Monday 21st June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأثنين 7 ربيع الاول


المشاريع الاستثمارية الصغيرة بين النجاح المفترض والفشل والواقع
د,مفرج بن سعد الحقباني*

شهد الاقتصاد السعودي منذ بداية السبعينيات تغيرات هيكلية كبيرة نتيجة للتغير الكبير في نمط وهيكلية اسواق النفط العالمية وما صاحبه من ارتفاع هائل في اسعار النفط العالمية وبالتالي زيادة مماثلة في الايراد الحكومي, ومما لاشك فيه فقد انعكس هذا الوضع على قطاعات الاقتصاد السعودي المختلفة حيث حظيت بدعم وتمويل مطلق ساعدها على تحقيق قفزات تنموية هائلة عمت ارجاء البلاد وتجاوزت توقعات المخططين والباحثين, ولقد كان من اهم النتائج الملموسة لهذه التنمية الشاملة الزيادة الكبيرة في معدلات دخل الفرد السعودي مما ساهم في تحسين المستوى المعيشي والصحي والتعليمي وحتى الفكري لمعظم ان لم يكن جميع المواطنين ولم يكن هذا التحول الكبير في حياة المواطن السعودي ايجابيا في كل الاحوال حيث صاحبه وفي مواقع كثيرة بعض التحولات الجذرية التي انعكست على الشخصية الفردية للمواطن السعودي فتحول بموجبها الى مواطن مستهلك بعد ان كان منتجا بارعا وتأفف عن بعض المهن التي كان ينتجها في السابق واعتمد على العامل الاجنبي في تدبير كل الامور الحياتية والمعيشية, بشكل عام لقد اصبح المواطن السعودي كسولا او متكاسلا لاعتقاده بأن الفائدة المرجوة من الراحة والكسل اكثر بكثير من التكلفة التي سيتحملها في حالة انابته للعامل الاجنبي في اداء الاعمال التي يلزمه القيام بها ومما لاشك فيه فقد ولد لنا هذا الوضع الغريب جيلا جديدا من الشباب السعودي الذي اتخذ من الاباء قدوة حسنة فتكاسل كما تكاسلوا حتى اصبح في قرارة نفسه قبل الآخرين مقتنعا بانه ليس كسولا فقط ولكن عاجز عن العمل مما ادى الى زيادة القناعة بالاعتماد على العمالة الاجنبية, ومما لاشك فيه فإن الافراد لا يتحملون المسئولية وحدهم عن هذا الواقع الغريب حيث يشاركهم المسؤولية كل من كان له يد في التخطيط لهذه التنمية التي توصف بالشاملة شكلا ولكنها تبقى محدودة المضمون, فلم يكن المخطط ناجحا في تحديد الاسلوب الامثل للاستفادة من الموارد الاقتصادية التي تفجرت من كل حدب وصوب وفي فترة زمنية محدودة ولم يكن المخطط ناجحا في رسم السياسة التعليمية المثلى التي تكفل الاستفادة من ايجابيات الطفرة الاقتصادية وتعمل على تلافي المؤثرات والاثار السلبية المتعددة, ولم يكن المخطط ناجحا في رسم وتحديد الاهداف التعليمية بكل دقة ووضوح وبشكل لا يقبل العمومية التي تتغلف بها معظم اهدافنا التنموية, لم يكن المخطط ناجحا في تحديد السياسات الصناعية المناسبة لواقعنا الاقتصادي والاجتماعي مما ادى الى تنمية صناعية هشة تعتمد على المستورد الاجنبي في كل شيء ويمكن وصفها بأنها صناعات اجنبية على ارض سعودية, كما فشل المخطط فشلا ذريعا في تخطيط قطاع التجارة الذي اصبح بفضل العشوائية الملحوظة مجالا رحبا لوجود العمالة الاجنبية ولتفشي ظاهرة التستر التي انهكت الاقتصاد السعودي, بشكل عام فشل المخطط وبكل جدارة في خلق بيئة اقتصادية تمتلك مقومات النجاح المستمر وتساهم في تفعيل المتغيرات الاقتصادية الرئيسة من اجل تحقيق تنمية شاملة من حيث الشكل والمضمون لا من حيث الشكل فقط.
ولعلنا في هذه الاسطر القليلة نناقش حالة من حالات الفشل التي لا شك قد كلفتنا الكثير واعتقد انها ستستمر ما لم يتطور الفكر والمنهج التخطيطي وبشكل متسارع حتى يمكن تدارك الامر ولو بشكل نسبي, فلا يختلف اثنان على اهمية الدور التنموي للمشاريع الاستثمارية الصغيرة لكونها مجالا رحبا لخلق فرص العمل ومجالا رحبا لتنمية رأس المال غير القادر على تنفيذ المشاريع الاستثمارية الكبيرة, ولكن قد لا يختلف اثنان ايضا على اننا لم نستطع تحقيق الاستفادة المثلى من هذه المشاريع التي ظلت حبيسة لسيطرة العمالة الاجنبية ووسيلة لتنمية رأس المال الاجنبي ومصدرا مدرا للتحويلات الرأسمالية الى الخارج, لقد تسابقت وزارة التجارة مع وزارة الشؤون البلدية والقروية ممثلة في امانات المدن والبلديات الفرعية وبدون تنسيق او تنظيم محكم الى اصدار التصاريح النظامية للمشاريع الاستثمارية الصغيرة دون ان تعي خطورة الموقف على اقتصادنا المحلي ودون ان تأخذ في الاعتبار طبيعة سوق العمل السعودي الذي يخضع لسيطرة فعلية من العمالة الاجنبية, لم تأخذ الاجهزة الحكومية المعنية في اعتبارها حاجة السوق من هذه المشاريع مما ادى الى تكدسها وبشكل مضحك في اغلب الاحيان, لقد تحولت شوارعنا الى شوارع تجارية انخدع معها الكثير من المواطنين وخسرنا معها الكثير من رأس المال الذي اصبح شحيحا وخاضعا لسيطرة اجنبية لا تقبل المساومة على موقفها الذي يتمتع بالنظامية وفقا لاعتبارات الاجهزة الحكومية المعنية, لقد ساهم الوضع العشوائي للمشاريع الاستثمارية الصغيرة في بروز العديد من المشاكل التي يأتي في مقدمتها:
1 - انتشار ظاهرة التستر في المشاريع الصغيرة نتيجة لعجزها عن تحقيق الربح الكافي لاقناع صاحب العمل السعودي بضرورة الوجود والمراقبة, حيث نجد ان كثيرا من هذه المشاريع بدأ وفق معطيات سوقية مقنعة ولكن سوء التخطيط والعشوائية في اصدار التراخيص ادى الى قيام مشاريع استثمارية ذات نشاط مماثل وفي مواقع جغرافية متقاربة مما ادى الى زيادة حدة المنافسة بين هذه المشاريع وبالتالي فقدانها لفرص النجاح المقنع, وفي هذه الحالة قد لا يجد صاحب المشروع الاستثماري طريقا اسلم من تسليم المشروع برمته الى العامل الاجنبي مقابل الحصول على جزء يسير من الدخل نظير التغطية النظامية التي يؤمنها للعامل الاجنبي, وفي هذا الخصوص اعرض تجربة احد المستثمرين الصغار الذي راودته فكرة الاستثمار في المطاعم الشعبية واتخذ من شارع الامير بندر بن عبدالعزيز موقعا لمشروعه الصغير, استند هذا المستثمر في قناعته الى ندرة المطاعم المماثلة في هذا الشارع مما دفعه الى استئجار موقع مناسب لمدة عشر سنوات قادمة وانفق الكثير على التصميم والديكور كما بذل الجهد الكبير في سبيل اختيار العمالة الجيدة والمدربة, ولكن هيهات هيهات ان تعتمد على معطيات سوقنا المحلي المتشبع بالعشوائية حيث ما ان اكتمل المشروع الصغير وهمّ صاحبه بالعمل الفعلي حتى اصبح الشارع الذي لم يكن فيه عند بداية الفكرة سوى مطعم واحد يكتظ بالعديد من المطاعم المماثلة مما ادى الى منافسة حادة لم يستطع معها مستثمرنا الصغير سوى الاستعانة بالخبرات الاجنبية التي اقنعته بضرورة تنازله عن طموحاته وترك ادارة المشروع لها في مقابل عائد بسيط يتقاضاه شهريا, وهنا اعتقد ان المسؤولية تقع على عاتق وزارة التجارة ووزارة الشئون البلدية والقروية ممثلة بامانات المدن التي فشلت في تخطيط وتقدير احتياج السوق من المشاريع المتنافسة مما ادى الى دفع المواطن السعودي الى المخالفة رغبة في تحقيق ادنى درجات النجاح لمشروعه الاستثماري خاصة وانه قد انفق الكثير من رأس المال في سبيل تهيئة وتجهيز هذا المشروع.
2 - ان غياب التخطيط والتنسيق للمشاريع والانشطة الاستثمارية قد ادى الى قيام مشاريع تفوق حاجة السوق مما افقد الاقتصاد السعودي رأس المال اللازم لتمويل الانشطة الاستثمارية النادرة التي يفتقدها الموقع الجغرافي المزدحم بالانشطة الاستثمارية المتماثلة والمتنافسة, ولعل جولة بسيطة في احد شوارع مدينة الرياض تعطينا القناعة التامة بأننا قد تركنا الحبل على الغارب لكل من يريد الاستثمار دون مراعاة للمصلحة الوطنية القائمة على ضرورة المحافظة على رأس مال الفرد باعتباره جزءا من رأس مال الوطن, اذا كان هذا هو الواقع فما هو دور وزارة التجارة تجاه اقتصادنا المحلي وما هو دور وزارة الشؤون البلدية والقروية تجاه تنظيم الانشطة الاستثمارية؟ اعتقد اننا نتعايش مع واقع غريب لا يخضع لسيطرة مركزية مما قاد للعشوائية في الاستثمار تحت مظلة الحرية الاقتصادية التي تؤمن للفرد النشط في المجال الاقتصادي السعودي.
3 - ان واقع المشاريع الاستثمارية الصغيرة قد ساهم وبشكل كبير في زيادة معدلات التحويلات العمالية التي تقدر بما يقارب من 60 مليار ريال سنويا, فإذا كانت المشاريع الصغيرة قد ساهمت في انتشار ظاهرة التستر، فإن ذلك قد ساهم وبشكل كبير في زيادة حصة العامل الاجنبي من هذه المشاريع مما زاد من قدرته على التوفير والتحويل الى الخارج محدثا نزيفا حادا في الاقتصاد السعودي.
4 - ادى الواقع العشوائي الغريب للمشاريع الاستثمارية الصغيرة الى بروز انماط استهلاكية غريبة ساهمت في ارتفاع الميل الحدي للاستهلاك وانخفاض الميل الحدي للادخار, ومما لاشك فيه فإن قدرة الاقتصاد الوطني على التوسع في الاستثمار تعتمد اعتمادا مباشرا على معدلات الادخار فكلما زاد معدل الادخار زادت وتحسنت المقدرة الاستثمارية للاقتصاد السعودي والعكس صحيح, وبالتالي فإن التغير في النمط الاستهلاكي للمواطن السعودي وفي هذا الوقت بالذات قد يساهم في الحد من قدرة الاقتصاد السعودي على مواجهة التقلبات الاقتصادية المحلية والعالمية كما قد يكون عاملا مبطئا للنمو الاقتصادي.
5 - ادت المنافسة الشرسة المفروضة على المشاريع الاستثمارية الصغيرة الى عجز هذه المشاريع مجتمعة عن تحقيق الربح اللازم لتحقيق الاحلال الكامل او شبه الكامل للايدي العاملة السعودية, فبدلا من ان يكون لدينا مشروع كبير قادر على تحقيق الربح المناسب اصبح لدينا عدة مشاريع متماثلة ومتنافسة تحقق ربحاً يسيرا لا يكفي لتغطية الزيادة المتوقعة في التكلفة الكلية الناتجة عن توظيف العامل السعودي مما ادى الى استمرار الاعتماد على العمالة الاجنبية كممثل وحيد لعنصر العمل في العملية الاستثمارية, وهنا اعتقد اننا قد خلقنا دون ان نعي عقبة كبيرة في سبيل تحقيق السعودة المنشودة لفرص العمل في قطاع التجارة بشكل عام وفي المشاريع الاستثمارية الصغيرة بشكل خاص, لا اعتقد اننا نستطيع اجبار صاحب المطعم او البقالة على توظيف العامل السعودي ونحن لم نوفر له البيئة الاستثمارية المناسبة ولم نحقق له الحماية اللازمة من المنافسين الذين تفاعلوا مع النجاح الذي تحققه المشاريع القائمة وتسابقوا على اقامة مشاريع مماثلة رغبة في المشاركة في النجاح الذي قد لا يستمر مع زيادة مقدمي السلعة او الخدمة, لقد تسابق المتنافسون على تقديم السلعة المتماثلة دون ان يكون لعدد المستهلكين دور في قرارهم الاستثماري مما ادى الى زيادة العرض الكلي للسلعة والى خسارة او على الاقل محدودية نجاح المستثمرين, هنا اعتقد اننا لم نستطع حماية السابقين من المستثمرين ولم نحم المتأخرين منهم وبالتالي لا يحق لنا ان نطالبهم بما عجزنا عن توفيره لهم خصوصا ونحن كأجهزة حكومية نمتلك من المعلومة ما يكفي لتخطيط السوق التخطيط الفاعل الذي يكفل للمستثمرين النجاح المعقول اللازم لتحقيق التوظيف الكامل للعمالة السعودية.
6 - صعوبة الرقابة الصحية والعمالية على المشاريع الاستثمارية الصغيرة المتناثرة في كل حدب وصوب من اركان مدننا الكبيرة والصغيرة مما ادى الى مخالفات صريحة لانظمة الصحة والاقامة, وهنا اعتقد اننا نخدع انفسنا ان نحن زعمنا بقدرتنا على تحقيق التطبيق الفاعل للانظمة المنظمة لهذه المشاريع خصوصا في ظل معرفتنا بندرة المراقبين الصحيين وامثالهم المكلفين بالرقابة والمتابعة, لا يمكن لعاقل ان يعتقد باننا نسير وفق قواعد عامة منظمة خصوصا في ظل العشوائية الغريبة التي لازمتنا منذ البداية وحتى الآن, وهنا اشير الى موقع تجاري على طريق الامير بندر بن عبدالعزيز يختص باصلاح الاجهزة الالكترونية وضعت له لوحة تعانق عنان السماء بعنوان تصليهات ويقصد بها بالطبع تصليحات, فأين الرقابة المطلوبة واين البلدية واين الاجهزة الحكومية المعنية؟.
وأخيرا ماذا نريد:
أولا: نريد الجدية في تخطيط الأحياء الجديدة بحيث يسمح باقامة المشاريع التي تتناسب وحاجة السوق دون تزاحم أو تماثل غير منطقي, فلماذا لا يكون لدى الأجهزة المعنية جداول احصائية متطورة تحدد بموجبها المربعات السكنية واعداد الساكنين والمشاريع الاستثمارية اللازمة لمواجهة الحاجات الحالية والمستقبلية للحي أو المربع السكني.
لماذا لا تمنع الأجهزة الحكومية المستثمرين الراغبين في تنفيذ مشاريع استثمارية تفوق حاجة المربع السكني وترشدهم الى المشاريع النادرة التي يمكنهم تنفيذها في الموقع المطلوب, لا اعتقد ان هنالك صعوبة على الاطلاق ولكن اعتقد ان الصعوبة تكمن في عدم وجود الجدية اللازمة لتحقيق المصلحة الوطنية.
ثانيا: بالنسبة للاحياء القديمة فربما تكون المشكلة اخطر ولكن المصلحة الوطنية وبشكل خاص الجانب الأمني منها يتطلب التضحية بالمصلحة الخاصة حيث يمكن الزام المحلات الصغيرة بتوظيف عمالة سعودية خاصة وان طبيعة العمل في مثل هذه المشاريع لا تتطلب مهارات خارقة أو خاصة وعندها سيبقى فقط المشروع الناجح اما المشاريع الصغيرة الفاشلة التي توفر للعمالة الاجنبية مبررات البقاء في سوق العمل السعودي فلا اعتقد أننا سنحزن لفراقها.
*أستاذ الاقتصاد المشارك بكلية الملك فهد الأمنية

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الادارة والمجتمع
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
الطبية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved