Friday 11th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 27 صفر


من المكتبة
مفهومي للتجربة الأدبية

إن اكثر ما يتعب الكاتب المبتدئ ويحيره هو البحث عن التقنية التي يريد ان يكتب بها في سياق الاسلوب الملائم لعصره, الموضوع قد يكون جاهزا في ذهنه, معظم الكتاب الناشئين المهووسين بتجاربهم الذاتية، صعب اقناعهم ان التقنية هي التي تقيم الموضوع الادبي والفني وتحددهما، فكثيرا ما نشغل انفسنا بتعميق الموضوع فإذا بالشكل يتدخل ليطغى عليه ويحتويه إلى درجة يصير متبنيه, انه إزميل مايكل انجيلو وليس الرخام، ريشة ليوناردو دا فينشي لا الجو كاندا، عبقرية شيكسبير تسمو على التاريخ الحقيقي او الارضائي الذي اقتبسه وصاغه ميشال زيفاغو، والكسندر دوما الاب وجورجي زيدان في رواياتهم التاريخية, لكن هذا البحث عن التقنية الملائمة والمتطورة يعاني منه حتى كبار الكتاب, فرواية الامطار لسومرست موم, مثلا ما كانت لتنجح لولا ان اكتشف فيها احد اصدقائه شكل مسرحية فإذا بها سبب بداية شهرته بعد احد عشر عاما من اهمال اعماله, بهذا المفهوم ننظر اليوم إلى كثير من الروايات نظرة مسرحية، ومسرحيات نظرة روائية، وهناك مسرحيات وروايات لم يعط لها الاعتبار إلا على الشاشة.
أعتقد ان المصابين باسهال الكتابة هم الذين يساعدون على وجود قراء سطحيين لم يعرفوا بعد كيف يختارون ما يقرؤون, إنهم يكتبون كما لو انهم يمارسون هواية جمع الطوابع البريدية, (وهناك دور نشر تدعم عملهم شهريا أو سنويا بتسبيقات تكفل لهم عيشهم في انتظار عمل جديد) يرتبون الاشياء، يسلسلون الاحداث، يحشرون كل التفاصيل الدقيقة بحماس خشية ان يفلت منهم كل ما يحدث حولهم بحذافيره, ساذجو الكتابة هؤلاء قد يحصدون مرة او مرتين غلتهم، لكنهم غالبا ما يواجهون العجف الادبي بقية حياتهم الادبية, انهم إذا سقطوا في المجاعة الادبية فليس سهلا عليهم ان يضمنوا لأنفسهم القيام منها مرة اخرى, مصيرهم مقبرة الادب.
إن المبدع الحقيقي لا ينتظر أحدا لتزكيته وتعزيزه، فقد تأخر معاصرو شوبنهور في فهم مؤلفه العالم إرادة وتخيل فمدح نفسه بالاعتزاز الذي يستحقه: ان ما يعيش طويلا ينمو ببطء .
إن أدنى حادث فاجع يوحي للمستعجلين في الكتابة بمشروع كتابة عمل كبير, بعضهم يكون لديه موضوع لكتابة عمل واحد يلح عليه بهوس, أحيانا يتلاشي في الوهم، احيانا يزعجنا بتفاهته: يقدمه لنا بانفعال وتهافت كما لو انه كتب وصيته الادبية قبل ان تباغته كارثة ما، ذهنية او جسدية، ربما خشية ان يفارقه الالهام، لكنه غالبا ما يكون مثل كاتب قروي جاء المدينة ليكتب قصة عن قريته كما عبر مورافيا ثم أضاف عن نفسه دون انتظار من يقيمه ويصنفه: أما أنا فأملك روما والانسان .
في معظم الاحوال تكون سيرة الكتاب القرويين الذاتية هي الشاهد على صدق الاحداث الانسانية، المأساتية التي يتمنون ان يحفظها التاريخ الادبي كوثيقة تدين مجتمع جيلهم الظالم، وحكامه الذين لا يختلفون كثيرا في حمقهم عن اباطرة الرومان في خلاعتهم ووحشيتهم.
معاناة التجربة، الذهنية والواقعية، صبر التنقيح، مغامرة البحث عن اشكال جديدة,, كل هذه التي يعترف بها بعضهم بكل تواضع هي التي تشرح لنا عظمة عبقريتهم: مرغريت ميتشل اعادت كتابة احد فصول ذهب مع الريح سبعين مرة، وليم فوكنر كشفت مسوداته عن طريقة كتابته رواياته التي كان يكتبها على شكل قصص قصيرة ثم يبتكر لها شكلها الروائي النهائي، إدغار آلان بوقضى عشر سنوات لانجاز قصيدته الغراب، بول فاليري وقصيدته البارك الشابة (ثلاث عشرة سنة لكتابتها)، مالا رمي ونحته للكلمات، لويس بورخيس الشمولي ومعادلته الكونية, أما لورنس سترن فقد امضى 47 سنة لاتمام تريستام شاندي.
على ان هذه الشهادات لا تدين كل من يكتب دون مراجعة وتنقيح, يُروى عن موليير انه كان يكتب بعض مسرحياته من اليد إلى الفم (قد يتم فصلا خلف ستار المسرح)، كافكا كتب المحاكمة في ليلة واحدة (حسبما يذكر عبدالرحمن بدوي في مقدمته للاشارات الالهية للتوحيدي)، ستندال املي راهبة بارم على نساخ في اقل من شهرين (58 يوما) وطه حسين أملى كتابه الايام في ستة أيام, هناك آخرون لم يخلدوا إلا بعمل واحد: دانتي في الكوميديا الالهية، ميجيل دي ثرفانتيس في دون كيخوتي دي لا مانشا، هارييت ستو Harriet Stew في كوخ العم توم، مرغريت ميتشل في ذهب مع الريح، الاختان شارلوت وإيلمي برونتي في جين ايرو مرتفعات وذرنج، بوكاشيو في ديكاميرون، جوستافو أدولفو بيكر في قوافيه، لوتريامون في اناشيد مالدورور وألكسندر دوما الابن في غادة الكاميليا,,, الخ,إن حب الاكتمال في الفن يكاد يتحول في اذهاننا إلى اسطورة عندما نعرف ان جبران خليل جبران اعدم بعض اللوحات التي لم يتمها قبل وفاته رغم إلحاح ورجاء صديقته وحاميته ماري هاسكل عليه لابقائها، ابو حيان التوحيدي وكافكا احسا بعبث اعمالهما، أو شعوراً بالخطيئة، مثل نيكولاي غوغول الذي احرق جزءا من الجزء الثاني من الارواح الميتة بعد ان ادرك ان الفن يتناقض مع الدين، وكان يعيش هلوساته بحدة في اواخر حياته, سواء لصعوبة اعادة كتابة النتاج القديم، او (ترقيعه)، كما قال ابو حيان التوحيدي، أم شعورا بالعبث مثل توقف رامبو عن الشعر عند عتبة المغامرة التي مسته، هروب لورنس العرب من الشهرة وانتحاره، وماياكوفسكي وريسنين اللذين فضلا الانتحار من ان يكتبا عن معجون الاسنان والمنجل.
* من كتاب (غوياة الشحرور الابيض) لمحمد شكري.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
لقاء
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved