Friday 11th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 27 صفر


شخصيات قلقة
ألكسندر بوشكين 1799 - 1837
الأب الروحي لأدباء روسيا

ذات يوم ظهرت إحدى صحف بطرسبورج محاطة بإطار أسود معلنة أن شمس الشعر الروسي قد غربت فتعجب رئيس البوليس السياسي قائلاً: لماذا كل هذا الضجيج على فرد لم يكن يشغل حتى منصبا مهما , وسخرت دوائر القصر وتبادلت النكات عن ذلك الشويعر ذي الزوجة ذات الجمال البارع , هكذا انطوت صفحة أعظم شعراء روسيا، الذي تحتفل الأوساط الأدبية في العديد من مدن العالم، هذا الشهر - شهر مايو - بالمئوية الثانية لميلاده، باعتباره أول شاعر قومي روسي، وأول كاتب ذو جاذبية وأهمية عالمية، فإذا كان بطرس الأكبر ربط روسيا بأوروبا بمعنى محسوس فقد حقق بوشكين هذا من الناحية الفنية والروحية, لقد ارتبط ظهور بوشكين بالنهوض الروحي للشعب بأسره، ولذا قيل بأن كل تيارات القرن الثامن عشر تؤدي إلى بوشكين وكل أنهار القرن التاسع عشر تنبع منه.
لقد عاش بوشكين وقاسى في حياته عددا لا مثيل له من التناقضات، أولها التناقض بين المجتمع المتأثر بالغرب والشعب البسيط المتمسك بالتقاليد القومية، وقد وعى هذا منذ كان طفلا لأسرة أرستقراطية يتعلم الفرنسية على أيدي مدرسين خصوصيين، ويكتب بها أول أشعاره، وعلى النقيض من هذا يتعرف على الأغاني الشعبية وقصص الجنيات واللغة الروسية، ومن خلال مربيته التي خلدها فيما بعد كرمز لروسيا, وما عانى منه بوشكين ليس ازدواجا في اللغة وحسب، وإنما ازدواج في المزاج أيضا، أوصله إلى حالة من الاحساس باللا جدوى، فرغم دراسته في إحدى المدارس الراقية المعدة خصيصا لمن سيصبحون من كبار الموظفين، ورغم دراسته لكثير من اللغات والفلسفات وعمله بوزارة الخارجية، إلا أنه كان يشعر بأنه إنسان لا قيمة له، وانعكس ذلك على حياته الخاصة، فعاشها طولا وعرضا، لا يذهب إلى عمله إلا ليتقاضى الراتب، ثم بعد ذلك يخلص إخلاصا حقيقيا لبافوس وفينوس، فيحيا حياة العربدة الحافلة بعلاقات غرامية ومقامرات ومبارزات لا آخر لها.
لقد تحول الازدواج لديه إلى مستوى أعمق، يتعلق بالصدام بين تطلعات الرجل الصغير وأعمال القهر التي تقوم بها الدولة الكبيرة، ونما هذا الاحساس لديه مع ظهور الجمعيات السرية المناوئة للحكم الاستبدادي (التي واكبت حركات التحرر الوطني في أوروبا مثل: الثورة في نابولي، الانتفاضة في إسبانيا، النضال ضد السيطرة التركية في اليونان) فانضم بوشكين إلى تلك الجمعيات، وراح ينادي بالحرية ويهاجم نظام العبيد، وتداولت العاصمة نسخا خطية من قصائده الهجائية الحادة، وأصبح المعنى الوحيد لوجوده هو أن يكتب قصيدة جديدة محرضة.
وكان لابد أن يدفع ثمن اندفاعه الأحمق حيث نفته السلطات إلى جنوب روسيا أربع سنوات, وهناك وجد في المذهب الرومانتيكي ضالته المنشودة، وطريقا للخلاص مما يعانيه من تناقضات، فقرأ بايرون وغيره، وعكف على الكتابة بغزارة، دون أن يغير شيئا من حياته السابقة، بل أصبح الوقت أكثر اتساعا لمزيد من العلاقات الغرامية والمبارزات، كما أصبح أكثر صراحة في التعبير عن آرائه التحررية المتطرفة، وفي تحقير رؤسائه, ولم يكن هناك بد من أن تعيده السلطات ليعيش في ضيعة عائلته مع فرض الإقامة الجبرية عليه مدة عامين آخرين، وقد انقذه تواجده في القرية من الاعتقال مع أصدقائه الديسمبريين في 14 ديسمبر 1925م, ورغم هذا فقد تألم بوشكين كثيرا من فشل الانتفاضة ومن الفجيعة بأحسن أبناء روسيا، وفظاظة الحكومة القيصرية فكتب: الذين شنقوا مضوا، ولكن المريع أن يرسل إلى الأشغال الشاقة 120 من الاصدقاء والاخوان .
وعلى المستوى الفني عاش بوشكين ازدواجا من نوع آخر، فقد انضوى بوشكين كما قلنا تحت لواء الرومانتيكية، وكان يعتبر الرومانتكية والتحرر شيئا واحدا، ومن ناحية أخرى كان واقعا تحت سطوة الاتجاه الاتباعي السائد، فكان بطبعه الناري يكره المبالغة والتكلف وكذلك الأمور الخارقة للطبيعة، وفي أحيان أخرى نراه يكتب عن الطامحين المؤمنين بالخرافات في روايته الشهيرة ملكة البتوني ولكنه يعرض - في النهاية - وقائع غريبة ومشاعر عاصفة بأسلوب اتباعي بحت, وتجلى حسه الرومانتيكي في إيمانه بالإلهام اللا شعوري، وتأملاته في الطبيعة والحب والموت وذكريات الماضي، وفي قصائد شعرية كاملة التوازن في النغم والصور، عنيفة، بسيطة، وشديدة الانفعال.
أدمر فكرتي عن الحب
وأحاول أن أنسى الحلوة
وبتفادي ماشا
أريد أن أنال الحرية!
إلا أن العيون التي أسرتني
تتراءى لي على الدوام؛
عصفت بروحي
وحطمت، هدوئي.
اشفقي ياماشا، على روحي
وقد عرفت آلامي
وترين ضيقي
وأسرك لي.
إلا أن هذا الحس الرومانسي يكاد يختفي تماما في رائعته الشهيرة يفجيني أو نيجين الذي استغرق في كتابتها ثماني سنوات (1823-1831م) حيث حوت العديد من الصور الواقعية، وبطلها كان دلالة على رفض بوشكين للبطل الكئيب الرومانسي، ولهذا اعتبرها النقاد أول رواية روسية واقعية، منظومة.
وهكذا كان بوشكين الفنان والإنسان يتجاذب بين حدين، فهو رومانتيكي وكلاسيكي في آن واحد، وفي مواقفه السياسية انتقل من تحرره المتطرف إلى تقبل الملكية في أواخر العشرينات، ثم انقلب على ذلك في أواخر حياته وعاد مرة أخرى عدوا للطغيان ومحبا للحرية.
وربما كانت عظمة بوشكين في كون هذه التناقضات قد انعكست على أدبه، حيث جعلته لا يهدأ على قالب فني بعينه، فكتب روايات شعرية ومسرحيات وقصائد وقصصا قصيرة، ومقالات ولمحات سياسية، فكان بحق تجسيدا للنمو الروحي للمجتمع الروسي بأسره، لقد كتب عنه جو جول قائلا:
إن بوشكين ظاهرة فذة، ولربما، الظاهرة الوحيدة للنفسية الروسية, وفيه تجلت الطبيعة الروسية والروح الروسية واللغة الروسية والخلق الروسي في تلك الدرجة من النقاء والجمال المصفى الذي ينعكس فيه المنظر الطبيعي على عدسة بصرية بارزة .
نحن إذن أمام ظاهرة فنية، لا نستطيع أن نقرر أيهما أعظم في أدبه: شعره أم نثره، فتولستوي - وهو من هو - يقول: إن أحسن ما لدى بوشكين هو نثره، ودوستويفسكي اعتبر رائعته يفجيني أو ينجين قصيدة قومية كتب عنها هو نفسه دراسة مهمة.
هذا الثراء على المستوى الابداعي كان يقابله في الحياة - بكل أسف - ما أسميناه بالاندفاع الأحمق الذي أودى بحياته مبكرا، وهو لا يزال في ريعان الشباب، ومن العجائب أن اللحظة التي قرر فيها أن يتزوج ويكف عن المغامرات العاطفية، كانت تلك اللحظة هي بداية النهاية كما يقولون! فبعد ست سنوات من النفي والعزلة وبعد فشل انتفاضة الديسمبريين، عاد بوشكين إلى موسكو واسترد مكانته في المجتمع وفي الصالونات الثقافية وأصبح مشهورا ورئيسا لتحرير بعض المجلات الدورية، كما ألف العديد من لمجلدات الأدبية المهمة، هذا التحقق الفني جعله يفكر في الزواج والاستقرار العائلي، وبالفعل تزوج في عام 1931م من الغادة الحسناء ناتاليا غونتشاروفا وكانت من أجمل حسناوات موسكو، وقد أحبها بجنون، وجعله الاستقرار يوصل الانتاج الفني بغزارة مؤكدا دوره القيادي الذي يلعبه في الأدب الروسي.
لكن لم تمض سنوات قليلة حتى أوقعه العداء مع رجال القصر وبعض الحاقدين في فخ قاتل، حين تناول البعض سمعته وشرف زوجته بالسوء والفحشاء، فتغلبت مشاعره على حرصه، واندفاعه الأحمق جعله يخرج لمبارزة فجيعة مع المهاجر الفرنسي دانتيس، فأصيب بجرح مميت في النزال، مات بأثره بعد يومين، وهو في السابعة والثلاثين من عمره,
وكأنه اختار لنفسه ميتة شاعرية تتسم بالفروسية، وبالاندفاع الأهوج الذي لم يعرف معه طعما للراحة سوى سنوات قليلة، فما أصدق ما قاله بيلينسكي عنه: إن بوشكين ينتمي إلى ظواهر حية أبدا، ومتحركة، ولا تتوقف عند النقطة التي أدركها فيها الموت، بل تواصل التطور في وعي المجتمع لقد كان بوشكين يدرك أن السعادة شيء مستحيل، وأن أقصى ما يستطيع الإنسان أن يصبو إليه هو السكينة والحرية، وقد ظل مغنيا للحرية وفاضحا للطغاة، متسما بالرجولة، وبقليل من الطيش لأنه يرغب في الحياة، في أن يفكر ويقاسي ويحب، وأن يختبر كل شيء تحت شمس النهار, وكان هو نفسه صاحب نبوءة عن نفسه في قصيدته المتشامخة لقد شيدت أثراً خالدا .
سيطوف ذكري في أرجاء روسيا العظيمة
ويلهج باسمي كل مخلوق بلغته
,,.
لأنني أيقظت المشاعر الطيبة بقيثارتي
ولأنني في عصري الذي يتسم بالقوة،
عظمت الحرية وطلبت الرحمة للمهزومين .
شريف صالح

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
لقاء
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved