Thursday 29th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 16 ربيع الثاني


قضية للنقاش
دوام الحال من المحال
رضا محمد لاري

تتغير هذه الدنيا بصورة مستمرة فلا يثبت لها شأن فهي اليوم على غير ما كانت عليه بالامس وستكون في الغد على خلاف ما هي عليه اليوم، لذلك يقول العرب لكل زمان دولة ورجال.
إذا نظرنا إلى نشأة حلف شمال الاطلنطي الناتو لادركنا ان الهدف من قيامه كان حماية أوروبا من خطر غزو الاتحاد السوفيتي، وان يحجم المانيا لتظل دولة ضعيفة مسلوبة الارادة حتى لا تقوم لها قائمة فتكرر عدوانها على العالم من جديد، وان يجعل اليابان يعيش في عزلة عن العالم بتحديد اقامته في داخل الجزر التي تشكل الوطن الياباني.
بكلمة صريحة أراد حلف الناتو محاصرة حليفه الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية خوفا من خطره الفكري على أوروبا، واراد في ذات الوقت معاقبة دول المحور الأعداء لتتواصل هزيمتهم في السلم بعد هزيمتهم في الحرب لتكون المانيا واليابان عبرة لمن يعتبر اما إيطاليا فقد نجت من هذا العقاب السلمي لان دورها في الحرب كان دور التابع، وسارعت على ابداء الندم في حق العالم الذي ترجمته باعدام موسوليني في ميدان عام في روما فغفر لها الحلفاء زلتها بالحرب وقبولها دولة كاملة السيادة في الاسرة الدولية.
الحصار المفروض على المانيا وطوكيو لسنوات طويلة اعطاهما القدرة الفائقة على بناء حياتهما الاقتصادية حتى اصبح هناك من يقول بأنهما المنتصران الحقيقيان في الحرب العالمية الثانية لما حققاه من ثروة طائلة مكنتهما من فرض سيطرتها الاقتصادية على العالم كله بما في ذلك دول الحلفاء الذين فرضوا عليهما العقاب.
سقوط الاتحاد السوفيتي في سنة 1992م على يد ميخائيل جورباتشوف بوعود أمريكية كاذبة أخرجته تماما من لعبة القوى العالمية وحولته الى دولة عظمى لها مقعد دائم في مجلس الامن بكل حقوق الاعتراض الفيتو على القرارات الدولية غير ان روسيا بحجمها الحقيقي اصبحت مثل تايوان عندما كانت تعامل فسقطت من موقعها بعد دبلوماسية البنج بونج التي قامت بها أمريكا في عهد ريتشارد نيكسون ومارسها الدكتور هنري كيسنجر في بكين لتأخذ الصين الشعبية موقعها الطبيعي كدولة عظمى في الاسرة الدولية.
ذهبت الظنون بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وقيام عدة دول على انقاضه، وبعد حل حلف وارسو، وبعد رفع المانيا العقاب الدولي عن نفسها الذي تجلى في هدم سور برلين، وخروج اليابان من الحصار المفروض عليها بغزو بضائعها لاسواق العالم، ان حلف الناتو في طريقه إلى الحل، وان استمرار بقائه لايزيد عن تمثال منصوب في العالم فوق ارض بلجيكا بتكلفة باهظة يئن منها كل اعضاء هذا الحلف عديم الجدوى الاستراتيجية.
ولكن كل هذه الحسابات ذهبت سدى بعد ان تصدى حلف الناتو لعدوان بلجراد على اقليم كوسوفا وقام بحرب حقيقية لاول مرة في تاريخه بسبب تعنت الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش الذي اضطر تحت وطأة الضرب الجوي لبلاده بكل ما ترتب عليه من قتل للانسان وتدمير للممتلكات السماح لقوات دولية تدخل بلاده لتحفظ الامن في الاقليم المعتدى عليه كوسوفا.
دخل الالمان من ضمن القوات الدولية الى اقليم كوسوفا بعد غيابهم العسكري لستين عاما واستقبل اهالي كوسوفا الجنود الالمان بنثر الورود عليهم ترحيبا بقدومهم، بعد ان كانت الجيوش الالمانية في عهد ادولف هتلر تستقبل بمقاومة شعبية قوية في البلاد التي تحتلها تستخدم فيها القنابل من الطرفين اهل البلد والجيش الغازي لهم.
هذا الاستقبال الحميم للقوات الالمانية التي جاءت إلى كوسوفا لنصرة الضعيف على القوي، جعل الجنود الالمان يبكون في وسط الجماهير المستقبلة لهم، وكانوا يمازحون الناس والدموع في اعينهم من فرط السعادة لما يلاقونه من فرط الترحيب بهم.
كان الالمان في العصر الحديث يماثلون التتار من الازمنة السابقة يرعبون الناس طوال ايام الحرب العالمية الثانية منذ بدايتها في سنة 1938م عندما غزت الجيوش النازية النمسا ودخلت فيينا، وزاد العداء لها بعد ان خانت حليفها الاتحاد السوفيتي الذي اتخذ الحياد الكامل من الحرب الدائرة في العالم باعلان الحرب عليه واحتلالها لاوكرانيا في سنة 1941م.
ما لاقاه الالمان من ترحيب في كوسوفا، قابله توتر شعبي بالغ ضد الجند الروس الذين جاؤوا في شكل غزاة لمطار بروشتينا لانهم سبقوا غيرهم في الوصول إلى اقليم كوسوفا التي جاؤوا إليه من داخل اراضي صربيا مثلهم في ذلك مثل الجند الصرب الذين انزلوا القتل بالناس والدمار لبلادهم.
سبب الجفاء مرتبط بالتعاطف المعلن بين موسكو وبلجراد غير ان روسيا بقدراتها المادية المنهارة لم تستطع مؤازرة سلوبودان ميلوسيفيتش عسكريا، وحاولت ان تلعب دور الوسيط بينه وبين قوات حلف الاطلنطي التي صدت هذه الوساطة بمذكرة محكمة الجزاء الدولية في لاهاي التي اتهمت سلوبودان ميلوسيفيتش بجرائم الحرب وطالبت بمثوله امامها في لاهاي لتحكم عليه بالادانة او البراءة.
ولكن هذا الجفاء بين الشعب في كوسوفا والقوات الروسية التي جاءت إلى بلاده تحت مظلة القوات الدولية لم تمنع جريدة ازفستيا الروسية ان تقول ان وجودنا العسكري في كوسوفا لم يعد يمكن الغرب من معاملة الجيش الروسي كقوة منبوذة لاننا نمارس دورا حقيقيا في حفظ الامن والاستقرار داخل اقليم كوسوفا المتنازع عليه بين ساكنيه الالبان وبين السلطة الشرعية الحكامة له في بلجراد.
ومن ناحية اخرى اعلن فلاديمير لوكين رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الدوما البرلمان الروسي ان سمعة بلاده بهذا العمل العسكري الجريء قد ارتفعت في بلجراد التي ترى في القوات الروسية صمام الامان للقوات الدولية لمنع عدوانها على النظام الذي يمثله سلوبودان ميلوسيفيتش خصوصا وانه رجل مطلوب من قبل العدالة الدولية.
ويؤكد فلاديمر لوكين ان الشعب الروسي استرد ثقته في قواته المسلحة، وهو ادعاء باطل لان القوات المسلحة الروسية لم تستطع منع غضبة الجماهير في الشارع الصربي ضد النظام القائم في بلجراد والمطالبة باسقاط سلوبودان ميلوسيفيتش من سدة الحكم وتقديمه للمحاكمة في لاهاي امام محكمة الجزاء الدولية بعد ان عرف الشعب الصربي حجم الكارثة التي وقعت على بلاده بالقتل للناس والتدمير للممتلكات، واصبح من المتعذر على روسيا استضافة سلوبودان ميلوسيفيتش في بلادها تحت مظلة الايواء السياسي لتحجب عنه عقوبة الجرائم التي ارتكبها في حق الناس في كوسوفا وضد المواطنين الصربيين بسبب تعنته في التفاهم السلمي قبل الضرب وقبوله بالحل السلمي بعد تدمير بلاده وقتل مواطنيه.
الحقيقة الثابتة ان دخول الجيش الروسي الى ارض كوسوفا واحتلاله لمطار بريشتينا قبل وصول قوات الحلف الاخرى الى الاقليم، بكل ما سببه ذلك من ضيق للناتو يظل هو الذي يمنح الحماية لهذه القوات الروسية من غضبة جماهير كوسوفا ضد الجند الروس الذين وصلوا إليهم ويعيشون بينهم على الرغم من رفض الشعب في كوسوفا لهذا الوجود العسكري الروسي فوق ارض اقليم بلادهم.
نستطيع القول ان هذه الحماية للجيش الروسي من قبل الناتو تعكس رغبة حقيقية عندالحلف في الابقاء على القوات الروسية تحت مظلة القوة الدولية من مواطن حرص حلف الناتو على جعل الجيش الروسي من ضمن قواته وجزأ لا يتجزأ منه.
والحقيقة الثابتة الثانية ان المانيا اصبحت دولة لها مطلق الحرية في تشكيل قواتها المسلحة، وان الجيش الالماني المشارك في حفظ السلام داخل اقليم كوسوفا يجد ترحيبا من قبل حلف شمال الاطلنطي الذي يحاول تقويته والاستفادة منه ولم يعد يعمل او يخطط على اذلاله كما كان يفعل لسنوات طويلة بعد الحرب العالمية الثانية.
ان عوامل التغيير السياسية قد تدفع اوروبا في مستقبل الايام إلى بناء استراتيجية اوروبية مستقلة عن امريكا خصوصا بعد ان اتخذت اوروبا لنفسها الاستقلال الاقتصادي بالوحدة الاوروبية لتنافس باقتصادها الموحد العملاق الاقتصاد الامريكي ليس اليوم فقط وانما في الغد ايضا عندما تدخل الدنيا عالم الجات وتلتزم بالعولمة في علاقتها التجارية الدولية.
يدفعنا إلى هذا القول ما نلاحظه على قواعد اللعبة الدولية التي تنفر من الثبات وتسعى إلى الحركة لتشكل كل مجموعة دولية نفسها بالصورة التي تخدم مصالحها الاقتصادية في ظل منظومة سياسية خاصة تخدم كل اهدافه ومصالحه.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
شعر
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved