Friday 11th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 27 صفر


18 عاماً في صحبة الشيخ ابن باز 3

منفردين في المتيسر من فتاواه ومقالاته وكان يؤكد على من حوله: ان الوقت ليس مخصصاً للمراجعين، واصحاب الحاجات، أخبروهم بأن الوقت المناسب بعد صلاة الجمعة، لأن وقت الجلوس لهم لسماع الدرس في تفسير ابن كثير ثم لقضاء حوائجهم وللراغبين في الغداء فالسفرة ممدودة كما هو طبع سماحته رحمه الله وكرمه.
توقف سماحته عن الاصغاء والسماع، وأدركت انه يفكر في أمر ومن باب الأدب معه توقفت عن القراءة فأخرج ورقة لمراجع في جيبه وقال: لأن الوقت لك فهل توافق على قراءتها لقضاء حاجة صاحبها, والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه,, ولن أعطيك غيرها,, فهو رحمه الله قد تأدب بالاستئذان مع انه صاحب الكلمة الا ان هذا نموذج من حسن ادبه العاملين معه,
فخجلت من لطافته وحسن ادبه كيف يستأذنني وانا تلميذه الصغير وآتمر بأمره ولكنه الخلق وحسن السمت الذي طبع الله به أخلاق هذا الرجل، ومن دون تكلف، بل هو سجية مع الصغير والكبير والضعيف وذي الحاجة.
تناولتها من سماحته,, وبعد القراءة وجه بها ما يراه بما يرضي صاحب الطلب,.
ثم قال: لقد كلفتك كثيراً وتحملت المجيء في كل وقت: ليلاً ونهاراً والخميس والجمعة والأعياد وفي الشتاء والصيف وسوف آمر لك بمبلغ كذا,, خذها من فلان,, فقمت وقبلت رأسه، وقلت: من حقي عليك ان تميت هذا الموضوع ولا تعطيني على عملي شيئاً، فقد احببتك في الله، وأنا أخدمك محبة وتقديراً وخدمة للعلم وأهله وحطام الدنيا قد يفسد ما كنت انوي من العمل وما قصدته من اخلاص في خدمتك وخدمة العلم وانا والله بخير ومرتبي فيه بركة وقناعة، واذا دخل طمع الدنيا القلب تطلعت النفس لهذا الحطام مرات، وقد اعانني الله على العمل بفضله ثم بدعواتكم وهذا خير مكسب لي وجزاك الله خيراً وجمعنا في مستقر رحمته سوياً.
قلت ذلك بتأثر بان من نبرات صوتي واغرورقت عيناي بالدمع، فرق قلبه رحمه الله وهو رقيق دائماً الا على اهل البدع والمنكرات، لأن غضبه لله سبحانه وتعالى, ودمعت عيناه,, وبعد لحظة وجوم دعا لي بدعوات أرجو ان تكون قد قبلت,, ثم استأنفنا القراءة في عرض الفتاوى والمقالات لمساحته وتعديلها منه.
وبحمدالله لم يثر الموضوع مرة اخرى حتى لقي ربه,, ذلك ان الرجل الكريم تتحرك خصال الكرم والنبل فيه دائماً وعند كل موقف، ولا تهدأ هواجسه الا عندما يسخو ويبذل لترتاح نفسه، لأنه رحمه الله يحب الخير للناس جميعاً ويرتاح للاحسان اليهم وبذلك احبه القاصي والداني وقد انطبق عليه قول الشاعر:
ولو لم يكن في كفه غير روحه
لجاد بها فليتق الله سائله
وهذه حقيقة اسوق عنها نموذجاً واحداً وما اكثر نماذجها لدى سماحته منذ حداثته ومع قلة ما في يده في اول امره فهو خلق جبل عليه والخلق اسمى من التخلق.
ففي أحد الأيام كنت عائداً مع سماحته من الديوان الملكي في الجلسة الاسبوعية المعتادة، ولما دلفنا من باب البيت سلم على أهل المجلس المنتظرين قدومه، وهو في المدخل، ليطلب منهم التفضل للغداء،,, فاذا بأحد الضيوف وهو من احدى الدول الأفريقية,, من شرقيها يطلب من الشيخ ان يعطيه مشلحه العباءة التي كانت عليه، لأنه يريد ان يلبس شيئاً منحه اياه الشيخ ابن باز، رغم انهم في بلادهم لا يلبسون هذه العباءات,, فقال له الشيخ نعطيك غيرها من البيت, قال: لا اريد الا هذه والآن بدون تأجيل فخلعها سماحته وهو واقف، وسلمها له فلبسها الرجل في الحال,, وقال: هذه أفتخر بها.
ولما حكيت ذلك لأحدهم قال: مثل الشيخ يجب الا يثقل عليه بالسؤال لأنه لا يرد سائلاً ابداً حتى لو طلب ثوبه الذي عليه لوعد السائل ان يعطيه اياه بعد ان يلبس ما يستره عنه.
- يظن بعض الناس حسب ما أسمع مشافهة او مما طفح على كتابات بعضهم ان الشيخ عبد العزيز يسمع الكلام وانه يستعجل في حكمه وفتاواه وهذا خطأ شنيع في الفهم، فالشيخ لا يحركه الكلام ولا يأخذ بالظنة، ولكن الله اعطاه ذكاء كذكاء اياس بن معاوية، عندما سئل عن تعجله في الحكم,, فرفع اصابعه وافردها، وقال للسائل: كم هذه؟ فقال: خمسة, فقال له لماذا تعجلت في الحكم,,؟ قال: لأن هذا شيء واضح لا يحتاج الى إعمال فكر,, فقال اياس: وكذلك الحكم عندي والفتوى لأن الدليل محفوظ فلا يحتاج الأمر الى تدقيق ومراجعة.
وكذلك الشيخ من معايشتنا له، ومعرفتنا بعلمه وطريقته فهو دائم القراءة في كتب الحديث والفقه ودائم المراجعة ويعرف رجال الحديث ومنازلهم كمعرفته لأفراد اسرته ومن حولهم,, واذا شك في نص حديث او فحوى فتوى فإنه يؤكد علينا عدم بعثها الا بعد المراجعة، فيرجع للمصدر: سواء كان في الحديث او الفقه، ليؤصل الرأي ويمكن النص الصحيح الثابت عند اهل العلم وان كان عندهم آراء متعارضة زكى سماحته ارجح الآراء عنده واعتمده,, ثم يأمر من حوله ممن عنده الفتوى او غيرها ذات التوقف ليزيل الشك بما ثبت لديه من اليقين.
ولم اره أخر شيئاً أكثر من يومين، لأنه يهتم بذلك، وبالبحث المراجعة حتى يترجح عنده ما ترتاح اليه نفسه بالقرينة.
وما اكثر الاستخارة عنده - تلك الاستخارة الشرعية التي يطمئن معها القلب - فيثبت في الفتوى او الكلمة ما ارتاحت نفسه اليه بعد استخارة الله ودعائه سبحانه.
- وحتى في شؤونه الخاصة، فأذكر قبل سنوات عندما اصيب بعد الحج بحصاة المرارة وهو صبور جداً لا يشكو الا من شيء بلغ غايته,, فقد ذهبت معه لصلاة الفجر في مكة، ثم عدنا وهو يحس بالألم لكنه متحامل على نفسه وكنا نقرأ عليه وما شعرنا بما يؤلمه فقام ليستريح كالعادة وذهبت لغرفتي للنوم قليلاً قبل الذهاب للعمل، وما كاد النعاس يداعب اجفاني حتى سمعت قرعاً على الباب واذا بأحد العاملين في بيته يقول: ان الشيخ عاد الى المجلس وهو يطلب حضورك,.
نزلت مسرعاً، فوجدته قد حنا ظهره على بطنه ووضع يديه على البطن متألماً فسألته عما به؟ فقال: أشكو ألماً شديداً في البطن,, فاطلب لي الدكتور.
اتصلت بمدير مستشفى النور التخصصي الدكتور حسن الزهراني وهو من المحبين للشيخ جزاه الله خيراً,, فجاء مسرعاً ومعه فريق من الاطباء وبعد الكشف الاولي قرروا نقله للمستشفى للكشف بالأشعة للاشتباه بالمرارة,, وفي المستشفى ثبت ذلك وقرروا العملية بالمنظار,, ولكن المسؤولين وفقهم الله لما عرفوا امروا بنقله في نفس اليوم لمستشفى الهدا بالطائف وفي الليل وصل الأطباء من التخصصي بالرياض والقوات المسلحة بالرياض والنور بمكة علاوة على المختصين في مستشفى الهدا بالطائف.
وقرروا في الصباح اعادة الكشف والتحاليل من اجل العملية، وتحديد مكان الحصاة,, ولكن المفاجأة كانت كبيرة امام الاطباء حيث لم يجدوا الحصاة بتاتاً وتبين انها انزلقت وذهبت وزالت الشكوى فحاول الاطباء معه السفر للرياض لاستكمال الفحص فرفض,, وقال: كنت قد استخرت الله سبحانه في الليل فلم يرتح قلبي للعملية وقد كانت نفس حصاة المرارة جاءتني وانا بالمدينة المنورة وأرسل الملك فيصل رحمه الله فريقاًطبياًو في صباح اليوم الذي قرروا فيه العملية ذهب ما كنت اشكو منه وذلك لأنني استخرت الله تعالى في الليل وحصل لي ما حصل هذه المرة,, فأنا متوكل على الله ولا اريد العملية,, وقد شفاه الله وتوفي ولم يشك من المرارة ولا حصاتها بعد ذلك رحمه الله.
أما السيرة الذاتية لسماحته فإنه عند الانتهاء من مسودة الجزء الاول وعرضه للطبع طلبت من سماحته أن يكون بعد المقدمة تعريف بصاحب الكتاب فوعد بإملائها علي بنفسه وقد كان حيث املاها بلسانه ووضعتها بصيغتها عندما تحدث عن نفسه وهذا من الامانة في النقل لأنه رحمه الله طالما كرر علي القول: لا تكتب عن انسان وهو على قيد الحياة لأنه لا تؤمن عليه الفتنة.
وذلك لما يسمع في برنامجي الاذاعي: فقهاء الاسلام وفي كتاباتي ومحاضراتي عن بعض العلماء من بلادنا فأخذت بوصيته وآثرت ان تكون كتابة سيرة حياته ما يرضاه وما ينطق به لسانه ومعلوم ان اصدق السير والتراجم للاشخاص ما كان بقلم الانسان عن نفسه، أو لسانه لأن ذلك اوثق ولانه يضع ما يريد اثباته ويترك ما لا يرى حاجة اليه.
- وعن حج سماحته سألته عن ذلك، ونحن خارجون من المسجد الحرام، بعد صلاة التراويح مساء السبت 18/9/1409ه وانا وهو في السيارة,, فقال: اول سنة حججت فيها وهي اول سنة ايضا أعتمر فيها,, كان ذلك في عام 1349ه مع الجوهرة بنت احمد السديري في مجموعة سيارات بوسطة عددها عشر تابعة لابن سليمان وقال: نزلنا في الأبطح في بيت اسرة الامام عبد الرحمن بن فيصل وكنت أذهب للحرم وحدي لأن لدي بقية من النظر ولم يذهب نظري كله والناس ذلك الوقت قليل عددهم في مكة فكنت أذهب الى الحرم واطوف وارجع وحدي والمطاف خفيف جداً والحجاج في تلك السنة عددهم قليل, وقال: وحججت بعد ذلك اربع مرات:
- الحجة الاولى التي تعد الثانية له في عام 1351ه.
- الحجة الثانية التي تعد الثالثة له في عام 1354ه.
- الحجة الثالثة التي تعد الرابعة له في عام 1363ه وهو قاض بالخرج.
- الحجة الرابعة التي تعد الخامسة له في عام 1368ه وهو قاض بالخرج ايضاً.
- ومن عام 1372ه حتى وفاته وهو مواصل الحج بدون انقطاع ما عدا سنة 1419ه وهي آخر سنة في حياته رحمه الله، فقد نصحه الأطباء بعدم الحج، ولكنه جاء في يوم الخميس 22/12/1419ه من الرياض الى مكة واعتمر وبقي في مكة حتى يوم 1/1/1420ه حيث خرج للطائف.
- وقد حدثني بذلك مرة اخرى تأكيداً للمرة الاولى مشافهة من سماحته في يوم 1/12/1417ه في مكة المكرمة عندما حدثني عن ذكرياته عن الحج التي يحلو له ذكرها في موسم الحج اكثر السنوات او في شهر رمضان عندما يأتي معتمراً.
كان هذا الحديث وانا واياه في السيارة سوياً بعد صلاة الظهر من المسجد الى المكتب كالمعتاد - رحمه الله وقد سجلته عنه في حينه.
وقد ذكر عن حجه في عام 1354ه انه جاء برفقة الشيخ محمد بن سعيد للعمرة والحج ووصلوا مكة في شهر شعبان وسكنوا في رباط المغاربة وبقوا بمكة حتى نهاية الحج من تلك السنة.
- وعن التراويح وعدد ركعاتها كان مما حدثني به - رحمه الله قوله, في عام 1364ه كنت قاضياً بالدلم بالخرج وقد صليت بهم التراويح حيث رأيت تطبيق السنة وذلك بأن تكون التراويح ثلاث عشرة ركعة واستمررت على ذلك رغم ان السائد في نجد ان التراويح ثلاث وعشرون ركعة.
اللص الظريفذكر التنوخي في كتابه: ان عبيد الله بن محمد الصروي، قال: حدثني بعض اخواني انه كان ببغداد رجل يطلب التلصص في حداثته ثم تاب وصار بزازاً، فانصرف ذات ليلة من ذكانه وقد أغلقه فجاء لص متزيٍّ بزي صاحب الدكان في كمه شمعة صغيرة ومفتاح فصاح بالحارس، واعطاه الشمعة في الظلمة وقال: أشعلها، وجئني بها، فان لي في هذه الليلة في دكاني شغلاً, فحضر الحارس وأشعل الشمعة وركب اللص المفاتيح على الاقفال ففتحها، ودخل الدكان فجاء الحارس بالشمعة مشتعلة فأخذها منه وهو لا يتبين وجهه وجعلها بين يديه وفتح سفط الحساب، واخرج ما فيه وجعل ينظر في الدفاتر ويوري بيده انه يحسب والحارس يطالعه في تردده ولا يشك في انه صاحب الدكان الى ان قارب السحر فاستدعى اللص الحارس وكلمه من بعيد وقال له: اطلب لي حمالاً.
فجاء بحمال فحمل عليه من متاع الدكان اربع رزم مثمنة، وأقفل الدكان وانصرف ومعه الحمال واعطى الحارس درهمين فلما اصبح الناس جاء صاحب الدكان ليفتحه فقام اليه الحارس يدعو له: فعل الله بك وصنع كما اعطيتني الدرهمين البارحة فأنكر الرجل ما سمعه ولم يرد جواباً وفتح دكانه فوجد سيلان الشمعة وحسابه مطروحا وفقد الرزم الاربع، فاستدعى الحارس وقال له: من الذي حمل معي الرزم البارحة من دكاني؟.
فقال الحارس: أليس استدعيت مني حمالا فجئتك به فحملها معك؟ قال: بلى، ولكني كنت ناعساً منتبذاً واريد الحمال فجئني به,, فمضى الحارس فجاءه بالحمال، فأغلق الدكان واخذ الحمال معه ومشى وقال: الى اين حملت الرزم البارحة فإني كنت منتبذاً, قال: الى المشرعة الفلانية واستدعيت فلاناً الملاح فركبت معه، فصعد الرجل المشرعة فسأل عن الملاح، فدل عليه وركب معه، وقال: أين أوصلت اليوم أخي الذي كان معه الرزم الأربع؟، قال: الى المشرعة الفلانية، قال: اطرحني اليها فطرحه,, قال: ومن حملها معه؟ قال: فلان الحمال فدعا به ولطفه وقال: اين حملت الرزم الأربع البارحة, واستدله برفق واعطاه شيئاً, فجاء به الى باب غرفة في موضع بعيد عن البلد قريب من الصحراء، فوجد الباب مقفلاً واستوقف الحمال حتى فتح الباب, ودخل، فوجد الرزم بحلها فلفها في قماش معلق ودعا الحمال فحملها، وحين خرج استقبله اللص, وفهم الأمر فاتبعه الى الشط فحط عن الحمال ثم أدخل الرزم مع صاحبها السفينة كأنه مختار متطوع, واخذ القماش الملفوفة فيه وجعله على كتفه وقال للتاجر: يا اخي أستودعك الله فقد استرجعت رزمك، فدع كسائي، فضحك منه وقال له: انزل ولا خوف عليك, ]الفرج بعد الشدة 5: 257، 258[.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
لقاء
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved