Friday 4th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 20 صفر


منارة قليان في بخارى

* بخارى واحدة من المدن القديمة في بلاد التركستان، افتتحها المسلمون غير مرة ولكن عناصر الترك فيها كانت تعود إلى التمرد بعد مغادرة العرب لها أثناء فصل الشتاء الذي تتجمد فيه الأنهار هناك، ولم تخضع المدينة بصفة نهائية للفتح الإسلامي إلا على يد القائد الشهير قتيبة بن مسلم الباهلي الذي افتتحها في عام 93ه بعد هزيمة ملكتها وفرارها, وقد لجأ هذا الفاتح العظيم إلى أسلوب المساكنة لإقرار الدعوة الإسلامية في بخارى وما حولها فأمر الفاتحين العرب بمساكنة من أسلم من الأتراك لتعليمهم فرائض الإسلام ومراقبة المتمردين في ذات الوقت وبفضل هذا الاسلوب انتشر الإسلام وتدعمت أركانه في أواسط آسيا.
وقد شهدت مدينة بخارى فترات من الازدهار الحضاري والعمراني، وخاصة في عصر الأسرة السامانية التي تحولت المدينة في عهد حكامها إلى مركز اشعاع علمي وديني في آسيا الوسطى ويكفي بخارى أن تتيه فخرا بانتساب كل من الإمام البخاري صاحب الصحيح والطبيب والرياضي الموسوعي الشهير ابن سينا إلى هذه المدينة.
ونتيجة لغزوات المغول من ناحية والصراعات بين الأسر التركية الحاكمة من ناحية أخرى فقد تعرضت بخارى للدمار والتخريب عدة مرات وعلى الرغم من القسوة التي اشتهر بها القائد المغولي التركي الأصل تيمور لنك (الأعرج) إلا أنه وأحفاده من بعده الذين حكموا بخارى منذ القرن التاسع الهجري (15م) لم يألوا جهدا في سبيل تعمير المدينة وتزويدها بالعمائر التي لايزال أغلبها قائما في المدينة التاريخية وما حولها من مدن التركستان مثل سمرقند وطشقند.
وأعلى العمائر التاريخية هامة في بخارى الكائنة بجمهورية أوزبكستان، تلك المئذنة السامقة المعروفة بمنارة قليان، إذ يبلغ ارتفاعها حوالي 46,5 مترا وتعتبر أجمل ما في مجموعة بخارى المعمارية المركزية والتي يرجع تاريخ بناء وحداتها إلى السنوات الأولى من القرن العاشر الهجري (16م), وتضم هذه المجموعة مسجد قليان المشيد في عام 1514م وهو يتكون من صحن أوسط مكشوف تحيط به أربع ظلات للصلاة، أهمها ظلة القبلة التي يوجد بوسط جدارها الغربي المحراب ويدخل إليها عبر بوابة معقودة مبنية بالآجر وبها فسيفساء خزفية من ألوان متعددة.
وفي هذه المجموعة المعمارية الضخمة قبتان متداخلتان الواحدة في الأخرى فوق قاعدة مزخرفة طويلة تشبه الطبلة وتبدو وهي تطل على المدينة وكأنها تندمج مع قبة السماء الزرقاء في ذات الوقت الذي تتناغم فيه مع القباب التي تغطي الجامع وعددها 288 قبة محمولة على 308 من الأعمدة، وقد اكتسبت مجموعة بوى قاليان أي قدم العظيم شكلها الحالي عندما اكتمل بناء مدرسة مير عرب (أمير العرب) الشهيرة في بخارى عام 1535م.
وبناء المئذنة، المشيدة على هيئة بدن اسطواني مستدق إلى أعلى، يبعث الرهبة في النفوس لما فيه من مهابة يزيد من جلالها الزخارف الهندسية الدقيقة التي تم تنفيذها بالآجر، وجوسق هذه المنارة المخصص لوقوف المؤذن عبارة عن شبابيك ذات عقود فارسية يبلغ عددها 16 شباكا وينتهي هذا الجوسق بصفوف من المقرنصات.
وفي داخل المئذنة سلم حجري حلزوني مكون من 104 درجات وهو يؤدي إلى أعلى الجوسق المشرف في شمم على المدينة.
وتحيط بهذه المئذنة عدة أساطير تتناقلها أفواه الرواة من جيل إلى جيل في هذه الجمهورية الإسلامية ومنها أسطورة تقول بأن المعماري الذي بناها، وضع أساسها باستخدام محلول من طين خاص ولبن الجمال وأنه ترك أساسات المئذنة لمدة عامين حتى جفت تماما، ثم عاد لاستكمال عمارتها، ولعل السبب في ذيوع مثل هذه الرواية ذات الطابع الأسطوري أن منارة قليان قد صمدت أمام الزلازل التي ضربت بعنف أواسط آسيا مرارا وتكرارا طيلة القرون الثمانية التي أعقبت تشييدها، حتى أنها لم تفلح في زحزحة أي جزء من قمتها، ولم تحتج المئذنة إلا لترميم جزئي بعد عام 1920م.
ويظهر من بناء المئذنة أن مشيدها كان على المام كامل بتقاليد العمارة الإسلامية في بلاد فارس ولعله كان من البنائين الفرس الذين انتقلوا للإقامة في بلاط التيموريين طلبا للشهرة والغنى ومهما يكن من أمر فإن متانة أساسات المنارة الضاربة في أعماق الأرض على قاعدة حجرية في الأغلب وخفة قوالب الطوب الأحمر وأحكام بنائها قد وفرا لمنارة قليان فرصة البقاء سامقة في واحدة من أشهر مناطق العالم بالزلازل المدمرة.
ومن الروايات الخرافية المرتبطة بمنارة قليان، تلك القصص التي تقف وراء تسميتها باسم برج الموت ، وتدور هذه الروايات حول أن حكام بخارى من أحفاد الغازي الكبير تيمور لنك كانوا ينفذون أحكام الإعدام بحق المجرمين والعصاة من أعلى قمة المئذنة ليلاقوا حتفهم على أرض الميدان الحجري الذي يقع أسفلها.
ومهما يكن من أمر مثل هذه الروايات الأسطورية فإن منارة قليان التي تستقطب اهتمام واعجاب زوار ميدان ريغستان ببخارى تقف شاهدا على روعة العمارة الإسلامية والإنجازات البنائية البارعة للمهندسين المسلمين، والتي هي الآن بأشد الحاجة لمساندة جهود ترميم هذه الآثار بعدما كادت أن تندثر أثناء سيطرة السوفيت على جمهورية أوزبكستان.
د, أحمد الصاوي


رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved