصيدة منظف المدخنة يصور لنا الطفولة المستهلكة في المدن الكاسرة كمدينة لندن تقضم براعمها الطرية مداخن المدينة الكاسرة.
ولأهمية هذه القصائد تحتاج منا أن نعود إليها بشكل موسع في جولات قادمة,, أما الآن فنكتفي بترجمتنا لقصيدة الحمل التي تنطوي على مفهوم الطفولة عند بليك وولادتها.
***
الحمل
أيها الحمل الغض من صنعك
أو تعرف قل أنت من صنعك؟!
أعطاك حياة أغدقها
قرب الجدول فوق المرج
وهب ثياب الفرح
يا فروة صوف تلمع
أعطاك حنون الصوت لتعطي
كل الوديان الفرحا
أيها الحمل الغض من صنعك
أو تعرف قل أنت من صنعك؟1
أيها الحمل
أنا من ينبىء الخبراء
أنا من ينبىء.
وقد حاول بليك أن يعبر عن بعد البراءة في الطفولة والطبيعة في القصائد التي أدرجها تحت قسم البراءة لكنه رأى أن الفصل صعب بين البراءة والتجربة فنقل بعض القصائد التي كان أدرجها تحت قسم البراءة إلى قسم التجربة, أضف أن بليك في تعبيره عن عالمي الحقيقة والمجاز يدمجهما أحيانا معا حتى ليخيل للمتلقي أن بليك يتكلم عن الطبيعة كما هي على الحقيقة لكن القراءة المجازية أو الرمزية تبقى مفتوحة وماثلة, فبعد قصيدة الحمل مباشرة يتكلم عن الراعي بقصيدة تحمله كعنوان.
وكما أن الحمل يمكن قراءته كمجاز رمزي في القسم الثاني من القصيدة,إلا أنه في القسم الأول منها الحمل هو الحمل,وكذلك الراعي هو الراعي إلا أن الراعي كمجاز رمزي أو كرمز مركزي في تفكير بليك الشعري وتصوره فالله راعي الكون هو الذي يحفظ الطبيعة ويرعاها، والله هو الذي يحفظ الطفولة والبراءة ويحرسهما.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
المحرر الأمني
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved