Saturday 21st August, 1999 G No. 9823جريدة الجزيرة السبت 10 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9823


من أسرار الكتابة
غيوم الكتابة الممطرة
عبد الباقي يوسف

انها غيوم الكتابة,, انها رياح الكتابة,, انه نهار الكتابة,, انه ليل الكتابة, ثمة طقوس تصرخ بانها طقوس لا تصلح الا للكتابة وثمة طقوس تصرخ بانها لا تناسب الكتابة, ثمة غيوم يحس الكاتب بانها غيوم الكتابة ويحدس بانها ستمطر كلمات غزيرة.
ايام الكتابة هي اخصب الايام وارقاها, عالم الكلمات هو عالم من الوضوح وعالم من الغموض، ولكن هذه الكلمات التي تولد من روح الكاتب هي التي تقدم باقات الزهور الى شرائح القراء,, انها تفتح الابواب المغلقة وتقول إن الحياة بهية اعتادت الكتابة ان تطرق دوما الابواب المغلقة وان تفتح طرقا جديدة في صحراء الانسان.
ارأيتم كيف ان البروق والصواعق المباغتة تفعل فعلها في شقوق الارض والثرى فانها تفعل الفعل ذاته في تربة روح الكاتب حتى تولد الافكار العظيمة وتغدو حية تسعى في الورق, ان كل جملة تترك في الحواس ضربة صاعقة لا تنسى ولكن الامطار التي دوما تهطل بعد شحوب السماء تمنح فيما بعد صفاء كونيا ما بعده صفاء,, تمنح ربيعا من البلابل والاشجار, ستبقى الكتابات الصادقة تنبض في عروق السنوات والقرون,, ستبقى امل الاجيال المتلاحقة,, ستبقى تدفئهم في صقيع الشتاء وتبقى تحميهم في كهوفها عندما يحين موعد الذئب, اظن ليس بوسع الانسان ان يحتال على القلم مهما كان (حدقا) حتى اذا كان يجيد الاحتيال في تزوير العملات و القطع الميكانيكية,, ليس بوسع الانسان ان يحتال على جمالية انغام الطبيعة، مثلا ان يزوّر ازيز الريح أو حفيف الشجر أو خرير الماء, ان الشرط الأهم في العملية الابداعية الا يكون هذا الكائن محتالا أو يتسول الكلمات التي يغسل وجهه بمياهها, ان الكتابة بذاتها هي مغامرة كبرى في ارض محفوفة بالمخاطر وهي معجزة بشرية كبرى اكتشفها الانسان.
مملكة الكلمات السحرية تحط في هذا البيت المغلق، دخان السجائر، فناجين القهوة، كاسات الشاي، والموسيقى تنبعث بخفوت تسبح في الاجواء على ايقاعات وضربات حروف الآلة الكاتبة.
هاهي السعادة تأتي مرة اخرى لتسبب شيئا من الانعاش للروح الحزينة تفتح امام الجراح ابوابا سحرية,, ابواقا اكثر قوة، وها هنا اعترف بجبروت الكتابة وانها الوحيدة التي تضمد جراح الانسان الداخلية انها مملكة الخلاص التي تضمد جراح الانسان الهارب من الانهيارات واظن ان جرس الهاتف بدأ يرن وانا مدمن على الكلمات اغرق في هذا الانغلاق التام، مازال الهاتف يرن سيهتف صوت وتتسرب نبرات خافتة من السماعة لتعلن رغبتها الفورانية للدخول في تفاصيل هذه الاجواء النابضة.
في هذا العالم المغلق تنفتح شهيتي للحياة واشعر بقوة الكائن البشري، اشعر بضعفه كذلك، وفي هذا الوقت يمكن لحيوان صغير بحجم الاصبع ان يسحقه!, اشعر بتناقضات تلتف حول الدخان الذي يختنق في الجو المحكم, الكتابة تحقق لي البهجة ولا يعجبني مصير هذه السطور، ما يهم هو ان اكتب وفي الحقيقة فانني غزير الكتابة واغلب ما اكتبه اقوم بتمزيقه لانني اخاف النشر، ويحدث ان امزق جهود سنة كاملة بمجرد اعادة القراءة والحساسية نحو ما كتبت, لا أريد ان اقول اسراري للآخرين، لانها ليست من حقهم، اريد ان تبقى معي، ولكن الكتابة تأتي فتعلنها ولذلك فانني اتلذذ بتمزيق الكتابة اكثر من لذة الدفع للنشر، انها متعة كبرى لاتفوقهامتعة النشر، انا على يقين فيما اقول وعلى يقين ان ما مزقته فاق ما نشرته اضعاف المرات، وعندما يصدف ان اقرأ كتابا سخيفا ينتابني شعور ان المؤلف قد احتال عليَّ بقيمة هذا الكتاب وبالوقت الذي اضعته معه.
وفي الغالب اضع نفسي في مذهب المزاجية في عالم لا ينتهي من الفوضى، الرتابة أو محاولتها تسبب اكبر الالام لمن يكون في احضان المجهول، انه يعيش حالات متلاحقة من الاخفاقات والالام، يمكن ان اعيش تفاصيل حياة هادئة بالفوضى,, بمزيد من الفوضى,, اذ ليس مطلوبا من الانسان ان يكون عاقلا في معظم الاوقات، عليه ان يكون مجنونا ايضا في اوقات,اؤمن ان علىالانسان ان يمارس مطلق حريته ويقوم بتجارب اخرى وينفتح على الحياة كما تتفتح الزهور في الحدائق الكبرى، افهم ان الغباء الوحيد في العالم هو الانغلاق والجهل والدكتاتورية وافهم ان التمرد هو وسيلة الانسان المقموع الوحيدة للخلاص من ثقل الوصاية السوداء, الكلاب ايضا يمكن ان يجعلوا انفسهم اوصياء على الآخرين, حاجة الانسان الى الحرية هي اكثر من حاجته للطعام والشراب واظن انه علينا ان نتعلم هذه الحرية من الهواء النقي الذي يأتينا من الخارج، علينا ان نفتح نوافذنا على العالم وان نتصدى للايدي التي تغلق علينا هذه النوافذ.
واظن ان العالم هنا لن يكون بخير الا اذا لبثت هذه النوافذ مفتوحة وتسرب منها هواء نقي الينا، واما الذين يصرون على اغلاق هذه النوافذ فانهم يعلنون مراوحتهم في المكان ويعلنون موتهم كذلك.
انها قوة الكتابة التي تؤرخ الانسان,, تؤرخ مجده وتؤرخ عاره وهي الدليل على هذا المجد وعلى هذا العار وهي محاولة من الانسان لاطلاق صيحة مدوية خالدة لا تنطفىء في عالم مجهول اتى اليه ويريد ان يتفهمه ويعيه ويترك فيه شيئا يدل عليه وعلى ما توصل اليه من افكار عن هذا العالم وهي كذلك صيحة من ضمير الانسان في وجه الشر العام,, هذا الانسان الذي يرتعب من المجهول ودوما يخشى مما هو اكثر منه قوة برغم جهله عن امكانات مجهولة وخافية لديه وثقته بهذه الامكانات الخارقة في نفسه.
حتى الآن لم يجد وسيلة اجدى من الكتابة تلخص وتقدم هلوساته وتصوراته وافكاره عن العالم وكذلك تسجل نقاط ضعفه ونقاط قوته ومشاعره وموسيقاه الداخلية, وفي النهاية فان الكلمات الخالدة هي التي تنجح في ان تجمع ما بين الهذيان والعقل لان الانسان في كثير من مواقفه يهذي كما انه في كثير من مواقفه يقدم العقل, الانسان هو الكتابة والكتابة هي الانسان بكل عقده وعقله وجنونه وضعفه وقوته.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
لقاء
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved