Thursday 29th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 16 ربيع الثاني


ضحى الغد
القهوة العربية جزء من تراث الفروسية

تجاور تراث القهوة العربية مع تراث الفروسية طيلة التاريخ العربي، وظلت القهوة العربية شأنا رجاليا يعبر عن رمز الكرم والجاه، بل ان العربي الفارس الذي عني بتدريب خيله او قاوم خيل الاعداء التي غارت عليه صباحا، يرى ان من أسباب علو قدره وكمال مروءته وتمام كرمه، ان يجلس على النار ليعد القهوة لضيوفه:
بالليل اصالي حاميات المحاميس
والصبح اصالي كل قب قحومي
لقد جمع الكرم والفروسية معا بحرارة ناريهما وكأنهما وجهان لفضيلة واحدة,,!! ففي الليل همه إعداد القهوة لضيوفه وهو لهم يعاني من حرارة المحاميس الأدوات التي يتم بها تحميص القهوة على النار لتأخذ لونها البني الباهر، وفي الصباح يصالي حرارة معركة الخيل لاصيلة التي يقتحم بها غارات الاعداء واذا كانت النار الحية المشبوبة هي إعلان الضيافة، فإن القهوة المصبوبة هي الجانب الآخر لصورة الكرم العربي؟ وهي الفترة الزمنية الاولى التي يستقبل فيها العربي ضيوفه، فيسمع منهم اخبارهم وعلومهم، ويسمعون منه، ويتحاور الحاضرون، في الوقت الذي يتم فيه إعداد طعام الضيافة لهم.
ولقد كان اهتمام العربي بأدوات القهوة دليلا على قيمتها وقدرها، إذ يحفل التراث العربي بعشرات الأدوات (المعاميل) المطلوبة لتحضيرها، بل ان العربي عندما سكن البيوت الطينية، كانت التشكيلات الجبسية ذات الطابع الفني الجميل من نصيب المجلس (القهوة) الذي يعد فيه العربي قهوته ويستقبل ضيوفه,!
وكان (النجر) وهو من الادوات التي تطحن فيه القهوة والهيل والقرنفل من أهم الادوات الخاصة بإعدادها ولهذا اخذ الصورة النحاسية الصفراء المماثلة للاداة الاولى وهي (الدلة) حيث هي الوسيلة الاخيرة لتقديم القهوة العربية للضيوف.
ولقد اخذ (النجر) اهميته لأن العربي عندما يدق حبات القهوة بواسطة اليد النحاسية داخل هذا الاناء النحاسي، فإنه يعلن لحنا جميلا مشهورا بوزنه وموسيقاه عندما يسمعه جيرانه من حول يدركون ان صاحب ذلك البيت قد تهيأ لضيوفه، وانه يدعوهم لمجلسه وقهوته وحديثه,,!
ولقد اعتبر العربي أدوات القهوة من دلال واباريق ومحاميس ونجر، وجه من وجوه الرجال، تماما مثل سيفه وفرسه، ولقد تعرض عربي من (العقيلات) لهجوم من لصوص مسلحين لم يقدر على مقاومتهم فانصرفوا براحلته ورحله، فناداهم: يا قوم ردوا علي الدلال، تراها وجيه الرجال ,!
لم يأسف على شيء انتزع منه سوى (الدلال) فإنها: (وجيه الرجال) وهو وصف يؤكد قيمتها واهميتها عندهم,! لأنها الوجه الكريم الذي يستقبل فيها ضيوفه الذين يحلون رحابه,!
ومثلما عني العربي بأدواتها وطريقة صنعها، فقد عني بالمعايير والضوابط التي تدار بها على مجالس الرجال، فالفنجال الاول لا يصب الا للرجل الاول في المجلس من حيث العمر او الفضل ثم الذي يليه، بل انهم يرون ان الأحق بفنجال القهوة هو الذي دافع الاعداء عن الحمى، ثم ذلك الذي قادهم الى المورد، ثم ذاك الذي قدم خدمة عامة لقومه، اما الرجل الذي اعرض عن المصالح العامة وعني بمصلحته الخاصة، فإنهم لا يرون بأسا في تجاوزه والاعراض عنه (وتعديته الفنجال) حين تدار القهوة في مجلس تذكار حقوق الرجال الذين يستحقون الإكرام,!
ولقد ارتبط فنجالها بالفروسية ارتباطا وثيقا، فمن زاعم أو نافس فارسا من الفرسان ودخل فيتحدث معه، فإن المعركة الأولى معه لا تدور في الميدان على ظهور الخيل، بل إن ميدانها الاول في التحدي هو مجلس الرجال، عندما يصب الفنجال ثم يقال هذا فنجال الفارس فلان فمن يشربه؟! فمن شربه فقد جهر بتحديه، وكان حقا على الفارس الذي يشرب فنجاله ان يدفع عن كرامته التي أهينت,!
وحفلت القهوة العربية بأدبيات العرب وأثرت وتأثرت بالشاعر والشعر العربي، وعدها الشاعر من جالبات الهم والحزن والقلق النفسي وما يلم به من كآبة وضيق صدر:
والله لو لا مزة العظم مرة
وفنجال بن عفر عشر بهاره
لاخذت من خطو الغلاوين جره
اتبعتها الفنجال يطفي حراره
من واهج بالصدر واكود حره
لا فاد تضرب بالنواظر شراره
وعدها شاعر آخر من لذات ثلاث لا غنى له عنها
لذاذة الدنيا معاميل وافراش
وصينية يقبل بها العبد مسعود !
ويعني بالمعاميل، أدوات القهوة التي يتم عملها بواسطتها من دلال وأباريق ومحاميس وسواها.
وقد وصف الشاعر العربي القهوة بقصائد جميلة ذواقة تماثل تلك القصائد المتجلية التي صور فيها عشقه لمحبوبته ولفرسه ولناقته وسيفه فكلها محبوبات عشقها العربي، وعدها من متع الحياة وطاردات الهموم وووسائل العيش التي لا تتم الحياة إلا بها,!
وأجمل ما في القهوة ذلك الاستطعام الحساس لها، فلا يتميز حس الرجل وشفافيته وقدرته على التذوق، إلا عندما يميز بين طعوم القهوة، فيعرف جودتها واسلوب تحميصها وتحضيرها، بل إنه يستطيع ان يعرف الحالة النفسية للمرأة أو الرجل الذي عملها، مما يعني عنايتهم بها هذا الجانب الدقيق، بل إنهم يقيِّمون ذوق الرجل وذكاءه ووعيه من مقدار حظه من تذوق القهوة وفهمه لعيوبها ومحاسنها,!
ويفهمون تبلده العقلي وتخلفه الحسي والذوقي من عدم تفريقه بين الجيد والرديء من طعومها,! بكل هذا نستطيع ودون مبالغة ان نعتبر القهوة العربية جزءا من تاريخ وتراث الفروسية من ذكاء ومروءة وكرم ورجولة ونجدة.
عبدالكريم بن صالح الطويان

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
شعر
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved