Saturday 4th September, 1999 G No. 9837جريدة الجزيرة السبت 24 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9837


هواجس مقهى أسباني
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

في رحلتي للأندلس بعد ظهر يوم الأحد الموافق 26/4/1420ه - بعد جولة في المسجد الكبير بإشبيلية (سبيَّة عند الأسبان)-: استرحت في مقهى إبَنسَه برناي ، وكان أمامي شيبة أناف على سبعين عاما في تقديري، حنطي اللون، ناصع بياض الشعر، سوّى لحيته وعارضيه وشاربه على هيئة العرب، تلمع نظارته البيضاء إذا رفع رأسه يتأمل في هدوء متكئأً على شمسيته بالزي الافرنجي,, ولولا أنني في بلاد الصليب لجزمت بأنه عربي,, بل عربي نجدي تمدين في الشام او العراق أو مصر، فعاد بهذه الأناقة,, ولولا الحرج من حنث احتماله أقل من واحد في الألف لأقسمت على ظهر الغيب أنه نصراني أسباني من أصل عربي، فلي فراسة لا تخيس في تمييز الاصل العربي كفراستي في معرفة شباب - ولدوا بعدي في مسقط رأسي - بدماء آبائهم ,, ولست أرى ان ذلك الشيبة في تأمله يفكر في أمجاد آبائه من العرب المسلمين بناة الأندلس، لأن كتاب سفر الخروج منذ محاكم التحقيق طمست هُويّته - بضم الهاء -,, وإنما كانت الهواجس هواجسي
هذا دم العُرب فالثم أوجهاً زُهرا
وأنعش الروح من أيامها عِطرا
واحسرتا ذادني عنها مزيد أسى
كسرٌ تهشم لم أجد له جبرا
عشقتها نظراً وعفتها أثراً
لما تبدَّت برجس ملةٍ أخرى
يا شيبة العرب اي الذكريات تعي
وأيها مؤنسٌ أو جالب ذُعرا
اقصة الفتح تستعيدها عبراً
أم عودة الكفر إذ يسترحل الغدرا
قُلِّدت من وثن الصليب مأثمةً
بعد العمائم إذ كانت لنا فخرا (1)
بالخثِّ ضيَّعتَ أحلى نغمة عُرفت
أمَّ البيان وكانت في اللغى الدرا (2)
في جرسها التطريب العذب مؤتلف
ومن تدفقها نستلهم الفكرا
آباؤك الصيد مذ حلوا هنا عمروا
ربع الديار وجل ذكرهم قدرا
انظر محاريبهم تبكي تعبدهم
تبكي عمائمهم والذكر والطهرا (3)
انظر مآذنهم تتاخم الشهبا
يُقدَّس الرب من أرجائها جهرا (4)
يفوح نشر من أردانهم عبق
ويستمدُّ الدجى من نورهم نشرا
وآي إبداعهم لم تخفها حقب
ظلماء حالكة أرسالها تترى
إذا توارى عجيب من مآثرهم
بدت من التنقيب آية كبرى (5)
من عبقرياتهم للعلم مأدبة
كانت بميزان إبداع الورى فجرا
عشاق برهان بلا مسامحة
إذا يقين بدا كانوا له أسرى
فقه وطب وتاريخ وفلسفة
وكل علم حووا وذللوا وعرا
إن أحضر القوم فيضاً من معارفهم
كانوا لدى المبدعين الشفع والوترا (6)
غرناط ناطقة بقصرها الجذل
كأن تاروت فيه ينفث السحرا
ولاَّدة الطهر اشجت معذَّبها
بالشعر عذرياً لم يعرف العهرا
من أي خاطرة تسترجع الذكرى
ولست عن سالف الأجداد بالأدرى
ماضي الصناديد عدنانٍ ويعربها
بل لست تدري كثيراً منه أو نزرا
تكرُّ سفر الخروج لا تني دأباً
تتلو الأكاذيب والمقدَّر المرا
يدعوك ناقوسهم بكل آونة
لتسمع اللغو والتزوير والهُجرا (7)
مأساتك الكبرى أسبابها خلف
شَقُوا بلهوٍ فكان أمرهم خُسرا
كانوا على عروة وثقى موحدة
فمزِّقت وحدة من عروة تعرى
وخلَّفوا سفر الخروج مثلبةً
من بعد سالفة تزري بمن أزرى
من أي خاطرة تسترجع الذكرى
وقد توارى أثيلٌ طاول الشعرى (8)
سفر الخروج غدا لحناً تموسقه
تهجو شموساً صداها يطرب الدهرا
وأنت فرع نما من اصل دوحتها
فأي خصبٍ لفرع دوحةٍ تُبرى (9)
سيان في شرعة الأسماء ما رطنوا
من عجمة قد أعيت منطقاً حرا
سمَّوك إيسا إياثَ أو تكون مُرا
أو كارُلُس أو غارسيَّ أو خَرّا (10)
آباؤك الصيد زيد الخير أو عَمَرُ
وعُدَّ سعداً والربيع أو عَمرا
يا شيبة العرب لم تفعل طواعية
نُكرا وحُمِّلت من تفريطهم وزرا
من أي خاطرة تسترجع الذكرى
عن أمسك الحالي فإنه أحرى
سبعين عاماً تئن في عصارتها
تنعى ليالٍ لم تكسب بها أجرا
حمراء لكن من صديدها نتن
سراء لكن على حُشاشة حرَّى (11)
يُطيِّر الناي من رمادها حمماً
ويوقد اللحن من دموعها جمرا (12)
تبغي شفاء الهم في معتقة
صرف فتغتال كل فكرة حيرى (13)
أين النعيم وبرد اليقين في قلق
وكلما لاح نور أمعنت كفرا
في قبر هيكلها المحموم لاغبة
إن رفرفت للأعالي تبتغي سرا (14)
ضجَّت بهيمية حمراء صارخة
فجدَّدت من أسرها لها قبرا (15)
يا شيبة العرب إن زكى لكم نسب
بلا حنيفية لم نشرح الصدرا
إن العروبة أزكى الخليقة معدناً
أكرم بها إن زكى إيمانُها نجرا (16)
إن تأخذوا الرشد من عيسى وملته
إذ جاء بالصدق عن محمد بشرى
تكن لكم طاعة القربي مضاعفة
ومجد تاريخنا يكن لكم جسرا
وأنتمُ نحن إن لانت سواعدنا
أو آدنا مطمح كنتم لنا نصرا (17)
(1) مأثمة مكان إثم كالمسبعة,, والعمائم تيجان العرب وشعارهم,, وبعد تأقلم العرب في الأندلس ضيع بعضهم هذا الشعار,, قال المقري في نفح الطيب 1/222 - نقلا عن ابن سعيد - :(وأما زي أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم لا سيما في شرق الأندلس، فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضياً ولا فقيهاً مشاراً إليه إلا وهو بعمامة,, وقد تسامحوا بشرقها في ذلك ,,ثم ذكر كثرة ما يتزيا سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم,,!!
(2) اللغى بضم اللام جمع لغة,, ذكر ذلك الجوهري في الصحاح وغيره,, الخث رمزت به للغة الاسبانية، لكثرة هذين الحرفين في كلماتهم,, وقد اضمحلت الاسماء العربية إلا النزر مثل اسماعيل وفاطمة وقبرييل (جبرائيل) وإيساق - اسحاق - ، وسيسل (فيصل),, ومن اسمائهم مانويل، وانطونيو، وقوسيه، وفرانسسكو (اختصاره باكو)، وماركس، وخُرخِت (جورج)، وفِرنَندو، وفيلبي، وخوان، وخيرو (خير)، وقُن ثالو، وإفنا ثيو، ورامون، ورؤون، وأنريك، والفونسو، وآدلفو، وبدرو (بدر)، وريدولفو، ورفائيل (اسم يهودي)، ومِثقيل، والبرتو، وبابلو، وإيساإيات (عيسى) ولويس، وفرانكو، وآلي خندرو، وآنخل، ورُودريفو، وماريانو، وروخليو، وريكاردو,, ومن الاسماء المركبة خوان كارلس، وخوسية انطونيو، وخوسيه ماريا (مريم),, وخوسيه بمعنى المسيح، واختصاره ببّي,, ومن اسماء العوائل جارثيا (أو غارسيا)، وفومِن، والبرت مولينا (بيت طاحون) وآليبوث (أصلهم من حلب)، وانطونيو مدينة,, اسرة عربية الأصل، ومدينة بمعنى عائلة، وفره نندث، وفن ثالث، وكومث ورويث، ومُلينا,, ومما أسبنوا لفظه الكثر (القصر), والفرِث (الفارس)، والكثبة (القصبة)، وقميصه (القميص) والموادة (الوسادة)، والكنترة (القنطرة) وهي جسر صغير، والكنترية بمعنى مجاري المياه، وقيت تارا (القيثار)، وتروبادور (مطرب الدور),, وربما قالوا: طربونيادور,, وكيتال (كيف الحال)، وقردوبة (قرطبة) وفُرانادا (غرناطة)، والأبمبرا (الحمراء).
(3) الذكر تلاوة القرآن، والطهر طهارة الإيمان ومقتضياته عن الكفر والأحداث والأنجاس.
(4) المتاخمة الوصول الى حد الشيء الآخر.
(5) لا يزال التنقيب - بعد انتزاع الدولة لبعض البيوت والأقبية ذات الملكية الخاصة - يظهر مآثر عربية مطمورة.
(6) يشاركون غيرهم في مآثرهم ومعارفهم، فهذا معنى الشفع,, ويتميزون بمعارف أخرى، فهذا معنى الوتر.
(7) آونة مرة بعد مرة، والهجر بضم الهاء وسكون الجيم الكلام القبيح.
(8) أثيل شرف قديم أصيل.
(9) الدوحة الشجرة الكبيرة ذات الفروع الممتدة,, مستعارة لشجرة النسب,, وتبرى تنحت حتى يتحاتَّ ما على أعوادها من خضرة وسياج.
(10) مرا بالميم المضمومة والراء المخففة اسم شجر في الاسبانية,, والخرا والخرة في الأسبانية الجرة,, الخاء مفتوحة والراء مشددة.
(11) حرى بفتح الحاء وتشديد الراء المفتوحة تأنيث حران للمبالغة، وفي الحديث: في كل كبد حرّى أجر,, والحشاشة بقية الروح في الجسد، ثم تُوسِّع بها للنفس بعامة.
(12) الحمم بضم الحاء وفتح الميم الفحم البارد، وفي الحديث: (حتى إذا صرت حمماً فاسحقوني ثم ذروني في الريح).
(13) حيرى وردت لمؤنث الحائر بالقصر والمد.
(14) من معاني الهيكل البناء المشرف، ومنه البيت، وهو مستعار للجسد سجن الروح,, واللغوب شدة التعب وما ينتجه من إعياء.
(15) المراد الشهوات الغريزية.
(16) النجر الأصل.
(17) آده الأمر: بلغ منه المجهود والمشقة.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved