عزيزتي الجزيرة
السلام عليكم ورحمة الله.
إن العقل الذي هيأ لنا السيادة على العالم دون سائر الكائنات ليس شيئا بسيطا، وما نحاول ان ننميه في المدارس والجامعات يعد جانباً واحداً بسيطاً من جوانبه, وما العبقرية إلا إفساح المجال لذلك العقل الموهوب لكي يحقق إمكاناته ويظهر كفاءته ويحقق الإنجاز العظيم المبدع لأمته ووطنه.
يتصور عامة الناس ان العبقري إنسان شاذ مهزوز يخالف قواعد الذوق العام، والواقع يثبت عكس ذلك.
وإذا ما استعرضنا حياة العباقرة والمبدعين في مختلف الميادين وجدنا ان بعضهم يصل الى إبداعه قبل ان يصل الخامسة والثلاثين وبعضهم بعد ذلك، وبعضهم بعد ان يتجاوز الخمسين والستين، فنجد ان سنوات الإبداع غالباً ما تقع بين سن العشرين والثمانين دون ان يكون له سن معينة محددة, ونجد ان جميع العباقرة هُيئت لهم ظروف حياتية مكنتهم من تفتق الموهبة, فللموهبة دورها وكذلك للظروف التي ساعدت على بزوغ العبقرية دورها أيضا, إسحاق نيوتن Newton ترك المدرسة في سن الخامسة عشرة ليهتم بمزرعة أمه وليصبح مزارعاً، ويتساءل البعض كيف تمكنت هذه العبقرية الخارقة لديه ان تزدهر؟ الحقيقة كانت زيارة سعيدة قام بها عم له من خريجي جامعة كامبردج فتحت أمامه فرصة الذهاب إلى الجامعة وتلقي الدراسة التي مهدت له سبيل اكتشاف الجاذبية الأرضية التي اشتهر بها, البعض تصور ان اكتشافه للجاذبية كان مصادفة لمجرد رؤيته تفاحة تسقط على الارض إلا ان نيوتن صرح بان هذا كلام غير صحيح، والصحيح انه كان يفكر فيها دائما وان نتائج بحوثه ترجع الى العمل والكد الدائب الصبور.
يقول اديسون: العبقرية واحد في المائة إلهام وتسع وتسعون بالمائة عرق ، ويقول هاملتون: العبقرية هي ثمرة الجهد الشاق والتفكير الطويل العميق .
عبقري يدعى فاراداي Farday ترك المدرسة في الثالثة عشرة من عمره، واصبح بعد عام اجيراً عند مجلد للكتب، وفي اثناء عمله في دائرة معارف قرأ - بطريق الصدفة - مقالاً عن الكهرباء الأمر الذي ألهب خياله فاستعان بصديق من اصدقائه ليصبح احد مشاهير علماء الكهرباء فبظروف دراسة نيوتن وبحوثه الجامعية وجهده، وكذلك لقراءة فاراداي ورغبته في تقصي المسألة تم ظهور العبقرية لديهما.
وافاد العديد من الباحثين انه ثمة خصائص وسمات معينة اشتهر بها اصحاب التفكير المبدع والعباقرة والتي تصلح ان تكون اهدافا مقترحة نسعى لبلوغها:
1 - العزم والتصميم (المثابرة):
اي المضي في العمل رغم مايعترضه من صعوبات وعقبات، يزاول العبقري عمله حتى يتمه، وربما يقضي اياما طوالا في جهده وفكره دون كلل أوملل، وهو لايستسلم بسهولة لما يجابهه في عمله من عقبات،وما يعترض طريقه من مشكلات.
2 - الهدوء والتروي (الضبط الانفعالي):
فتراه هادئاً بعيداً عن التوترات والهياج والانفعال العنيف، يتخذ لنفسه استراتيجية معينة يسير بموجبها، كما يأخذ في حسبانه النتائج المحتملة والمتوقعة قبل بدء التنفيذ.
3 - الإصغاء للآخرين:
حيث يتمكن من مشاركة شعورهم وفهمه لوجهة نظرهم وتقديرهم وتحسس المشاعر وتبادل الافكار والآراء والعواطف.
4 - التعاون في التفكير (الذكاء الاجتماعي):
هو مايميز الكائن البشري عن غيره من المخلوقات، والحاجات البشرية اصبحت تعتمد على بعضها البعض، فدولة صغيرة في اقصى الشرق لاتستغني عن دولة صغيرة في اقصى الغرب ولو بشكل غير مباشر، هكذا ميز الله الإنسانية عن سائر المخلوقات,فالإنسان العبقري يعي قيمة التفكير في مجموعه وتوخي المصلحة العامة والاهداف العليا.
5 - المرونة في التفكير:
وتعني تقليب الآراء على اكثر من وجه واحد للوصول للرأي الصائب والقدرة على شرح الافكار للآخرين، أو حل مسألة او مشكلة بأكثر من اسلوب واحد، يقول ألبرت أينشتاين: إن طرح اسئلة وعرض مشاكل جديدة، والنظر الى القديم منها من زاوية مختلفة عما سبق، ومن وجهة نظر جديدة كل ذلك خيال مبدع، ويؤدي الى تقدم حقيقي في حياة الناس ،
6 - التركيز اثناء التفكير:
يقول افلاطون: حين يفكر العقل فإنما هو يتحدث الى نفسه فهو يستطيع ان يصف خطواته او افكاره حتى وصوله للنتيجة، فيعبر بالالفاظ عما يراوده من افكار او تصورات ويعمد لتقويم ما عنده من استراتيجيات لتفكيره ومهاراته فيه.
7 - تحري الدقة والصواب:
اي اعادة النظر في الاعمال والتدقيق فيها، فإذا ما انجز اي عمل اعاد النظر في المقاييس التي يستخدمها معيارا لعمله، وليتأكد من ان ماقام به يتمشى مع هذه المقاييس، وإذا ما كتب مقالا او قصة او شعراً مثلا قام بتنقيح الرؤى والافكار في كتاباته.
8 - روح الفكاهة والدعابة:
الضحك يزيح عوامل الكبت والإرهاق، ويحبب الناس الى الشخص المرح، وله وظائف الفسيولوجية عند الإنسان حيث يعمل على تخفيض معدل الضغط، ويزيد من نسبة الاكسجين في الدم، ويساعد على رفع مستوى التفكير وإطلاق ملكة الإبداع، والمرحون هم اكثر سعادة وتفاؤلاً في نظرتهم للحياة والمستقبل.
9 - طرح السؤال وعرض المشكلة:
ان اهم مايميز الانسان عن غيره من سائر المخلوقات هو قدرته على تحديد المشكلة وطرح الاسئلة والفرضيات, حكي: أن احد الاشخاص سأل العالم الفيزيائي نوبل Noble Loureate، لماذا اصبحت فيزيائيا ولم تصبح خياطا مثل ابيك؟ فاجابه: لقد صنعت مني امي عالما دون ان تقصد لذلك، أو تفطن إليه, وقد تسأل الأم طفلها حين عودته من المدرسة، ماذا تعلمت اليوم في المدرسة؟ او ما احسن سؤال في رأيك سألته اليوم في درس اللغة لمعلمك وزملائك في الصف؟
لقد باتت القدرة على طرح الاسئلة تفوق أهمية الإجابة عنها في التربية الحديثة ليتفتق ذهن الطالب عن فرضيات وبدائل مختلفة، تزداد الرغبة في البحث للوصول للنتيجة، فالطالب النابغة غالبا مايضع على كل شيء سؤالاً: لماذا تموء القطط؟ لماذا تنبح الكلاب؟ ما الحد الذي يمكن ان تبلغه الطائرة في الجو؟؟,.
10 - الخبرة السابقة وتطبيقها في مواقف جديدة:
ان الهدف النهائي من المدرسة واساس ما أنشئت له هو تطبيق مايتعلمه الطلاب داخل المدرسة في الحياة لتؤتي الدراسة أكلها وثمارها يانعة, إلا انه غالبا مايغلب على تفكيرنا الاسلوب النظري، والحفظ، وفي اعلى مستوى من المعرفة والفهم دون التطبيق.
وختاماً مما يجدر ذكره ان الموهوب ليس شرطاً ان يصبح عبقريا ذلك ان الذكاء الرفيع شرط ضروري ولكنه غير كاف للوصول إلى مرتبة العبقرية, بل اثبتت دراسات حديثة ان الذكاء المتوسط قد يكون من حظ العبقري متى ما توافرت لديه الشروط أو الصفات التي سبق ان ذكرناها, وقبل تلك الخصائص او الصفات لابد للعبقري من دافع قوي وانفعال عميق وعزيمة أكيدة من قدرة خلاقة مبتكرة مبدعة,, فالذكاء بلا إرادة موهبة عقيمة.
فؤاد أحمد البراهيم
كلية التربية- جامعة الملك فيصل