Thursday 5th August, 1999 G No. 9807جريدة الجزيرة الخميس 23 ,ربيع الثاني 1420 العدد 9807


حول منهج التفكير في العولمة
د, عليّ الدين هلال

اصبحت كلمة العولمة، وما يرتبط بها من تعبيرات مثل الكونية او الكوكبية، من العبارات المتداولة في ادوات الإعلام، وشاع استخدامها بشكل اوجد نوعاً من اللبس بشأن معناها، ومفهومها، وكيفية التعامل معها, فنجد مثلاً رأياً يقول صاحبه انه يرفض العولمة، او انه يجب العمل على مقاومة العولمة فيعطي الانطباع بأن موضوع الحديث هو امر يمكن قبوله، او رفضه، او التحفظ عليه، وهو ما يعكس فهماً للعولمة ينبغي مناقشته وتحليله.
والحقيقة، ان فهم العولمة ينبغي ان ينطلق من ضرورة التمييز بين امرين بشأنها: فهي من ناحية مجموعة من التطورات الاقتصادية والتكنولوجية الحادثة في عالمنا المعاصر, وهي تطورات حاصلة من فترة تاريخية ، وتطرح تأثيراتها على مختلف الدول والمجتمعات، بدرجات مختلفة, وهي بهذا المعنى ليست امراً يمكن قبوله او رفضه لأنها لا تحتاج الى اذن او موافقة من احد وانما يتطلب التعامل معها تبني مجموعة من السياسات للاستفادة من جوانبها الايجابية، والتقليل من جوانبها السلبية, والعولمة، من ناحية اخرى ترتبط ببعض المفاهيم والافكار، وهذا هو الجانب الذي يمكن الترحيب به او التحفظ عليه او رفضه، وهذا التمييز بين العولمة كتطور تاريخي او كعملية اقتصادية، والعولمة كايديولوجية او كمجموعة افكار ومفاهيم هو امر ضروري لفهم ما يحدث حولنا في العالم، وللتعامل الصحيح معه.
المعنى الاول للعولمة يشير الى واقع جديد تدخله البشرية، جوهره ازدياد درجة الترابطات والتفاعلات والتشابكات بين اقتصادات العالم ودوله ومجتمعاته، والقوة الدافعة لهذا التطور هي الثورة العلمية والتكنولوجية، خصوصاً في جانبها المعلوماتي والاتصالي، والتي اوجدت آليات وفرصا لزيادة الاعتماد المتبادل والترابط بين ارجاء العالم بشكل غير مسبوق في التاريخ، واذا اخذنا الجانب الاقتصادي، وهو جوهر عملية العولمة، فان العالم يتجه الى مزيد من التداخل بين اقتصادات الدول عموماً، والدول الصناعية المتقدمة خصوصاً، والى ازدياد دور المعرفة والمعلومات كعنصر من عناصر الانتاج والنشاط الاقتصادي، فقد ادى التطور الصناعي والتكنولوجي المعاصر الى تقسيم دولي جديد للعمل تتخصص فيه الدول ليس في انتاج سلعة بعينها، ولكن في انتاج احد مكونات السلعة التي تمتلك فيها تلك الدولة ميزة تنافسية، وأي منتج صناعي متقدم اليوم يتم تصنيع مكوناته في عديد من الدول ثم يتم تجميعها في مكان واحد، يرتبط بذلك ان الجزء الاكبر من ثمن هذا المنتج الصناعي التكنولوجي المتقدم لا يعبر عن تكلفة المواد الخام التي دخلت في صناعته بقدر ما يعكس ثمن المعرفة العلمية وحقوق الابتكار المستخدمة في انتاجه.
جانب ثان من جوانب العولمة الاقتصادية هو تحرير الاسواق داخلياً وخارجياً، وذلك في اطار من المنافسة وغلبة دور القطاع الخاص، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ودول شرق اوروبا، استعاد الاقتصاد العالمي وحدته في اطار النظام الرأسمالي الذي يقوم على قاعدة الملكية الخاصة، واعتبار القطاع الخاص القوة الدافعة للنمو الاقتصادي في اطار من حرية التجارة والمنافسة بين الوحدات الاقتصادية المختلفة، سواء على مستوى الاقتصاد الوطني لكل دولة او على مستوى الاقتصاد العالمي، وجاءت اتفاقية الجات، ثم انشاء منظمة التجارة العالمية بمثابة تقنين لتلك القواعد, ومن الارجح ان دور تلك المنظمة سوف يزداد في السنوات القادمة لمراقبة مدى التزام الدول المختلفة بقواعد الاتفاقية.
ومع التأكيد على حرية التجارة، برز مفهوم الميزة التنافسية للاقتصادات المختلفة, ففي اطار اقتصاد كوني تتدفق فيه السلع والخدمات من مكان لآخر، لن يعود ممكناً ان تحمي دولة ما صناعاتها الوطنية بسياج من الحماية الجمركية، كما انه لن يعود ممكناً ان تقدم دعماً مستتراً لمنتجاتها لكي تزيد من قدرتها التصديرية في الخارج فمثل هذه الممارسات تقع مباشرة في مجال الاغراق الذي تمنعه اتفاقية الجات, وسوف يفرض ذلك على الدول، خصوصاً الدول النامية، ان تستغل فترة السماح التي منحتها اتفاقية الجات لكي تقوم بمهمة توفيق صناعاتها المختلفة واعادة هيكلتها لكي تصبح اكثر قدرة على المنافسة.
وارتبط بزيادة دور القطاع الخاص وبتحرير الاسواق، انسياب رؤوس الاموال والاستثمارات الاجنبية من بلد لآخر، واصبحت الدول تتنافس على اجتذاب رأس المال الاجنبي لكي تسرع بمعدل النمو الاقتصادي فيها، وادى ذلك الى ازدياد دور البورصات واسواق المال وخصوصاً في الدول التي تحولت من نظم الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق.
هذه التطورات الاقتصادية رافقتها ثورة علمية وتكنولوجية هائلة، وثورة في مجال الاتصالات والمعلومات، فقد شهد العالم تسارعاً في مجال التطور التكنولوجي في حقبتي الثمانينات والتسعينات مما ادى الى تضييق المسافة بين العلم من ناحية و التكنولوجيا من ناحية اخرى، فقد ضاق الوقت الذي كان يستغرقه نقل فكرة او نظرية علمية ما الى مستوى الواقع في شكل مخترعات ومبتكرات, ويكفي ان نستشهد بالتقدم الهائل في مجال صناعة الحاسبات الآلية، او في مجال التليفون المحمول، فالشركات المصنعة تقوم بتطوير منتجاتها، وتزويدها بقدرات وامكانات جديدة بشكل متسارع وهو مؤشر لحجم استثمار تلك الشركات في مجال البحث والتطوير, ولقد ادى التطور في مجال الحاسبات الآلية والذكاء الصناعي، والتحكم عن بعد، والالكترونات الدقيقة الى تقدم هائل في بحوث الفضاء، والاتصال، والاعلام والمعلومات.
وهذا يقودنا الى رصد ابرز معالم العولمة في المجال المعلوماتي والاتصالي، فمن منا كان بوسعه ان يصدق، في عام 1985 على سبيل المثال، ما يحدث الآن في مجال البث التليفزيوني المباشر، والذي ينقل الى ملايين البشر الاحداث لحظة وقوعها، مثلما حدث خلال حرب تحرير الكويت عام 1991، وما حدث بالنسبة لمباريات كأس العالم من فرنسا عام 1998، ففي كلا المناسبتين كان ملايين البشر، الذين يعيشون في حوالي 150 دولة، يتابعون حدثاً في لحظة وقوعه، وفي نفس الوقت، وأدى ذلك الى بروز آلية جديدة لربط العالم بعضه ببعض, اكد هذا التطور الدور المتزايد لشبكة المعلومات العالمية الانترنت ، والتي ادت، في واقع الامر، الى انهيار حاجزي الزمان والمكان, وأصبح بمقدور المرء ان يتفاعل مع آخرين عبر القارات والمسافات.
تلك بعض مظاهر العولمة باعتبارها واقعاً تاريخياً وتطوراً اقتصادياً وعلمياً يشهده العالم، مظاهر مثل: تحرير الاسواق، وازدياد دور القطاع الخاص، وتدفق الاموال والاستثمارات، وانسياب السلع و الخدمات، وانتقال المعلومات عبر اجهزة التلفاز او من خلال شبكات المعلومات وكلها تطورات موجودة في دول العالم المختلفة، لا تتطلب تصريحاً، ولا موافقة من احد بل تبدو وكأنها قوى هائلة تجتاح العالم المعاصر.
وعندما نتعامل مع العولمة بهذا المعنى، وكما ذكرت آنفاً، فان الترحيب او التنديد، والاشادة والرفض، تصبح اموراً ليست ذات معنى، ولكن الامر الاكثر اهمية ان نتأمل وندرس تداعيات تلك التطورات على بلادنا: ماهي المغانم التي يمكن ان نجنيها؟ وماهي المخاطر التي ينبغي ان نتحسب لها؟
اما الجانب الآخر للعولمة، وهو الافكار السياسية والاجتماعية التي يعبر عنها مفكرو العالم المتقدم والتي تتعلق بأشكال النظم السياسية، او بوضع الاسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة، او بما يعرف باسم حق التدخل الانساني، او بالعلاقة بين الثقافات والحضارات فهذا شأن آخر، وعلى هذا المستوى، وعندما يكون الحديث عن افكار وقيم ومفاهيم، من حقنا، بل من واجبنا، ان نقبل او نرفض او نتحفظ.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved