Friday 4th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 20 صفر


شخصيات قلقة
جوتفريد بن 1886 - 1956م
ضحية النازي,, ضحية سوء التفاهم

بعد الحرب العالمية الثانية انضوى الشعر الألماني تحت تيارين هما: تيار سار على خطى برتولد بريشت، وتيار آخر سار على خطى جوتفريد بن,.
لقد عرض جوتفريد بن الحياة بأحاسيس وصور جديدة، استمدها من عمله كطبيب للأمراض الجلدية والتناسلية، فيحفل معجمه الشعري بكلمات مثل:
الموت، الرطوبة، غرفة العمليات، الدم القاني، المقص، الطاولة,.
ومن هنا اتسم شعره بالصعوبة البالغة، لا لأنه ينحى منحى جوّانياً غائصا في بواطن الروح واضطراباتها، وإنما لأن شعره يقدم من رافدين لا ثالث لهما، الأول: عالم التشريح وغرف العمليات الجراحية، والآخر يتمثل في الإيماءات الدينية الإغريقية.
وقد لفت الأنظار إليه باعتباره شاعرا ذا صوت خاص، وذا موضوع جديد، منذ ديوانه الأول مشرحة الذي صدر في 1912م، يقول في قصيدة بعنوان دورة دموية :
ضرس الغانية الوحيد
التي ماتت مجهولة
محشو بالذهب
أما الأسنان الأخرى فتلاشت جميعاً
كما لو أنها على موعد سري
هذا الضرس خلعه الدّفان
رهنه وذهب للرقص مردداً
التراب وحده، يعود إلى التراب
إنه شعر يلقي ظلالا من البرودة والوحشة، التشاؤم والغرابة، وبنفس القدر من الغرابة كانت حياته ومواقفه السياسية، فبعد الحرب العالمية الأولى التي خدم فيها كطبيب بحري، توفيت زوجته الأولى وانقطع عن الكتابة والنشر لسنوات عديدة، ويصف بن هذه المحنة قائلا:
إني لا أكتب أي شيء,, لا شيء منذ أشهر، ولماذا أكتب ,, ؟
إذ لا يقرأني إلا عدد محدود من القراء,, اتركوني وشأني! فأنا أدير منذ عشرة أعوام عيادة طبية للأمراض التناسلية والجلدية في برلين,.
وكما هو معروف فإن الأمراض الجلدية في تراجع,,
لهذا أفضل وظيفة براتب محدد.
لكي استطيع أن أعمل شيئا لنفسي,, فأنا الآن في الأربعين من عمري ولم أمض طيلة حياتي أكثر من أسبوعين في العطلة, اتمنى لو كان بإمكاني أن أمضي أربعة أسابيع وأن أعرف كيف أدفع إيجار البيت في بداية الشهر .
إن حياة بن من بدايتها نموذج جيد لسوء التفاهم,.
فحين ولد في بلدة مانسفلد لأب ألماني ولأم سويسرية فرنسية، تطلع إلى أبويه غريبي الأطوار بدهشة بالغة، فالأب كان جاهلا لم يقرأ كتابا في حياته لكنه يشع بالقوة والحماس، والأم كارولين عاشت طيلة حياتها تعاني من صعوبة النطق بالألمانية، فوجد بن نفسه في وسط غير موسيقي بالمرة، أهم ما يميزه الضجيج وسوء التفاهم:
اُترك نفسك تُخدع بطيبة
لكن احم وجودك دائما .
وفي الوقت الذي انتخب فيه جوتفريد بن عضوا في الأكاديمية البروسية التي تضم أهم الكتاب والفنانين الألمان، أصبح أدولف هتلر مستشارا لألمانيا، وألقى بن خطبة في الإذاعة الدولة الجديدة والمثقفين هاجم فيها المثقفين الألمان الذين اتخذوا موقفا سلبيا من هتلر، وهاجروا من ألمانيا,.
لكن يبدو أنه لم يكن واعيا لطبيعة الحكومة الجديدة، وأنه كان يحمي وجوده فحسب، فهو لم يقرأ لا كتاب كفاحي لهتلر ولا برنامج الحزب النازي، بل إنه لم يزر حتى التجمعات الحزبية النازية منطلقا من إيمانه بحاجة الشعب إلى التجديد الروحي، غاضا النظر عن الطبيعة العنيفة في تطبيق برنامج الحزب، والتي أدت إلى استقالة الكثير من اعضاء الاكاديمية البروسية للفنون مثل: هانيريش مان، وتوماس مان وغيرهما,
وقد شعر بن بعد شهر من هذه الاستقالات بأنه أيضا غير مرغوب فيه، خصوصا حين كتب إليه كلاوس مان من فرنسا رسالة يتساءل فيها: لماذا لا يستقيل الشاعر بن من الأكاديمية الروسية للفنون؟ فرد عليه بن بطريقة رومانتيكية من خلال الإذاعة جواب إلى المثقفين المغتربين وفي هذه الكلمة يقول بن: لست عضوا في الحزب (النازي),, ولا علاقة لي بقادته,,
فإن كان تلكؤه في الاستقالة قد أوجد نوعا من سوء التفاهم بينه وبين زملائه من الكتب الألمان، فإن كلمته في الإذاعة أوجدت نوعا أخطر من سوء التفاهم، إنه سوء التفاهم مع الحزب والسلطة، ليعيش بن منذ تلك اللحظة عزلة شديدة، يصفها في رسالة إلى أحد أصدقائه:
إنه السكوت المميت، هذا المخيم على العلاقات الشخصية، في العيادة، في التليفون، وعلى البريد,, وفي مكان آخر يقول الآن وصلني تليفون من الإذاعة يفيد بأن إذاعة قصائدي غير ممكنة، فلما سألت عن السبب,, صمت مخجل، لكن السبب الحقيقي هو الروح الانهزامية ,
لقد أصبح بن بين المطرقة والسندان، فكلاوس مان يهاجمه في مجلة المغتربين بشدة وضراوة، ومنظرو الحزب النازي بالداخل يشنون ضده هجوما عنيفا، أدى إلى فصله من رابطة الأطباء القوميين، مما جعله ابتداء من عام 1934 يتحدث بشكل صريح، وبلغة مليئة بالاحتقار عن موقفه الرافض للحزب النازي:
أنا أعيش بشفاه مزمومة داخليا وخارجيا، لا استطيع أن أتحمل أكثر,, كم كبيرا بدأ هذا يقصد الحزب النازي وكم هو قذر الآن,, يمكن أن أترك كل شيء ورائي الآن: الشقة، العيادة، برلين، وحتى الأكاديمية البروسية,, لقد بلغ سوء التفاهم ذروته القصوى، التي تتمثل في العزلة الشديدة والاحباط التام.
عندما يُعلن اسمي كميت
سينصت العالم ,,.
هل سينصت فعلا ,,,؟
في أغلب الظن سيمر مرور الكرام .
لقد اختار بن الاغتراب الداخلي بدلا من الهجرة خارج ألمانيا، ودفع ثمنا باهظا بسبب انفعاله المباشر، ورأيه المباشر الذي لم يستطع تجميله أو مداراته، فأصبح هدفا لسهام الشيوعيين، ولسهام الجرائد النازية أيضا، فهؤلاء يتهمونه بالنازية، وأولئك يتهمونه بالبلشفية، رغم أن الحقيقة أنه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء يميل، لقد تحطم قلبه الكبير من الضربات الموجعة التي تحملها وحيدا بمفرده، خصوصا بعد انتحار زوجته الثانية 1945م خوفا من الروس,,
ويصف بن حالة الاغتراب والكآبة قائلا:
لا يمكن أن تتصوروا كم أنا معزول روحيا ولا علاقة لي ببيئتي، ذلك أن بيئتي غير موجودة في هذا البلد، لا اكتب لأحد، ولا أجيب أحدا ولا أحتاج أيضا لأحد,.
اعلم أني لا أشارك في هذه السياسة الخنوعة، فأنا في الخمسين من عمري، وعليهم أن يرموني بالرصاص,,.
وهذا أفضل من اقتراف القذارة، لأن ما يُعتبر اليوم شعراً ماهو إلا قذارة,, هذا التي تمجد وتتوج بالجوائز,, .
لقد عاش جوتفريد بن مغتربا، شاعرا منذ البداية ببرودة الحياة، وبحاجته الماسة إلى لمسة تعاطف دافئة,, إلى لحظة تحليق نارية,, بدلا من هذا الظلام المروع,.
هذا الفراغ الكئيب الذي يلف العالم بأسره.
شريف صالح

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved