قبل وفاة جاك اوديبرتي بسنة حصل على الجائزة الاهلية في الآداب، وقبل حصوله على الجائزة بسنتين قدم له الكوميدي فرانسيز مسرحيته النملة في الجسد وكان ذلك عام 1962م, وقد ثارت ثائرة النقاد المحافظين على اوديبرتي,, ووصف الامر على صفحات الجرائد بأنه منتهى الفوضى او غول من الفوضى , ورغم هذا الهجوم النقدي فان ذلك العام يعد عام اوديبرتي حقاً، فضلاً عن تقديم النملة في الجسد على الكوميدي فرانسيز، قُدمت ايضاً تفاحة، تفاحة، تفاحة على مسرح لابروير و البريجيتا على مسرح اللاتينيه .
ويبدو أن المفارقات والفانتازيا والفوضى ليست طابعاً لمسرحياته فحسب بل لحياته ايضاً، فقد كان محرراً ادبياً ولم يتصور انه سيصبح احد اشهر كتّاب المسرح في فرنسا لولا مصادفة عجيبة، حيث كان قد قارب على الخمسين حين كتب نصاً ادبياً بعنوان كوات- كوات يجرى فيه حوار بين شخصيات، وكل ماهنالك ان احدى قريباته من المشتغلات بالمسرح فاجأته ذات يوم بقولها: سأخرج مسرحيتك,, انها عمل فيه صلاحيات للتمثيل, وهكذا دخل اوديبرتي عالم المسرح عبر نص لم يكتب اصلاً للمسرح، ليبدأ عهداً من الفوضى المسرحية على يديه.
لقد عاش اوديبرتي في اسرة فقيرة من عامة الشعب، انفقت على دراسته بصعوبة حتى نال البكالوريا، وعمل محضراً في احدى المحاكم، في مدينته الصغيرة انتيب التي تنتج البرتقال والزيتون وازهار البرتقال، وهكذا قضى شبابه الاول عند سفوح الالب- في عمل مهين مؤثراً العزلة والانصراف الى القراءة، حتى بلغ الثلاثين عاماً فقرر ان يروي تعطشه ويذهب الى عالم ارحب,, الى باريس عاصمة النور، فشد الرحال اليها وبدلاً من ان يكمل تعليمه الجامعي آثر ان يشتغل بالصحافة، فمضى يكتب عن الحوادث اليومية، وعرف ما يخبئه الخبر المثير وراء قناعه البرّاق من بؤس وضعة وبشاعة, وقد وصف هذا العالم البغيض الخانق في روايتيه ماري ديبوا و المناداة بقتل الاطفال .
وكثيراً ما كان يتجول في الاحياء الفقيرة، يتسكع بين دور المحاكم والبوليس متتبعاً مادة لصحيفته، وكان يجب ان يضيع في الشوارع ويندس بين جموع الناس، يسير تحت المطر ساعات وساعات، وبدلاً من ان يتخذ لنفسه مسكناً ألف الإقامة في الفنادق, ومن هنا يعتبر اوديبرتي واحداً ممن علموا انفسهم بأنفسهم، ومن تجواله في الشوارع وضع يده على المادة الانسانية الخام لجميع اعماله الابداعية والصحفية، حيث عالجها في اشعاره ورواياته ومقالاته ثم في مسرحياته فيما بعد.
وبجانب هذا الرافد الحيوي لابداعه، هناك ايضاً القصص التاريخية والحكايات الشعبية، التي كان يتأمل احداثها ويشيدها من جديد على نحو اثر اقناعاً لمزاجه الشعري والفلسفي، فنرى شخوصه المسرحية تقفز فجأة الى السحب والنجوم, انها مثل تلك الحيوانات التي نقرأ عنها في الخرافات والتي تبدو على غير ماهي عليه، كالذئب الذي يبكي مثلاً,, لقد كان يختار لمسرحياته خلفية من عصور تاريخية زاهية دون ان تكون مسرحياته اعمالاًتاريخية، كي يجعلنا نلمس ذلك الكدح الشاق والعجز المأساوي والتناقضات التي يعانيها الانسان, وكان مولعاً بابراز اشكال مختلفة من التضاد: الخير والشر، الظلمة والنور، الملوك والرعاع، الفرسان والسفلة، النساك ونهّازي الفرص,.
هذا الاحساس الحاد بالتضاد اكتسبه من عالم الحكايات الشعبية الزاخر بتلك النماذج، كما كرسته بداخله الطبيعة المتناقضة لأبويه، حيث كانت امه نهراً من الحنان والهدوء وكان ابوه جبلاً جهماً عنيفاًوقاسياً، مما اذكى في اعماق الصبي الخجول الحساس فكرة التلاحم والتضاد، وان خارطة الكون دائماً مشطورة الى نصفين.
مثلاً في مسرحيته جان دارك يعمد اوديبرتي الى تثنية شخصية جان دارك الى اثنتين: جانيت القرية الودود الرقيقة المرتبطة بالبيت،وهناك جانين التي تجري يمينا ويساراً مثل صبي جموح وتثير الغضب في صدر ابيها.
ولم يكن لدى اوديبرتي اي اهتمام حقيقي بالاحداث التاريخية الاصلية، لان عالمه المسرحي قائم على قدر كبير من التلقائية واللاشعورية في التقاط افكاره الاساسية والسير بها حتى نقطة النهاية، فافكار مسرحياته قد تولد من لقاء عابر او سطر في كتاب او مكان غير مقصود, واكتسب من الملامسة المباشرة للواقع الخشن احساساً حاداً بالمتناقضات والمفارقات اللا معقولة التي تحفل بها العلاقات بين البشر، مما فجر بداخله انطباعاً وحشياً يجمع بين الفوضوية والتشبث بمنطق اكثر قوة، يجاهد للوقوف في وجه اعصار الشر المكتسح.
وقد ازكى تأثره بالسرياليين واقوالهم عن دور العقل الباطن في عملية الابداع عالم الفانتازيا والفوضى في مسرحياته، نلمس ذلك من خلال تتابع صوره المسرحية تتابعاً قد يغيب على يقظة القارىء او المتفرج، لان عالمه دائماً يتصارع في الواقع ليؤكد اللاواقع , فهو لا يلتزم بأية قواعد ولا يعترف الا بالتلاعب الدائب للمخيلة الخلاقة، ومن هنا تختلط في مسرحياته الفانتازيا المتحررة بالدراما الكابوسية, ويبقى المفتاح الوحيد لفك شفرة النص المسرحي لدى اوديبرتي متمثلاً في ماهية الشر وكيفية الفرار من لعنة الوضع الانساني, ويرى اوديبرتي ان الشر ليس من صنع الشيطان ولكنه نتيجة الانخداع الدائم في الوضع الانساني، كما يرى ان الروح لا تبلغ سكينتها الا بعد استنفاد الشر واجتثاثه من الجذور.
وفي خضم الصراع الشرس بين الخير والشر، بين الجسد والروح، بين الطهر والدنس، بين البداوة والطقوس الاجتماعية، يصبح الجنس موضوعاً غنياً بالدلالات والرموز في مسرحه، فهو في الوقت ذاته :الضرورة والاشمئزاز,, المطلب المشروع والخدعة,, الشرك المنصوب وقطعة السكر التي تجذب صفوف النمل نحوها,.
لقد كان بارعاً في التقاط اصغر الاحداث اليومية وتحويلها الى مشهد مسرحي,, الى تساؤل مأسوي عن معنى كل تلك الانشغالات اليومية التي تفقدنا الحياة بينما نقبل عليها معتقدين انها تكسبنا الحياة, ورغم شراسة هذا الصراع الابدي الذي يصفه بمنتهى الفوضى,, بمنتهى القوة الجارحة,, الا ان اوديبرتي ظل حتى وفاته يقف دائماً في حالة تعاطف مع المهانين والمهزومين,, مع الودعاء ذوي الاعماق الصافية مثل البحيرة,, والسحابة,, واغنية المطر.
شريف صالح