من قديم الزمان قال الناس الشعر وكتبوا الكلام البليغ وخطبوا به ومن قديم الزمان انتبه الناس إلى ان للكلام الجميل اشراطا تجعله جميلا ومزالق تجعله يقع في النفوس موقع التقزز او على الاقل الاهمال.
لم يكن نقاد الكلام الجميل في بادئ الأمر يتخصصون او حتى يتفرغون له,, في أول الامر كان الناس كلهم نقادا وحتى في ذلك الزمن انتبه الناس العاديون إلى ما يحسن الكلام وما يشينه,, ونشأت من ذلك احكام وقواعد تعرف عليها الناس وصاروا يقيسون بها الادب والشعر خاصة,, لم تعلق العرب المعلقات على الكعبة اعتباطا إذ لابد انه كانت لهم مقاييس ومعايير,, وحتى الذين اتهموا القرآن بالشعر فلأنهم وجدوا فيه حلاوة وطلاوة ما كانوا يجدونها في الكلام العادي وحين نفى القرآن ان يكون من الشعر فانما كان ذلك بالاشارة إلى قواعد ومقاييس معلومة عرفها الناس للشعر وتعارفوا عليها.
ثم جاءت عصور بعد عصور وفي كل عصر كان الناس يكتشفون حقائق جديدة يعلون بها الكلام الجميل شعراً أو نثراً على غيره من الكلام إلى ان جاءت السنون الاخيرة ويبدو ان المقدرة على تمييز الخير من الشر نضبت فانطلق النقد يأخذ بتلابيب النقد منشغلا عن مهمته الاصلية وهي نقد ابداع المبدعين وتنبيه الناس إلى مواطن الابداع وإلى القواعد والاحكام التي تفتح للاذهان مغاليق النص الادبي حتى يستمتعوا باكتشاف روائعه ويقارنوها بقبيحه فقديما قال الشاعر العربي صادقا والضد يظهر حسنه الضد .
لقد كنا نقرأ كتب النقد قديمها وحديثها الى زمن قريب فلم نجد شططا في الفهم حتى حين تناولوا ادق انساق الكلام وأدواته لغة وصرفا ونحوا وما يتخلله من مجاز واستعارات بأنواعها وكناية وجناس ومقابلة وطباق حتى كنا ندرك ونحن نمر بدقائق الكلام ماذا من الفاظه وعباراته أضاف إليه حسنا وماذا جعله يصفق دون ما نطلبه من الامتاع ولاحظنا ان اجمل هذه المحسنات ما جاء هبة الفطرة لا عن قصد الصنعة والتصيد كأنها جاءت بالصدفة المحضة بينما هي جاءت أثرا ونتيجة طبيعية للموهبة الفطرية المغروزة في ذهن الشاعر والاديب غذتها خبراته وتجاربه واطلاعه واجتهاداته السابقة,, وفي كثير من الاحيان يغيب سر الجمال ليس على الناقد فقط بل حتى على المبدع نفسه وسأضع امامك بيتين مشهورين للمتنبي وسأحكي لك من اسرار جمالهما ما لم يذكره المتنبي ولم يفطن له الناقدون حتى ابن جني:
عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد أما الاحبة فالبيداء دونهمو فليت دونك بيدا دونها بيد |
لقد طال التشوق بالاحبة وطال البعاد وطال تكرار الاعياد وتباعد الامل في اللقاء كما تباعدت المسافات والأزمان,, لهذا تكررت في البيت الكلمات التي تعمل حروف المد وسطها ابعادا بين اطرافها وتعاقبت في البيت لفظة البيد (افراداً وجمعاً) كما تتعاقب البيد وراء البيد في الصحراء وتكرار حرف الدال في عيد وعدت وتكرار لفظة العيد نفسها في نداء ضجر بالعيد وتكرار حرف الدال مرة اخرى في البيت الثاني في بيداء وفي دون وفي بيد,, وتتابع حروف المد وتكرار كلمة دون المفصحة عن الفرقة والبعاد والانفصال في البيت الثاني,, كان في امكانه ان يقول بيداً (بعدها) بيد ولكن حس الشاعر الفني جعله يلحظ العمق الفني الذي يحدثه تكرار كلمة دون فاختار ان يكررها بدلا من استبدالها بكلمة بعد على عادة ما يفعل الادباء كراهة للتكرار,, هذه الجرجرات بحروف المد والتكرار لكلمة بيد ودون وتكرار الدالات اضفى على البيتين احساسا عنيفا,, ثم لاحظ كيف استعار مسافات المكان لمسافات الزمان فقال للعيد ليت دونك بيدا دونها بيد بدلا من ان يقول له ليت دونك آماداً دونها آماد فوفق بين مقتضى الاستعارة لإثراء الصورة الشعرية وبين مقتضى القافية التي تزيد الكلام قوة من انتظام التوقيع فعل العبقري الفذ والشاعر المبدع عن طبيعة لا عن صناعة فقط بما جعلنا نحس احساسا عميقا بما كان يجول ويجيش في اعماق الشاعر لحظة الابداع.
ثم لاحظ هذا الهجوم الكاسح على العيد باطلاق حرف التمني ليت في وجهه كالصاروخ تطلقه الثورة العارمة,, كل هذا الزخم من هذا النسق الكثيف كل المعاني والاحسايس التي اعتورت نفس الشاعر حتى كأنه لم يبق شيئا بعدها لم يصل إلينا,, نقل الينا المعاني وشحنات الاحساس في ابداع رهيب ورائع فظل خالدا مع الزمان ثم انظر الى هذا الجناس الذي تكرر تكرار لفظة عيد وعدت وبيد ودون والمح تلك المقابلة بين ما تعطيه كلمة مضى وتجديد في البيت الاول هذه المقابلة التي يسميها الاقدمون الطباق وكانوا سيكونون اقرب إلى تقهيمنا لو سموها التضاد كل هذا الجمال في النسق يأتي ويزدحم به البيتان,, كبسولتين من المعنى المكثف والمحسنات المكثفة,, حتى لتجعل قلبك يدق مع قلب المتنبي وتجعل عيدك وكل عيد ينبهر في رهبة وفزع مثل العيد الذي استوقفه المتنبي وخاطبه معنفا بشواظ من الادب الرفيع.
دعني أخي أفكك هذين البيتين الكبسولتين ذاتي الفعل الحاد على المتلقي ثم اصوغهما على نمط الشعر الحديث ولنلحظ كيف يذهب الاثر الجميل الذي تركته صياغة المتنبي من خلال الصياغة الحديثة:
عيد,,, عيد,,, عيد,,.
يا عيد
اية حال عدت بها يا عيد
أعدت بالماضي
أم هل عدت بجديد
انت تأتي والأحبة
كل الاحبة
بعيدون جداً
بيني وبينهم بيد وبيد وبيد
ليت بيني وبينك تلك البيد
يا عيد,, نعم يا عيد,,.
أرأيت كيف ضاع الاثر الجميل المكبوس الذي زخر به بيتا المتنبي حين فككناهما في قالب الشعر الذي سموه حديثا وما هو بحديث بالرغم من اننا استلفنا له المعنى والجزالة والقافية من جزالة وفخامة الفاظ بيتي المتنبي مع التكرار الذي اختاره فأجاده أبو الطيب.
أقول على المتخصصين ان يكتبوا نقد الادب بما يفهمه غير المتخصصين لأن الادب كالموسيقى لا يستغني عنه أحد من الناس والذي يدعي انه لا يحب الادب والموسيقى يكاد - عفاه الله - ان يتهم لنا نفسه بأنه لا يرى عيبا في قول الناس عن ذوقه انه قريب من اذواق الحمير ولا يفوت على سوي العقل والطبع ان يحس بالموسيقى وتجاذب الاحاسيس وتلاطمها او تناغمها حتى في نهيق الحمير بالرغم من المقولة السارية على ألسن الناس ان أقبح الاصوات لصوت الحمير.
انه لمن اكتمال البشرية في الانسان في البداوة أو في الحضر ان يجد الانسان متعة في معنى النص الادبي وفي موسيقاه وفي المحسنات اللغوية والبيانات والبديعية التي ترصعه,, اتعتقد ان العندليب والبلبل والقمري تصدح بكل ما تصدح به من الحان من غير ان تحس بجمال ما تصدح به.
انظر إلى بيت امرئ القيس المشهور يصف به حصانه
مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من علِ |
الا تحس انك كأنك في محل امرئ القيس على صهوة ذلك الحصان وانت وذلك الحصان تلتصقان كأنكما صخرة واحدة تتدحرح من على سفح الجبل,, ألا تحس بالحركة العنيفة في تعاقب كلمات مكر مفر مقبل مدبر معا وتعاقب حرف الميم في مقدمة كل هذه الكلمات والراء في مؤخراتها الا تعطيك الاحساس بوقع حوافر الحصان الامامية وحوافره الخلفية على الارض تنهبها نهبا في توقيع متتابع سلس والحصان يقذف بنفسه في السهل او على حافة الوادي كما يتدحرج الجلمود وسط هدير السيل من على سفح الجبل المقابل الا تدخل عبارة جلمود صخر في روعك احساسا بالصلابة والمتانة والتماسك والغلظة لا تعطيه عبارة اخرى حتى ولو كانت مصموم صخر ثم هذا البحر من الشعر ذي الروى السريع المتقفز الحركات والسكنات فوق الحروف الا يأتي متناسقا منسجما مع سرعة هذا الحصان الجلمود وهو يتقفز فوق أديم الارض كما يتقفز الصخر الجلمود فوق موج السيل ووسط هديره ماذا لو حاولنا اعادة كتابة هذا البيت بشعر التفعيلة ذي الارصفة والقناديل:
وبي عدا حصاني الملهوف
صلبا كأنه حجارة الرصيف
انه يفر ويكر
ويقبل ويدبر
مومسا تسير في الرصيف
مسرعة في ثوبها الخفيف
ويضرب الصخور والحجارة
كأن كل حافر قنديل
مُركب في اسفل السيارة.
نريد من المتخصصين في النقد الادبي ان يبسطوا لنا أحكام النقد وقواعده حتى نستطيع ان نربي في انفسنا الملكات التي نستمتع باستخدامنا لها بالادب والموسيقى وخاصة الشعر لأن الشعر يجمع الادب والموسيقى معا.
كان الادباء الاقدمون يعمدون الى النص الادبي مباشرة ينقدونه فتنصلح بذلك اذواق الادباء والشعراء فيأتي ادبهم وشعرهم جميلا,, أما اليوم فأنت لا ترى في النقد الا نقداً للنقد,, حتى صار النقد مشغولا بنفسه,, فالابداع في واد والنقد في واد آخر ولهذا استولى غث الشعر وخسيسه على الساحة الادبية فانصرف المجتمع جماعات وأفرادا عن الشعر والادب وهبطت قيمة الشعراء والادباء حتى صارت اقدام لاعبي الكرة اقيم عند أهل الشأن من رؤوس الادباء والشعراء وغيرهم من المبدعين,,, أقول اقبلوا على نقد النصوص حتى تفز من الساحة ثعالب الشعراء والمتأدبين وحتى ترد الساحة العظيمة سباعها واعرف كثيرا من المبدعين ممسكين بشعرهم وأدبهم إليهم لا يريدون ان ينزلوه الى المستوى المشين المسيطر على الساحة,, لكأني أحس مؤامرة واسعة تستهدف قتل الادب وطمس اصالة الشعر.