** تحتل منطقة عسير اليوم مكانة مرموقة على عدة مستويات، يأتي في مقدمتها المكانة السياحية، ثم المكانة الثقافية، ثم المكانة الادارية ،الذي ينبغي لكل كاتب أو مراقب منصف؛ ان يشيد بما وصلت إليه من حزم وحسم وضبط تغبط عليه هذه المنطقة ولا تحسد.
** في زيارتي هذا العام الى عسير، أحسست أني اكتشف بلاد اللوز والضباب من جديد,, أو أني أراها لأول مرة، فعسير قبل ستة عشر عاما غير عسير اليوم, وبالتأكيد فإن عسير غداً غير عسير اليوم، ذلك ان عجلات التطوير والتحديث هنا تسير دون توقف، وهي تدور بعقلية متطورة ومنفتحة على العصر الحديث بكل آفاقه ومعطياته,, هذا المفهوم هو الذي نقل عسير من عصر إلى عصر، بل نقلها من عُسر الطبيعة؛ وعنت الجغرافيا؛ وتقوقع الانسان؛ إلى يسر ولين ورحابة:
ضاقت ولو لم تضق لما انفرجت والعسر مفتاح كل ميسور |
هذا انجاز في حد ذاته لا يصنعه إلا ذهنية مبدعة,, وهذه الذهنية التي تغبط عليها عسير، تقبع في جمجمة الامير الشاعر الفنان المبدع خالد الفيصل!
** لقد ظلت منطقة عسير عبر قرون مضت، تلك الكتلة الحجرية التي ترتفع عن سطح البحر بآلاف الامتار، هذا الارتفاع وهذه الطبيعة التي يغلب عليها الصخر؛ جنّبا عسير كثيراً من ويلات الحروب والوقائع والتطاحن التي لحقت غيرها من وهاد جزيرة العرب، وحرمتها أيضا من الشهرة التاريخية التي في كتب الاقدمين من مدن وبقاع ربما كانت اقل شأنا من عسير، لكن الهمداني يعرف بها وبقبر ذي القرنين في كتابه: (صفة جزيرة العرب) في بضعة سطور,.
** ويبدو ان السياسة المتعبة في ترسيخ سياحة حديثة في عسير في السنوات الأخيرة، تسعى الى تجاوز التفسير اللغوي لعسير، بحيث جاء اللفظ على ما يبدو استجابة لطبيعة المنطقة التي (كانت) تستعصي على الغزاة والاعداء، بفضل قسوة التضاريس وبعدها عن تخوم التماس، وصلابة اهلها,, هكذا يتبادر إلى الذهن عند سماع لفظ عسير,, لكن الشعارات التي ترفعها عسير سياحيا وثقافيا وإداريا في السنوات الاخيرة، تبتعد بالمسامع كثيرا عن عسر المكان وقسوة الزمان وجفاء الانسان,, جاء الشعار الاول مجسداً لكرم الضيافة وحسن الاستقبال عند كافة أهالي عسير، فأصبح ترحيبا جميل الوقع، يعبر بصدق عن واقع معاش: (مرحبا ألف),,! وهل اجمل من ترحيب بألف ترحيب,, بل هو بمئات التراحيب في ترحيب واحد!,.
بشرُ أبو مروان إن عاسرته,, عسيرٌ، وإن يساره ميسور |
وبعد هذا الشعار اللطيف، رفعت عسير شعارها الجديد الذي يصور بكل صدق؛ المرحلة التي بلغتها في مسيرة نموها الثلاثي الاضلاع: سياحة - ثقافة - إدارة، فهي تقول اليوم: (لا عسير في عسير، ولا أبهى من أبهى - و,, اليوم أبها وغداً أبهى)!,, والواقع هو هذا بعينه، فقد ذهب العسر بكل مظاهره إلى غير رجعة، وقد أصبحت أبها، حاضرة عسير أبهى وأجمل:
ألا سقيا لأبها من بلاد عليل نسيمها يشفي العليلا بلاد ما ألم بها غريب وودّ مخيّر عنها الرحيلا |
** إن الرمزية التي جسدتها العروض الضوئية الصوتية لأول مرة هذا العام علي بحيرة ابها؛ على مدى ستة عشر ليلة، تكاد تكون حقيقة، في جانب النجم المتلالىء الذي يسقط على البحيرة، ثم تتقاذفه ايدي الرعاة والصيادين وغيرهم، ويتسبب في معركة لا تنتهي حتى يعود النجم إلى مكان سقوطه، إن أبها بهذه البحيرة الجميلة، وهذه السماء المطيرة، والشمس الدافئة، والقمر الذي يكاد يلامس سطوح المنازل,, أبها هي هذا النجم الذي اختار ان يسقط في قمة السروات، وان يظل متلألئا تتقاذفه ايدي العشاق وليس المحاربين كما تقول الأسطورة!
** في بلاد عسير، وفي ابها على وجه الخصوص، شاهدت هذه المرة سياحتنا الوطنية التي ننادي بها ونتمناها في بلادنا، شاهدتها وجها لوجه، رأيتها في اجمل بحيرة تتوسط ابها وتضفي عليها من الجمال ما يبهج النفوس، رأيتها في المفتاحة، ومسرحها وليلها الساهر الساحر، وجائزتها الابداعية, رأيتها في بنى تحتية عملاقة من الفنادق والمتنزهات والطرق والمرافق التي انتظمت عسير، مكونة تكاملا فريدا من نوعه، رأيتها أيضا في برامج ومناشط مدروسة تستهدف الشاب والطفل والمرأة والكبير والصغير والمواطن والمقيم والزائر على حد سواء، رأيتها تلبس ثوبا باهيا بلون الفرح والمتعة والادب والثقافة والمسرح والفن والابداع الذي يتجلى في ظلال الغيم، ومع زخات المطر ونسيم القمم الخضر.
** كنت هنا في أبها مع السياحة الحديثة وجها لوجه,, مع الثقافة المبدعة، والتحديث الذي شمل كل شيء في هذه البقعة من بلادنا, ما الذي فعله خالد الفيصل حتى تمكن من إحداث هذا التغيير الكبير في عسير في اقل من ثلاثة عقود؟
** أهو التوسع في مد الطرق وفتح العقبات وربط اجزاء عسير بشبكة طرق حديثة في أعقد بقعة جغرافية؟
** أهو توفير الخدمات الكهربية والتليفونية والبلدية التي شملت حتى القرى القابعة في الاودية السحيقة والاخرى المتسنمة قمم الجبال؟
** أهو نشر التعليم وتوفير فرصه لأبناء المدن والقرى على حد سواء.
** أهو نشر الحدائق والمتنزهات وتشجيع الاستثمار السياحي والاقتصادي، وتوفير البنية التحية الضرورية لهذا النشاط الاجتماعي وهذه الصناعة التي تعرفها بلادنا حديثا؟
** لا يمكن ان يكون هذا وحده كافيا، هناك ما هو اهم من الطرق والحدائق والمدارس والكهرباء والهاتف,, هناك سمات شخصية تحملها عسير وهي تقدم نفسها لتحتل مكانة مرموقة على خارطة سياحة الوطن، وثقافة الوطن، ان السائح او الزائر لعسير اليوم لا يتعامل مع صامت من شجر وحجر، إنما يجد الروح التي تفتقدها كثير من المدن,, روح الضيافة والكرم والتسامح والألفة,, بل الوعي التام بأهمية النشاط السياحي ودوره في البناء والتنمية، وهذا هو نتاج مدرسة دايم السيف في عسير، فهو الذي جعل من نفسه القدوة الحسنة في الادارة والضيافة والتسامع والطموح, والحاكم الذي يسكن قصراً متواضعا وسط أبها، لا تكتنفه مظاهر الحجاب والحراس، ويشرف على بحيرة جميلة ومرافق سياحية كبيرة هي ملك عام يرتادها عامة الناس متى شاؤا، وتحف بهذا القصر شوارع مطروقة ومساكن مأهولة، والحاكم يسير وحده بلا حراسة، ويجالس الناس ويحادثهم ويسمع منهم، مثل هذا الحكام يذلل كل عسير في بلد مثل عسير لا محالة.
** إن عسير هي الأخرى تكتشف نفسها على يد أميرها,, تتعرف على ما تملك من امكانات تؤهلها لان تصبح ذات يوم عاصمة للسياحة في الجزيرة العربية والخليج، فكما ان الطبيعة الجميلة وحدها لا تصنع السياحة، فإن السياحة بدون انسان يؤمن بها لا يمكن ان تتقدم, وعسير التي كانت ذات يوم هبة الطبيعة الخلابة؛ هي اليوم وبلا منازع، هبة أميرها الذي منحها عقله ووجدانه وابداعه وحياته.
** إن ما يحسب لخالد الفيصل اليوم؛ وهو يخطو بعسير سياحيا وثقافيا إلى الامام بقوة واقتدار، هو شجاعته في مجابهة (الرياح العكسية)، التي تذرو الاغبرة، وترمي الاشواك في طريق القافلة التي تحث الخطى بالمخلصين والمبدعين والمجددين الى غد مشرق، ومستقبل افضل، ومكان لائق وسط هذا العالم,, هذا إنجاز كبير وكسب لتحد اكبر:
على قدر اهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم |
** فإلى الأمام أيتها القافلة العسيرية المظفرة,, إلى الأمام بقيادة الابن والاخ والأب والصديق والشاعر والفنان والمبدع,, هؤلاء الكل في واحد، والواحد في الكل، هؤءلاء هم؛ وهذا هو؛ خالد الفيصل.
حماد بن حامد السالمي