قبيل ان اتحدث عن ذكريات مرت بي منذ ثلاث سنوات في جلسة هادئة في فندق الميريديان بدمشق، اود ان اتضرع لله بأن يغمر سبحانه وتعالى الراحل عبدالوهاب البياتي بفسيح جناته, اعود ثانية لتلك الجلسة النادرة، حيث كان موعد اللقاء مع الشاعر يحيى السماوي، اذ عرفني السماوي على الشاعر العربي الكبير البياتي، كانت المائدة تمتلىء بفناجين القهوة وعلب الدواء وهي مفروشة على المائدة، وكان الحديث يشبه الهمس والبوح عن الوطن العربي الكبير، كانت الآهات تغلي في صدر البياتي، وكان رصيناً هادئاً احياناً واحياناً اخرى يتحول الى براكين فيقذف كل الحمم ليعبر عن حالة متردية، وكنت لا املك امام هذا الشاعر الكبير الا السمع والاصغاء ولكن فلت من لساني عبارة لجبران خليل جبران ويل لأمة تلبس مما لا تنسبح وتأكل مما لا تزرع ونظر اليّ البياتي وقال من اين انت جغرافياً فقلت من الجزيرة السورية محافظة الحسكة المحاذية للحدود العراقية، ولي في العراق الشقيق اولاد عم، وهنا تدخل الاخ يحيى السماوي ولخص بطاقتي، فعاد البياتي الى احتساء فنجان القهوة مع بعض الحبوب لمتابعة رحلة الحياة.
وتتابعت الاحداث ما بين ادباء عراقيين مقيمين بدمشق قصدوا الفندق للسلام على البياتي واسترجاع الذكريات وملاعب الشباب والحيوية والنشاط ثم اشار اليّ الشاعر يحيى السماوي ليصطحبني الى منزله بدمشق، حيث كان قد امّ سوريا باجازة صيفية قادماً من المملكة العربية السعودية آنذاك، وقال لي اخي جاك غداً سنزور الشاعر محمد مهدي الجواهري، ولكن حدث ما الغى تلك الزيارة التي كنت امنّي النفس من خلالها للقاء عملاق من عمالقة الشعر او قل عملاقين الجواهري والبياتي.
امضيت ليلتي نائماً في منزل السماوي بدمشق وسهرنا لساعة متأخرة احاول جاهداً ان ابعث في نفسه بعضاً من الفرح ولكنه كان يبكي ويقول لقد عذبني سفّاه العراق لم يبق في الجسد قطعة سليمة انني الموت المؤجل, انني الموت المؤجل,, كان يبكي كالطفل، ومع ذلك كنت اشاطره احزانه واقول له انا ايضاً يا يحيى مريض بالسكري والضغط والتهاب الاذن الوسطى فقال الالم اكبر من ذلك لقد مات العراق، مات العراق، مات العراق ورحل ابناؤه، ورحل رمز من رموز الشعر الحديث عبدالوهاب البياتي رحمه الله، واسكنه فسيح جناته، وآخر ماقاله الراحل:
كل ليلة انتظر الموت ومنذ اثنين وسبعين عاماً