قال أبو عبدالرحمن: ما ظننت أن أجد في كتيِّب النفس منطقة الخطر مثل هذا التلاقي الوجداني مع قوم من أهل القبلة اتسعت هوة الخلاف معهم أصولاً وفروعاً,, وكلما اتسع الخلاف والحمية امتلأت القلوب بغضاء، والنفوس شحناء,, ولكن هذا الكتيِّب يؤكد أن التعامل مع العقل أصل التكليف، وأصل الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه، واصل الاستسلام لله بتلقي شرعه كما اراد دون تبديل أو تحريف أو اقتراح عليه أو نقص منه أو تقوُّل عليه بمفهوم لا تدل عليه لغة العرب دلالة ترجيح لا دلالة تصحيح,, وأول إيمان بالشرع كان بالعقل، وأول إيمان العقل كان من شواهد الحس، وضرورة الافكار الفطرية من براهين وآيات صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وضرورة التلقي لما بلَّغه عن ربه، فكان القرآن ينزل منجماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغه لقومه بلغتهم التي هم أعرف الناس بها، ويبيِّن ما أشكل من معناه أو استفهموا عنه، ثم كان القاسم المشترك بين أهل القبلة: الإيمان بالقرآن الكريم، والإيمان بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم وجد في القرآن (بلغة العرب لا بالتقويل) مصادر اعتبرها القرآن نفسه مرجعاً للعلم البشري والعلم الشرعي بالشرط الشرعي كالوحي غير المتلو، وهو: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً وتقريراً وإشارة وملامح حسية تدل على قصده عليه الصلاة والسلام، وكالعقل، والحس,, ووجدت مصادر محرمة كظنون العقل المرسل، واتباع الهوى، وتقليد الآباء,, ووجد في القرآن الكريم: أن الدين محفوظ، وأن للرسول صلى الله عليه وسلم أتباعاً وحواريين سُمُّوا صحابة، وأثنى الله عليهم كقوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركَّعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوارة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) سورة الفتح/29 ,.
وقال: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) سورة الفتح/18 ,.
وفي آخر هذه الآيات الكريمات: (,,, ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً)، فمن هداه ربه فمحال ان يضل,, وقال تعالى: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها,,) سورة الفتح/26 ، فهذا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين في عهده، فهم الصحابة رضوان الله عليهم لا أحد له هذا الوصف يومها غيرهم,, وذكر الله أحوال الناس في عهده صلى الله عليه وسلم، فقال: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم* وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم *وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) سورة التوبة/ 100 - 102 .
قال أبو عبدالرحمن: فإذا اسقطنا ولاة الأمر والعلماء من المهاجرين والأنصار الذي رضي الله عنهم فمن سيبقى في الساحة بعدهم يؤخذ عنهم دين الله,, وقل مثل ذلك عمن ذكرهم الله من تابعيهم بإحسان؟!,,لن يبقى إلا الادعاء، وتقويل النص القرآني ما لا تدل عليه لغة العرب، وإحداث مصادر تشريع بأهوائنا وعواطفنا، وقبول الحكايات والمنامات ودعوى الإلهام - التي لا يعجز عن ادعائها أحد -، وقبول أحاديث غير متصلة السند بالعدول,, والاسناد المتصل بالعدول من خصائص هذا الدين العالمي الناسخ الخالد المهيمن، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
قال أبو عبدالرحمن: هذه الآية الكريمة أصل شاهد للحديث الصحيح عن الفرقة الناجية على من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ,, فهذه صفة التابعين بإحسان وتابعيهم إلى يوم القيامة.
إن من مدحهم الله من الصحابة رضوان الله عليهم في قرآنه الكريم بالنص الصريح هم جيشه وعماله ومات وهو عنهم راض، وحملوا الأمانة بعده,, ثم ظهر الواقع الكوني بأنه لا سبيل لحفظ الشرع الذي أخبر القرآن بحفظه إلا بالطريق التي قدَّرها ربنا بقضائه القدري، فكان قضاؤه الكوني ضماناً لما وعد به من قضائه الشرعي,, ولم نجد في قضاء الله الشرعي ضماناً لوصول شرع الله إلى خلق الله (دون افتراء على لغة الشرع، أو مكابرة للتاريخ، أو ادعاء يسر، أو ادعاء مصدر للشرع ليس في القرآن الكريم الإحالة إليه بصريح اللغة) إلا نقل السنة التي لا يُفهم القرآن بدونها عن الصحابة رضي الله عنهم جيلاً بعد جيل,, وهذه الاجيال السلفية الصالحة وسط بدون تحسير ولا تقصير تعرف لعلي رضي الله عنه، ولآل البيت رضوان الله عليهم حقهم كما تعرف للمهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم حقهم، ويصلون على محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى آل محمد في كل جلوس تسليمة في كل الصلوات واجبها ونوافلها، ويتأسون بعلي رضي الله عنه في محبته وموالاته لزملائه من الصحابة، ويشكرون للحسن بن علي رضي الله عنهما موقفه المشرِّف عام الجماعة، ويتأسون به في التعامل مع الراعي والرعية وإن كان الوالي المسلم مفضولاً علماً وتديناً وقد يكون فاضلاً سياسية وحلماً وجمع كلمة، ويلعنون قاتل الحسين رضي الله عنه، ويرون أنه قتل مظلوماً,, ولا يجعلون من قتله مناحة لم يشرعهاالله، ولا يعطلون الإمامة وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر منا، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة ولو كان المتولي عبداً حبشياً، ولا تقوى عقولهم - للبراهين اللائحة - على تصور التاريخ الإسلامي بلا إمامة حق يجب معها الجهاد والسمع والطاعة وإقامة الفتوى والقضاء والصلاة وشعائر الإسلام والحسبة حسب الطاقة، ومضاء عقود المسلمين ومعاملاتهم,, ولا تقوى على تصور الإمامة لفضلاء أخيار لم يمض لهم بيعة شرعية، ولم ينفذ لهم سمع ولا طاعة,, ولا تقوى على تعطيل واجب الإمامة العظمى بانتظار غائب لم يرد على مدى القرون,, ومن كان معذوراً بجهل أو تأويل على هذا المعتقد ومات على ذلك فأمره إلى الله الأعلم بنيته وعذره، ومن كان حياً فتدعوه إلى البحث,, وتشفق على اي واحد من أهل القبلة أن يتدين لله - عن عاطفة لم يعززها البرهان - بسب وثلب من أثنى عليهم في الذكر الحكيم في أكثر من موضع، وقامت البراهين على أنهم أمثل وأفضل الأجيال، فإن الله لا يُعبد بأبغض الأشياء إليه، ولا يعبد بغيرما شرع مع إلغاء ما شرع.
قال أبو عبدالرحمن: إن التورع في طلب الحق، والإصغاء للبرهان: هما جماع أمر المسلمين محبة،, ووحدة صف.
ولقد تناول الصغار علاج النفس شرعاً تناولاً سلفياً يفرح به المسلمون، ويفرحون بمثله في كل المسائل الأخرى.
وكلمتي هذه مداخلات وتعميقات لا تبخس الكتاب شموليته، وأهم ما أضيفه هو المعنى في استخدام كلمة نفس في لغة الشرع المطهر، فقد تطلق - وذلك هو الأقل - مرادفة للروح (والروح علمها عند ربي)، وقد تطلق - وذلك هو الأكثر - بمعنى الذات (ولا تصوُّر لذاتٍ بلا صفات)، فلا تكون بمعنى القلب كما مال إلى ذلك الباحث الفاضل,, وأكثر ما ترد النفس بهذا المعنى في موضع الذم، لأنه يُراد بها الجانب الغالب فيها، وهو غرائز الهوى والشهوة، لأنها التي تغلب، ولهذا حُفَّت الجنة بالشهوات، لتمنع منها,, ويقابل إعمال غرائز الشهوات إهمال غرائز العزائم والفضائل,, ويدفع غرائز الشهوات حيوية الجسد، وجنوح بنيته وخلاياه إلى الإشباع بالشهوات,, شهوات الملذات، وشهوات الغضب والغلبة والانتقام وبعد الصيت,, ويقمع غرائز الشهوات، وبعث غرائز العزائم والفرائض، والموازنة بين كل الغرائز، لتكون النفس سوية: هداية الله الكونية ببرهان العقل من فطرته المركوزة، والحس المكتسب,, وهداية الله الشرعية التي صارت إيماناً قلبياً ببرهان عقلي,, برهان كل ذلك قوله تعالى: (ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دسَّاها) سورة الشمس/ 7-1- .
قال أبو عبدالرحمن: المراد بالنفس في هذه الآية الكريمة الذات الإنسانية بروحها وجسدها ومواهبها، فقد سواها,, أي خلقها على ما هي عليه من روح وشحم ولحم وعصب وعقل وقلب وسمع وبصر,, وفي هذه التسوية عُرام الغرائز الشهوانية، وقوة الجسد الصارخة المذكية للغرائز البهيمية، وإغواء الشيطان الذي لا يفتر، وثقل البحث عن الحق والخير والجمال، وثقل الانقياد لهن بعد معرفتهن، لأن التملك والحرص والشح واغتنام العاجل من مطالب الجسد العاجلة,, وفي هذه التسوية العقل الهادي الذي يرجح الآجل على العاجل، ويقدم المشروع على غير المشروع، ويسجل الآلام الباطنية الملازمة إزاء الملاذ غير المشروعة الزائلة ويسجل الملاذ الباطنية الملازمة إزاء المكاره الزائلة,, وهذه المكاره: إما صبر عما حرم الله، وإما صبر على طاعة الله، وإما صبر على قدر الله,, وهو يرجح بين المصالح والمفاسد بمعادلة دقيقة، وينتفع بالتجربة الذاتية، وبما يحس به ويعيه من تجربة البشر,, ومن هذه التسوية أمور من الهداية لاحقة، ذلك أن هداية الله اربعة أنواع:
النوع الأول : هداية كونية في الذات من القول والوعي.
والنوع الثاني: هداية كونية في الآفاق كالنجوم نهتدي بها,, ويجمع الأمرين أن الله أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
والنوع الثالث: هداية شرعية إيضاحية بيانية، إذ لم يكل ربنا العقل المخلوق إلى قواه المخلوقة، بل أظهر به الإيمان بالشرع، ثم أظهر الله له بالشرع تفصيل ما ينبغي وما لا ينبغي.
والنوع الرابع: هداية كونية توفيقية إلى ما جاء الشرع من أجله، وذلك بتوفيق الله العبد إلى مراد الرب - وهو الحق الذي اختلف فيه-، وإعانته على ترك المنهي عنه والاستكثار من الخير, يكون ذلك ابتداء من الرب بلا سابق عمل كاصطفائه الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ويكون جزاء على طاعات سابقة,, وكل ذلك تفضل من الله، فالله يبدأ عبده بالهداية إحساناً، ولا يبدأ عبده بالإضلال عدلاً، ثم يضله إذا حادَّه وعاند شرعه جزاء عادلاً.
قال أبو عبدالرحمن: هذه هي التسوية، وهذا هو الإلهام,, ثم تأتي اللفتة الثالثة بفلاح من زكاها وخيبة من دساها، فهي افعال مختلفة من ذات واحدة، وهي ذاتها تنهي ذاتها وتأمر ذاتها، فكيف ذلك؟,, معنى ذلك أن مالاحرية للعبد فيه ولا قدرة له عليه من قضاء الله القدري لا تكليف عليه فيه إلا بما يقدر عليه في الموقف منه من تعاطي الاسباب المباحة والرضى والصبر والشكر والتسليم,, ومعنى ذلك أن الله لا يؤاخذ عبده إلا بما ملك حرية اختياره وفعله كالذهاب إلى صلاة الجمعة مبكراً، أو اصطحاب مومس إلى حانة الخمار، فهو يملك اختيار أحد ذينك أو فعلهما، وفي أولهما فلاح النفس - الذات كلها -، وفي ثانيهما خيبتها، وهو يملك إهمال العقل وبرهانه، ونفور القلب وعذابه، وتناسي أن داعي الفتنة أمكن، وهمزات الشيطان أحرص,, ويملك الإصغاء للبرهان، وحرية النية، والقدرة على إمضاء العزم بالجوارح، واستعمال المحصنَّات شرعاً: من الدعاء، والتقرب بالطاعات، وإضمار العبودية لله، واختيار الجليس الصالح، والاستمتاع ببرد اليقين، ونعيم الطاعة وعزها ونورها وحلاوتها في القلب، وإرضاء مطالب الجسد بالمباح والمستحب والواجب,, ومن ديدنه الطاعة تكتب له طاعته أضعافاً إذا أقعده عجز عنها,, ومن ديدنه المعاصي لا يكتب عليه شيء إلا ما سلف إذا عجز عنها، فهل وراء هذا الإحسان إحسان، وهل وراء هذا العدل عدل؟!,, والله المستعان,, وإلى لقاء.
|