قديماً كانت المنحة شيئاً كبيراً أكثر من يفوز بها الشعراء، حيث تبالغ كتب تاريخ الأدب فتذكر أن بعض الشعراء أجيز على قصيدته بوزن ما كتبت عليه من الذهب، بل زعموا أن الأصمعي الذي لم يشتهر بالشعر انشأ قصيدة مشهورة وكتبها على صخر وحشر فيها الفاظاً لغوية صعبة بحيث لم يستطع ابو جعفر المنصور حفظها من القراءة الأولى ولا جاريته من المرة الثانية، كما زعم الرواة بسبب بخل ابي جعفر في اعطياته.
والمنحة في زماننا انصرفت كثيراً الى قطع الاراضي التي توهب من الدولة للمواطن فاذا قيل جاءته منحة فهم منها انها قطعة ارض حتى كأن المنح اقتصرت على الاراضي مع شموليتها في اللغة.
والمنحة عموماً كل ما يعطى لشخص على سبيل الهبة اي بدون أجر سواء اكان مادياً ام مقابل جهد يؤديه ويستحق عليه الأجر، فهي كما يقول المثل العامي (عطية ما وراءها جزيَّة).
وقد سألني صديق هل يجوز ان نسمي حصول الموظف على اجازته السنوية (التي يستحقها نظاماً) منحة؟ وكيف تكون منحة والنظام يعطيه شهراً بعد كل احد عشر شهراً يستحقه اجازة من العمل ويقبض راتبه؟ وان كانت حقاً فلماذا ينص القرار الصادر من شؤون الموظفين على (انه يمنح الموظف فلانا اجازة لمدة كذا) فهل ذلك حق له أم منحة؟.
والواقع ان كثيراً من الألفاظ اخذناها من لغات اخرى ونقلناها الى ما يقابلها لفظاً لا معنى ومن امثلة ذلك كلمة (لعب) حيث نقول عن لاعب كرة القدم (لعب) كما نقول عمن قام بدور كبير (لعب دوراً كبيراً في العمل الوطني) فالمسألة - إذاً - مسألة مقابلة الفاظ بألفاظ لا الفاظ بمعانٍ مقابلة لها، وهذا شأن المغلوب حضارياً في كل زمان، لان الاصل ان تلك المعاني نشأت في لغاتها الأصلية لملابسات معينة نقلت بسببها لمعناها الجديد الذي اخذناه في مرحلته الأخيرة دون معرفة لأصله عندهم.
أبدل صديقي كلمة (يمنح) اجازة بعبارة مناسبة مثل (يحصل) او (يرخص له باجازة) او (تبدأ اجازته من) ونحوها مما يخرجها من المنحة التي تعني المجانية الى لفظ يشعر انه لا منة على موظف في اخذ اجازته حسبما نصت عليه لوائح الخدمة المدنية او نظام المؤسسة، ولو دققنا لوجدنا هنالك الفاظاً كثيرة نطلقها دون دقة في المعنى وما ذاك الا اننا اخذناها من لغات اخرى وقابلنا اللفظ باللفظ لا المعنى بالمعنى.