Friday 4th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 20 صفر


الدولة والمجتمع في إطار العولمة

منذ نشوء الدولة الحديثة في اعقاب معاهدة وستفاليا، اصبحت الدولة هي حجر الاساس في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي للعالم داخليا وخارجيا, فعلى المستوى الداخلي، اعتبرت انها:ام المؤسسات ، وتمثل قوانينها مصدر الشرعية لمختلف الفعاليات والانشطة الاخرى, وكان من الطبيعي، في هذا الاطار، ان تكون الدولة هي الهيئة الوحيدة التي تتمتع بصفة السيادة، وتحتكر امتلاك الجيوش والقدرة على استخدام العنف بشكل مشروع, وعلى المستوى الخارجي، اعتبرت الدولة الفاعل الرئيسي في مجال السياسات الخارجية والعلاقات الدولية، وانها العامل الحيوي في ايجاد مناخ الحرب او السلام، وفي تحقيق الامن والاستقرار.
على ان دور الدولة قد تعرض لعديد من التطورات في ضوء الازدياد المطرد لعناصر العولمة ، والتداخل بين الاقتصادات، وازدياد وزن التأثيرات الخارجية على عملية صنع القرار في كل دولة، ثم التطور الذي حدث في العملية الانتاجية، وتقسيم مكونات اي منتج صناعي متقدم بين عدد من الدول مما اوجد تقسيماً دولياً جديداً للعمل, ثم جاء اتباع عدد كبير من الدول لسياسات التحرر الاقتصادي واعطاء دور اكبر للقطاع الخاص، والاتجاه نحو تحرير التجارة وتحقيق تدفق حر للسلع والخدمات عبر الحدود، ليؤكد الانطباع بتراجع دور الدولة.
ولفترة، ساد اعتقاد خاطىء بأن عملية التحرر الاقتصادي تؤدي بالضرورة الى انسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية، وبحيث تترك كل التفاعلات الاقتصادية لآليات السوق وقوى العرض والطلب, على ان هذا التصور سرعان ما اتضح قصوره، وخصوصا في حالة الدولة النامية، وبحكم الدور الذي قامت به الدولة تاريخيا في حياة المجتمع, لذلك، يكون من الاكثر دقة اعتبار ان ما يحدث هو اعادة تحديد لشكل العلاقة بين الدولة والاقتصاد، بحيث لاتكون الدولة هي المالك المباشر لأغلب الاصول الاقتصادية، وانما تباشر مسئوليتها من خلال مجموعة من السياسات المالية والنقدية، وكذا نظم الحوافز التي تأخذ بها، والتشريعات التي تعمل وفقاً لها، وفي ضوء ذلك، لاتصبح المسألة انسحاباً للدولة من الحياة الاقتصادية، وإنما ممارسة لدورها بطرق وآليات جديدة.
فلسوف تظل الدولة دوما، وأياً كان شكل النظام الاقتصادي او السياسي الذي تتبناه، هي المسئولة عن المؤشرات الكلية في الاقتصاد، مثل: نسبة التضخم، واستقرار سعر الصرف للعملة الوطنية ازاء العملات الاجنبية، وعجز الموازنة العام، ونسبة البطالة, وسوف تظل ايضاً هي التي تتولى سن القوانين ووضع الاجراءات المنظمة للحياة الاقتصادية، مثل: القواعد الخاصة بتنظيم العلاقة بين صاحب العمل والعمال، وبين المالك والمستأجر بالنسبة للاراضي الزراعية، ونظم التأمينات والجمارك، والقواعد الخاصة بالصحة العامة، وسلامة السلع التي يتم ادخالها الى البلاد, كما ان الدولة تظل مسئولة عن النظام التعليمي واتاحة الفرص لأكبر عدد من المواطنين للالتحاق به, ثم ان الدولة هي التي تتولى -من خلال اجهزتها- التأكد من تطبيق هذه القواعد بواسطة الوحدات الانتاجية والخدمية المختلفة، بغض النظر عن شكل ملكيتها، وعما اذا كانت اجنبية او وطنية،خاصة او عامة او تعاونية, وأخيراً، فان الدولة هي التي تقوم بتوقيع الجزاء القانوني على الوحدات التي لاتلتزم بالتشريعات المنظمة للعملية الاقتصادية، وهي ايضاً التي تنظم القواعد الخاصة بالافلاس.
واذا كان دور الدولة في الحياة الاقتصادية يظل امراً ضرورياً، فان دورها في المجال الاجتماعي يزداد اهمية في مراحل التحرر الاقتصادي, وذلك لأن عملية التحرر الاقتصادي، بما تتطلبه من اعادة هيكلة للوحدات الانتاجية والخدمية، وبإطلاقها قوى العرض والطلب، يترتب عليها مجموعة من الآثار التي يمكن ان تسبب اختلالات اجتماعية ذات شأن ومن هذه الآثار والاختلالات.
أ- ازياد البطالة, وذلك بالنظر الى ازدياد الاعتماد على تكنولوجيا حديثة كثيفة رأس المال وقليلة العمالة, وكذا بسبب قيام الملاك الجدد للوحدات التي يتم خصخصتها بالاستغناء- فوراً او بعد مدة- من اعداد العمالة الزائدة عن الحاجة.
ب- ارتفاع الاسعار، اما بسبب رفع الدعم الذي كانت تقدمه الدولة او بسبب الغاء التسعير الجبري للمنتجات، علىنحو يجعل عدداً متزايداً من السلع والخدمات خارج امكانية الفئات محدودة الدخل.
ج- ازدياد حدة الفوارق الاجتماعية بين قمة الهرم الاجتماعي، والتي تزداد ضآلة، وقاعدته التي تتسع بسبب عدم العدالة في توزيع عوائد النمو الاقتصادي.
د-الضواغط المتزايدة على الطبقة الوسطى، وبالذات اصحاب الدخول الثابتة من العاملين في اجهزة الدولة، والتي تمثل ركيزة الاستقرار في المجتمع.
ه- ازدياد وطأة هذه الآثار على الفئات المستضعفة كالمعوقين وكبار السن.
وفي ضوء ذلك، فقد تنبهت المنظمات الدولية، ومخططو سياسات التحرر الاقتصادي الى اهمية دور الدولة في التنمية الاجتماعية، ليس فقط لاعتبارات انسانية وأخلاقية، ولكن ايضاً لضمان استمرار هذه السياسات في جو من الاستقرار الاجتماعي والسياسي, لذلك فان مفاهيم مثل النمو مع العدالة اصبحت من المفاهيم الاساسية,, وقد خصص البنك الدولي كتابه السنوي لعام 1997لمناقشة دور الدولة، هذا الدور الذي ينبغي ان يتجه الى التعامل الآثار الاجتماعية السلبية الناتجة عن سياسات التحرر، وذلك من خلال انشاء شبكات الامان والاجتماعي، وتشجيع المشروعات الصغيرة، واعداد البرامج لإعادة التأهيل والتدريب، وتحسين خدمات التعليم والصحة، الى جانب التدخل المباشر لحماية الفئات المستضعفة, كما خصص المنتدى الاقتصادي العالمي مؤتمره السنوي لعام 1999 الذي عقد في مدينة دافوس السويسرية لموضوع نحو عولمة مسئولة وذلك للاشارة الى تأكيد اهمية الجوانب الاجتماعية في عملية التحرير الاقتصادي وأخذها بعين الاعتبار.
ويزيد من اهمية الدور الاجتماعي للدولة، الاتجاه الذي تبنته المنظمات الدولية نحو عدم الاكتفاء بالمؤشرات الاقتصادية وحدها عند تقدير مدى تقدم مجتمع ما، ادخالها مؤشرات اخرى، ترتبط بمفهوم التنمية البشرية, لذلك، فإن ضمان استمرار سياسات التحرر الاقتصادي في بلد ما، وضمان تحقيق اهدافها المرجوة يتطلب وجود مجموعة سياسات للتنمية الاجتماعية، يتم تبنيها وتنفيذها بالتزامن مع سياسات التحرر الاقتصادي.
د,عليّ الدين هلال

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved