* القاهرة- أ,ش,أ
مع مسيرة الاحتجاج الحاشدة التي جرت امس قبالة مقر البرلمان اليوغسلافي تتجه انظار العالم الى بلجراد في لحظة فاصلة من المواجهة بين المعارضة والحكومة اليوغسلافية ومشهد جديد من تاريخ مترع بالعنف والمحن فيما يطرح السؤال الكبير نفسه هل تودي مظاهرة المليون صربي التي دعت لها المعارضة الى الاطاحة بنظام سلوبودان ميلو سفيتش.
في البلقان يقال ان الحروب تندلع في الربيع اما الثورات فتهب في الخريف، ولكن هاهي حرب كوسوفا قد وضعت اوزارها في الربيع الذي مضى فهل تندلع الثورة الشاملة ضد نظام ميلوسيفتش خلال صيف غاضب مع المظاهرة التي تعتزم المعارضة اليوغوسلافية تنظيمها غدا قبالة مقر البرلمان في بلجراد.
يقول المحلل الامريكي مارك دينيس في تقرير نشرته موخرا مجلة نيزويك ما اذا سارت الامور على النحو الذي يأمل فيه المعارضون لميلوسفيتش فاننا سنشهد اوقاتا مثيرة في البلقان.
والحقيقة ان هذه الاوقات المثيرة قد بدأت بالفعل منذ عدة اشهر ووصلت الى ذروتها امس مع مظاهرة المليون فيما تتردد اصداء الصيحة التي اطلقها زوران جيفكوفيتش زعيم المعارضة الصربية لقد حان الوقت ليشعر نظام ميلوسفيتش بالخوف من الشعب وليس العكس.
غير ان هذه المظاهرة ليست الاولى من نوعها ضد نظام ميلوسيتش فقد سبق وان احتشد مليون متظاهر في قلب بلجراد للمطالبة باقصاء ميلوسفيتش من السلطة عام 1997 ومع ذلك لم يسقط النظام ولكن حرب كوسوفا لم تكن قد اندلعت بعد الان تغير المشهد بعد الخسائر الفادحة التي تعرض لها الاقتصاد اليوغسلافي من جراء الهجمات الجوية المكثفة التي شنتها طائرات حلف شمال الأطلنطي ابان حرب كوسوفا مع العزلة الدولية والاقليمية القاسية المفروضة على يوغسلافيا في ظل نظام ميلوسفيتش.
لكن الذي لم يتغير حتى الان في المشهد اليوغسلافي هو ذلك التشرذم في صفوف المعارضة التي تتمثل قاعدتها الاساسية في التحالف من اجل التغيير كتجمع مفترض لاحزاب المعارضة,, ومن اربز هذه الاحزاب حزب التجديد بقيادة فوك دراسكو فيتش والحزب الديموقراطي الصربي بقيادة زوران دجنديتش وحزب الاتحاد المدني الذي يتزعمه فيسنابيشتش وحزب صربيا الجديدة ويتزعمه فليميرايليتش وحزب الحركة من اجل الديموقراطية الذي تم اعتقال زعيمه بوجيلوب ارتسميفيتش يوم الثلاثاء في بلجراد, هذه الاحزاب المعارضة لم تتفق على اي شيء باستثاء الاطاحة بسلوبودان ميلوسفيتش وبقدر ما يستفيد ميلو سفيتش من هذا التشرذم والتناحر بين معارضة تشعر القوى العالمية الراغبة في التغيير داخل يوغسلافيا بالاحباط وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
ولئن كان العداء الامريكي لنظام ميلو سفيتش قد وصل الى حد تفويض وكالة المخابرات الامريكية بتغويض هذا النظام فان السؤال الذي مازال ينتظر الاجابة ما هو البديل ويستمد هذا السؤال مصداقيته من افتقاد معارضي ميلوسفيتش للشعبية الكافية لحكم بقايا يوغسلافيا فيما لاتختلف الوجوه المعروفة في المؤسسة العسكرية عن ميلوسفيتش بل ان اغلب جنرالات النظام مطلوبون للمحاكمة امام محكمة جرائم الحرب الدولية شأنهم في ذلك شأن ميلوسفيتش.
ويكتسب السؤال المزيد من الاهمية مع الخبرة المشهود بها لميلوسفيتش في اثارة الفرقة بين معارضية فيما يبدوا مسيطرا على مقاليد الامور داخل المؤسسة العسكرية حتى تحولت مسألة الاطاحة بميلوسفيتش الى معضلة في الداخل اليوغسلافي والخارج معاً.
وفي هذه الاجواء تنشط اجهزة العمل المباشر والمخابرات ويتزامن الحديث عن تحريكات المخابرات الامريكية للاطاحة بميلوسفيتش مع تأكيدات مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الامريكية على ان واشنطن لن تقبل استمراره في السلطة بينما تودي مثل هذه التصريحات لالحاق المزيد من الضعف بالمعرضة في الداخل ومنح ميلوسفيتش فرصة وصم معارضية بوصمة العمالة للولايات المتحدة والغرب.
من هنا حق لبعض المحللين ان يأخذوا على الولايات المتحدة عدم فهم المنطق القومي في البلقان او ادراك مدى تغلغل العقد التاريخية والاسطورية معا في نفوس الصرب فيما يستفيد ميلوسفيتش اعظم فائدة من هذه العقد والاساطير لتكريس نظام حكمه.
اذا كان لابد من بداية للاحداث التي تشهدها يوغسلافيا الان والتي تهدد بانفجار لبقايا هذه الدولة المكونة من جمهوريتي صربيا والجبل الاسود فلتكن البداية من التاريخ نفسه الذي وقع اسيرا في قبضة عناصر صربية متطرفة منذ اكثر من ستة قرون ولم يعرف الفكاك منهم حتى الان,
والمشكلة او المأساة ان يوغسلافيا دولة محورية في منطقة البلقان التي توصف بانها برميل بارود دائم ينفجر باستمرار عند اول احتكاك بها.
هذا هو تاريخ بلدان البلقان وهذه هي مأساة هذه المنطقة المكونة من موزاييكا وخليط من شعوب تنتمي لقوميات وعرقيات ولغات وديانات شتى.
هكذا اصبحت منطقة البلقان وفي القلب منها يوغسلافيا قابلة دائما للتفتت والانقسام حتى اصبحت كلمة بلقنة تعني بكل اللغات احتمالات تقسيم البلد الواحد او الشعب الواحد الى فئات ووحدات اصغر فاصغر وفي نهاية القرن العشرين تعود البلقنة الى مسقط رأسها لتفعل أفاعيلها وليتطابق الاسم مع المسمى كما كان ذلك في السنوات الاولى من مطلع هذا القرن الحافل بالاعاجيب والمحن.
ان يوغسلافيا تركيبة انسانية معقدة وكانت دولة محصورة او محاصرة في اطار شبه حديدي وتصور الزعيم جوزيف بروز تيتو انه يستطيع مع تجربة العيش المشترك منح الكل فرصة للذوبان في فكرة وطن واحد يحرص عليه الجميع بمقدار ما يحرص الوطن الواحد على الجميع.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية استطاع الكرواتي جوزيف بروز تيتو ان يعيد توحيد يوغسلافيا في صيغة فيدرالية تتكون من ست جمهوريات هي سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وصربيا والجبل الاسود ومقدونيا فيما كان اقليم كوسوفا جزءا من صربيا مع تمتعة بحكم ذاتي واسع النطاق .
وكان من الاقوال المتداولة عن يوغسلافيا قول ايطالي مأثور ان يوغسلافيا تتألف من ست جمهوريات وخمس مجموعات عرقية واربع لغات وثلاث ديانات وابجديتين وتيتو واحد, وبرحيل الماريشال تيتو رحلت يوغسلافيا معه وانقسمت الجمهوريات وتمزقت وتصارعت العرقيات واللغات والديانات والابجديات ولم يعد هناك من تيتو ما يجمعها.
من هنا يقول بعض العارفين بالشأن اليوغسلافي ان حرب الصرب بدأت في اليوم الذي مات فيه تيتو عام 1980 حيث انتفضت يوغسلافيا من بعده في سلسلة حروب دموية تمثل انقلابا على ارثه الوطني ومفهومه السياسي بعدما جعلها دولة نادرة في اوروبا في حيادها بين المعسكرين الشرقي والغربي ابان اقسى ايام الحرب الباردة مع رفيقة جمال عبدالناصر وجواهر لال نهرو عندما كان الحياد الايجابي عبارة لها معناها.
من مأساة البوسنة الى ماسأة كوسوفا كان مجرم المأساتين واحدا هو سلوبودان ميلوسفيتش واصل الداء واحد ايضا وهو انطلاق القومية الصربية من مرقدها بعد رحيل الزعيم اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو وهي قومية متطرفة ذات نزعة مدمرة ترفض التعايش مع الاخرين الا اذا كانت في مركز السيطرة الكاملة عليهم.
كان تيتو يعلم هذه الحقيقة ويدرك خطرها على الوحدة اليوغسلافية ونسيجها الفيسفسائي من مجموعة مختلفة من الشعوب والاديان واستطاع بشخصيتة الكاريزمية وشعبيته وحنكته ان يكبح جماح القومية الصربية المتطرفة طوال فترة حكمة التي استمرت 45 عاما حتى توفى عام 1980 وقبل وفاته قال في اخر حديث صحفي بعض الناس يقولون انني اول يوغسلافي في التاريخ وبعض الناس يقولون انني قد اكون اخر يوغسلافي في التاريخ وقد تحققت النبوة.
فبعد وفاته انبعثت القومية الصربية على يد مجموعة من السياسين والكتاب المتطرفين وانعكست في مذكرة اصدرتها الاكاديمية الصربية للعلوم والاداب ترسم الطريق نحو اقمة صربيا الكبرى.
وبدأت اصداء هذه المذكرة التي تتردد في الصحافة الصفراء ثم انتقلت بعد ذلك الى الصحافة الرصينة التي تغير خطابها الاشتراكي الى اسلوب غوغائي هابط في ظل سطوة طغمة ميلوسيفتش التى مضت تعمل على تكبيل الصحافة ووسائل الاعلام الاخرى.
لقد استغل ميلو سفيتش وسائل الاعلام اسوأ استغلال للتشهير بخصومة السياسين تمهيدا لازاحتهم من طريقه واحدا بعد الاخر ولم يسلم من هذا المصير ايفان ستامبوليتش الذي يوصف بأنه استاذ ميلوسفيتش وولي نعمته الذي اخذ بيده ليمكن له في الحزب الحاكم ويكون ساعده الايمن فخاب فيه رجاؤه.
ولم يتورع ميلوسفيتش عن تزييف التاريخ مستغلا خاصية معروفة لدى اية نزعة قومية متطرفة شوفينية وتتمثل في احلال الاساطير والملاحم الشعبية محل الحقائق التاريخية حتى تحظى هذه الاساطير مع الايام والسنين بقداسة ولايجرؤ احد على مناقشتها او التشكيك فيها.
في عام 1987 وقف ميلوسفيتش ليعلن في حشد من صرب كوسوفا ان يوغسلافيا لاوجود لها دون كوسوفا وبعد ذلك بعامين الغى ميلوسفيتش قرار تيتو بمنح اقليم كوسوفا حكما ذاتيا ليصنع بداية المأساة التي وصلت تداعياتها الان الى قلب بلجراد لتهز دعائم حكمه بعنف.
بهذا المعنى استخدم ميلوسفيتش وسائل الاعلام لخلق عدو وهمي وشحن عقول الشعب الصربي بمشاعر الخوف والكراهية وحشد الاكاذيب واختلاق الوقائع وافتعال المواقف حتى ذهب بعض المحللين الى ان هذا الاسلوب الصربي المتطرف لايضاهية الا الاسلوب الدعائي الصهيوني وراح البعض يعقد مقارنات بين القومية الصربية المتطرفة والايديولوجية الصهيونية الاقتلاعية وهو تشابه لاتخطئة العين المراقبة للممارسات الوحشية ومسلسل المذابح هنا وهناك.
وربما يكون في هذا الاسلوب الذي استخدمه ميلوسفيتش الاجابة عن تساؤل حول السر الذي جعل كوسوفا تسيطر كليا على مشاعر الصرب ومخيلتهم الى حد الاستعداد لارتكاب جرائم لن يغفرها التاريخ, لقد اختلطت الحقائق بالاوهام والواقع بالاساطير فكان ماكان وكانت قضية كوسوفا ضمن القضايا التي زايد عليها ميلوسفيتش وامتطاها للوصول الى احتكار السلطة المطلقة ولم لا.
هذا مايحدث عندما تختلط الحقائق بالاساطير والاهام بالتاريخ والحمى القومية مع الصراعات السياسية والطموحات الشخصية مع التطهير العرقي والنزعات الابدية على حدود لايعرف احد من ارساها وضاعت معالمها في غياهب التاريخ لشعوب تتأكل وتتزود بالثأر المتجدد من جيل الى جيل.
من هنا لم يكن هناك مبرر للحيرة التي استبدت بالبعض وهم يتساؤلون كيف يمكن ان يخرج اكثر من مائة الف متظاهر صربي عام 1987 الى الساحات والشوارع في بلجراد مطالبين على مدى 88 يوما باسقاط ميلوسفيتش ونظامه فيما وقفوا مع ميلوسفيتش في وجه الغارات على بلادهم معاندين مطالب الولايات المتحدة والغرب.
من الطريف ان يدلي رجل مثل المضارب العالمي جورج سوروس بدلوه في الاشكالية اليوغسلافية فيختزل كل هذا التاريخ من العنف والمحن والاساطير ويقدم الحل حسب نظرته المالية في صفقة تتمثل في تقديم الغرب مساعدات مالية هائلة ليوغسلافيا مقابل اجراء انتخابات حرة مؤكدا ان هذه الصفقة ستودي للاطاحة بميلوسفيتش.
مأساة ان تتحول بعض الدول والاقاليم الى ساحات للاختبار ومأساة ان يكون العناد مفتاح شخصية سلوبودان ميلوسفيتش القابض على اللحظة التاريخية الراهنة في بلجراد بينما تتحول الاشكالية اليوغسلافية الى معضلة لايعرف احد ان كان المفتاح لحلها في الداخل او الخارج لكن المؤكد ان بلغراد ستشهد اوقاتا مثيرة ولحظات فاصلة في المواجهة بين الحكومة والمعارضة وربما تسفر عن مشهد جديد في بقايا يوغسلافيا.
|