عندما كنت صغيراً كنت اقرأ على جدتي رحمها الله الصحيحين، وعدداً يسيراً من كتب التراث الديني, كانت أميّة مثل اغلب اقرانها، ولكنها مثل معظمهم تحفظ القرآن صمّاً، وتجد لذة ومتعة في قراءة كتب الحديث والتراث، وكنت بدوري مشدوهاً مما أقرأ، وأحكي لأصحابي كثيراً من القصص وأرعبهم بالأحاديث عن علامات الساعة والمسيح الدجال، والنار التي تحشر الناس، والدابة لا يُعرف طرفاها تحدث الناس، والجهجاه الذي يسوق الناس كالغنم، ونهلل لانتصار المسيح عليه السلام على المسيح الدجال بين اللد والرملة.
كنا - جدتي وأنا - نستمتع بما نقرأ وان اختلفت مقاصد طالب في السادسة الابتدائية - زمان أول - وعجوز تطيل الصلاة والقيام وتكثر الصيام,, ولكننا أيضاً كنا نشترك بالضيق من العنعنات, فكل حديث او حادثة لا بد أن تبدأ بمثل: قال ابن فلان، حدثني فلان عن فلان عن أبيه أنه قال حدثنا فلان عن فلان,, وهذا الأسلوب متبع في جميع الكتب تقريباً ابتداءً من كتب الحديث الشريف الى كتاب الأغاني، اي الكتب التي تعنى بالأخبار والوقائع، بل والمسائل الأدبية والعلمية, فكل حكاية تاريخية او ادبية لا بد ان توثق هكذا، ببساطة، لأن هذا هو اسلوب التوثيق الوحيد, ففي عصرنا الراهن اذا اراد الكاتب او الباحث ان يوثق ما يورده فانه يذكر المصدر (المطبوع عادة) في الهوامش، او في مسرد خاص للمراجع, ولكن عندما شرع العرب في التدوين وبدأت الكتابة والتأليف كانت العنعنة هي مصدر التوثيق المعتمد، بل والوحيد، ولذا ليس قليلاً ان نجد في نهاية سلسلة السند مثل: ,, انه قال قرأت في بعض كتب الهند كذا وكذا .
ومن هنا - على سبيل المثال - بذل اصحاب الصحاح والمساند وغيرها من كتب الحديث الشريف جهدهم الجهيد لاختبار صحة سلسلة الراوية وتمحيص عدلية الرواة، وظهر علم الجرح والتعديل في علوم الحديث.
ونحن غير موصولين كما يجب بتراثنا بمعناه العام، فالتراث في اللغة: هو ما يُورّث من مال او شرف او فضائل وفي الاصطلاح هو موروث الأمة من حضارتها، أو حضاراتها الماضية، وهو التراث الفكري المتمثل في الآثار المكتوبة الموروثة التي حفظها التاريخ كاملة، أو مبتورة, وفي عالمنا العربي يعني التراث تراثنا العربي اللغة الاسلامي الحضارة بصفة خاصة وأقصد بقطيعتنا مع التراث ان معظم الناس لم يقرأ الا النزر اليسير منه، بالرغم من ان كتبه قد تحتل رفوف مكتباتهم، وبالرغم من توفرها في كل المكتبات ورخص سعرها النسبي, وهذا عائد كما ازعم الى سببين هما العنعنة واللغة.
والعنعنة الاسنادية قد تكون في بعض الأحيان اطول من الواقعة المشار إليها, ويشتد الامر عندما تكون هناك اكثر من رواية للواقعة الواحدة فيورد الكاتب تواتر الرواة لكل شكل مختلف للواقعة.
وهذا يدفع الملل الى صدر القارىء، وهو ليس بباحث متخصص، ولكنه محب للمعرفة والاطلاع ليس الا, كما ويؤدي الى زيادة حجم الكتب بأكثر من الضعف, ويجب ان يفطن المرء الى حقيقة ان الكتب قبل عصر الطباعة كانت باهظة الثمن، ولذا لم تكن متيسرة للجميع, بل كانت تحفظ في خزائن الأمراء والولاة والوجهاء والوزراء والعلماء والمكتبات العامة، وبالتالي لم يكن يقرأها الا نسبة قليلة من الناس، أما البقية من المهتمّين فيشتركون مع الأغلبية بالسماع ممن قرأوها في النوادي وأفنية المساجد حيث يعمد بعضهم الى تدوين ما سمع.
ولأهمية السنّة الشريفة والكتب الدينية فان بعضاً منها قد اختصر وهُذّب، بيد ان الأغلبية الباقية من كتب التراث ما تزال باقية كما صنفها كاتبوها الأوائل، وكما حققها ناشروها.
فالسيرة النبوية لابن هشام تقع في اكثر من 1200 صفحة في مجلدين كبيرين (سلسلة تراث الاسلام/ نشر الحلبي - 1955) اختصرها محمد عفيف الزعبي الى 300 صفحة ونيف (مختصر سيرة ابن هشام/ مكتبة المعرفة ودار العلم/ الطبعة الثانية 1982م) وهذا الفرق لا يعود الى حذف الاسانيد فحسب ولكن الزعبي حذف كثيراً من القصائد واختصر عدداً من الوقائع غير ذات الصلة المباشرة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وتقع السنّة النبوية لابن كثير في اربعة مجلدات (تحقيق مصطفى عبد الواحد/ دار المعرفة/ 1983) في اكثر من 2000 صفحة,، ولكن محمد علي قطب اختصرها في 550 صفحة بالفهارس والهوامش (مختصر السيرة النبوية لابن كثير/ دار المسيرة - 1982) ويقول في مقدمته القصيرة: ولقد وجدت في كتاب السيرةمادة غزيرة، مدققة محققة، علمية موضوعية ولفت نظري بشكل ظاهر ما في الكتاب من كثرة الرواية للواقعة الواحدة مما يخرج به عن اسلوب الصياغة الانشائية، ويقف به عند حد الخبر التاريخي وعمد قطب الى حذف الاسانيد والاكتفاء برواية واحدة للحدث الواحد.
أما عن اللغة، فمن ناحية الاسلوب فقد كان كثيراً ما يعتمد على السجع والإطناب, ولعل السبب في ذلك ان الثقافة كانت شفاهية بالدرجة الاولى والسجع يسهل الحفظ ويبعد الملل عن السامعين لما له من جرس شعري, واضافة الى الاسلوب هناك المفردات التي تبدو غريبة على القارىء في عصرنا, اما مفردات كتب التراث المعنية بالفكر المجرد والمنطق والرياضيات والعلوم والفلسفة، فإنها تتحول الى طلاسم مستعصية على الفكر والفهم.
ومسألة المفردات توقعنا في مشكلتين: احداهما ان كثيراً من هذه المفردات قد هجرت فلا يعرف القارىء معناها, والثانية ان المعنى قد اختلف على مر العصور فتحول الى معنى آخر مما يوقع في فهم القارىء شيئاً غير ما اراده الكاتب او الراوي.
وقد اوردت في صدر هذه المقالة جملة اقرأ على جدتي ومن المؤكد ان القراء فهموا المعنى المقصود, ولكن لو وردت هذه الجملة في كتب التراث لكان المعنى مغايراً تماماً فقرأ على فلان تعني انه تتلمذ على يديه او نال اجازته! وذكرت أيضاً العنعنة واتوقع ان القارىء الكريم لم يجد صعوبة في فهم مقصدي بأني اشير الى الأسانيد، ولكن العنعنة في كتب اللغة والتراث تعني لهجة تنسب الى تميم وقيس واسد ومن جاورهم، وهي قلب الهمزة عيناً فيقولون مثلاً عن عوضاً عن أن وهذه اللهجة ما زالت باقية حتى عصرنا الحاضر، فبعض البادية يقول مسعول بدلاً من مسؤول والهيعة عوضاً عن الهيئة.
وقد انتبه محققو كتب التراث وشُرّاحها لهذا الأمر فعمدوا الى شرح المعنى وتوضيح القصد إما في المتن او في الهوامش, ولكن هذا ادى ايضاً الى كبر حجم الكتاب، والى مضاعفة جهد القراءة, فأن تقرأ نصاً ثم تقرأ شرحه عملية ليست يسيرة، خصوصاً في زماننا اللاهث.
ومن ناحية اللغة وتطورها واختلافها باختلاف الزمان نشير الى ان كتب التراث الاوروبية في جميع النواحي والمتوفرة لعموم القراء مكتوبة بلغة معاصرة حديثة، بما فيها كتب مفكري وادباء التنوير وعصر النهضة، بل والعصور الوسطى ناهيكم عن التليدة.
ولعل اشهر مثال على ذلك مسرحيات شكسبير، إذ لا توجد بصيغتها الاصلية الا في المكتبات الوطنية ومكتبات الجامعات, ولكن المتوفر في الاسواق فهي مكتوبة بلغة انجليزية معاصرة سهلة تختلف عن اللغة الاصلية التي كتب بها شكسبير, ومن الطريف ان احدهم اذا تنطع بالقول فقال كلاماً غير مفهوم او تحذلق فكتب كلاماً مبهماً، فانهم يسخرون منه ويقولون له: لمَ لا تقول كلاماً مفهوماً بدلاً من ان تتحدث بلغة شكسبير .
د, فهد سعود اليحيا