** يرتبط الإبداع بالنضوج النفسي والروحي والعقلي لكل شيء في حياة المبدع، وليس بأي شيء آخر، وتقدم السن يزيد المبدع نضوجا وخبرة وحنكة ومهارة, فالأديب الكبير نجيب محفوظ ما يزال يبدع رغم تخطيه الثمانين من العمر وكذلك الفنان صلاح طاهر والأديب والناشر سعيد جودة السحار وبالطبع يوجد غيرهم الكثيرون.
الجزيرة تلقي الضوء على كيفية الابداع فوق الثمانين من خلال رؤية نجيب محفوظ وصلاح طاهر وسعيد جودة السحار ونصائحهم للشباب، وكذلك إلقاء الضوء على العلاقة بين تقدم العمر والإبداع وهل هناك قاعدة عامة تربط بينهما.
مواجهة الصعوبات
يقول الكاتب الكبير نجيب محفوظ:
الحياة بعد الثمانين تسير في حدود المتاح، فالبرغم من أنني الآن لا أستطيع القراءة وأعاني من ضعف السمع,, إلا انني اهتم جدا بما يجري في حياتنا وفي العالم, واطالعه اولا بأول,, عن طريق الصحافة من خلال بعض الاصدقاء الذين يتفضلون بالقراءة لي, اما عن الكتابة,, فمازلت امارسها لكن في أضيق الحدود.
وإذا اردت التحدث للأجيال الجديدة من الادباء من منبر الثمانين فأقول انه على الأديب ان يحاول ايجاد طريقه، بان يؤهل نفسه جيدا لمهنته وهي الأدب ثم بعد ذلك يبدأ في شق طريقه في ظل الظروف المحيطة به مهما كانت صعبة ويحاول ان يرسل انتاجه لجهات النشر المختلفة وان يحرص على الدخول في المسابقات الأدبية المختلفة, ولا يكتفي بالاحباط واليأس بحجة ان الصعوبات تملأ الطريق، فقد يكون الأمر كذلك ولكن عليه المحاولة المستمرة.
ومن رأيي أن أكبر هذه الصعوبات هي إنحسار القاعدة القارئة، فبعد ان يبذل الشاب مجهودا كبيرا لنشر احد أعماله,, ربما لا يجد الصدى الذي يتمناه.
وقد يبدو الأمر غريبا مع ازدياد النسبة السكانية، فمن المفترض انه مع زيادة السكان تزداد القاعدة القارئة، لكن هذا لا يحدث لأسباب كثيرة رغم كل هذا أعود وأقول ان من لديه الموهبة الحقيقية ولديه من العزم والمثابرة ما يدعم هذه الموهبة سيصل في يوم قريب لما يتمناه.
ويضك استاذنا الكبير وهو يتحدث عن امنيته الآن، أمنية ما بعد الثمانين ويقول: الامنية دائما متعلقة بما نود ان يحدث في المستقبل واذا كان المستقبل بالنسبة لي قليلا فكل ما اتمناه هو حسن الختام وان اعيش المتبقي لي في صحة معقولة.
حيوية ونشاط
أما الأديب والناشر الكبير سعيد جودة السحار فيقول: لا أكاد أجد اختلافا جوهريا بين حياتي الآن وانا في الخامسة والثمانين وبين حياتي سنة 1932 وانا في ريعان الشباب، فما زلت حتى الآن وأنا في الخامسة والثمانين اقوم بنشاطي الأدبي على نطاق اوسع وأصدر بين وقت وآخر بعض الكتب المؤلفة او المترجمة.
وبرنامج حياتي الآن هو ان استيقط من النوم قبيل الفجر وأصليه ثم امارس رياضة الدراجة الثابتة اخرج الى دار النشر وأقوم بمراجعة جميع الملازم التي تم جمعها في اليوم السابق اراجعها بدقة، وأعود الى منزلي مرة أخرى.
اما عن موقفي من الحياة والناس فلم يتغير فأنا بطبعي احب كل الناس وأقدر الصغير قبل الكبير، والفقير قبل الغني، وانا أولا واخيرا لست تاجرا بالمعنى المعروف وإنماأنا راعٍ للكلمة الطيبة وحريص على نشر الأدب الجيد والفكر الملتزم.
ومازلت سائرا على الدرب الذي قطعته طيلة ستين عاما، ارعى البراعم الجيدة مثلما رعيت البراعم القديمة,, وبالنسبة لنصائحي للشباب بوجه عام, والشباب الأدباء بوجه خاص فهي ان يولوا اللغة العربية لغتهم القومية اكبر اهتمامهم, فقد كانت لنا ونحن في مثل سنهم الى جانب ممارسة الرياضة هواية لا تقل عنها أهمية هي هواية القراءة، فقلما كان يمضي يوم دون ان ننهمك في قراءة كتاب ما، فنجمع بذلك بين العلم والعمل.
وأخيرا عن تقدم العمر والامنيات الحالية في الخامسة والثمانين فأنا لا اشعر بتقدم العمر طالما اقوم بتأدية العمل الذي أتولاه على أكمل وجه بحمد الله.
واعتقد ان افكاري لا تزال شابة بل انها اكثر شبابا وحيوية منهما فيما مضى فأنا حين أجلس الآن لأكتب أرى القلم ينساب على الورق في سهولة ويسر، بينما كنت اجد فيما مضى بعض الصعوبة في الكتابة فكلما تقدم الإنسان في العمر زادت حصيلته من المعرفة، وزادت أفكاره إشراقا, اما أمنياتي الشخصية هي ان اتمتع بصحتي ونشاطي طيلة ايامي الباقية وان يمن الله علي وعلى أبنائي وأحفادي بالصحة والسعادة وراحة البال, وأكبر أمنياتي ان يقبل الشباب على الاطلاع مثل إقبالنا عليه في سنهم حتى ينشأ بينهم كتاب يرفعون اسم الأمة العربية بين الأمم.
الحياة أكثر نضجاً
أما الفنان التشكيلي الكبير صلاح طاهر فيقول:
أجد الحياة بعد الثمانين أكثر نضجا مما سبقها وتحفل بالخبرة والوعي الإنساني وبالتجارب والفلسفة الناضجة, وحتى النظرة للحياة نفسها تصبح ذات مغزى أكثر عمقا, واعتقد ان هذا شىء بديهي فكلما كان هناك مزيد من الخبرة والوعي والممارسة للحياة الثقافية بقدر اكبر كلما اصبح الإنسان اكثر نضجا وأعمق في عطائه وعن برنامج حياتي الآن, فانتاجي الفني مستمر,, والقراءة مستمرة وأقصد القراءة بمعناها الواسع اي في كل المجالات وعلى مختلف المستويات.
ففي مكتبتي أكثر من اربعين ألف كتاب, أقرأ فيها وأضيف اليها وبين الانتاج الفني والقراءة,, وعدة أشياء أخرى يتوزع وقتي وأريد هنا ان أقول شيئا هاما جدا,, فأنا لا أترك دقيقة تمر من وقتي في أشياء سطحية لان الوقت هو العمر, والعمر هو اثمن ما نملك.
وبالنسبة لأسلوب حياتي وأفكاري فلم يتغيرا ولم يكن للسنوات اي تأثير عليها, فما زلت متابعا لكل ما يحدث وخاصة في عملية الإبداع الفني, ذلك بخلاف قضايا اخرى كثيرة منها بالطبع قضايا الشباب، وبالمناسبة كل ما أطلبه منهم هو ان يقدروا قيمة الإبداع ويستثمروا مواهبهم ويعيدوا النظر للقضايا التي ينظرون إليها على انها مسلمات، إذ ان اعادة النظر لاشياء كثيرة يؤدي الى امكانية اكتشاف او ابتكار جديد.
وعن تواصله مع الأجيال الجديدة يضيف: رغم هذه السنوات الفارقة بين وبين احفادي إلا انني اشعر ان هناك تواصلا بين تفكيري وتفكيرهم فكثيرا ما تحدث حوارات بيني وبينهم في اشياء متعددة ومهمة تفيدهم في حياتهم ورغم وجود اختلافات كبيرة بين جيلنا وجيلهم.
فجيلنا كان يحظى بالعديد من المميزات وكان أسعد حالا من الوقت الحاضر، ربما سبب ذلك هو الزيادات المستمرة في عدد البشر وفي ضغوط الحياة, وما أريد تأكيده أخيرا لهذه الأجيال الجديدة هو ان العملية الفنية ليست مجرد مشاعر فقط فيجب ان يدعم هذه المشاعر وجدان مصقول واع ملم بما حوله، ويجب ان يقيم الشباب مقارنات بينهم وبين شباب العالم.
لا توجد قاعدة
ويعلق الناقد ادوار الخراط على كيفية استمرار الإبداع مع تقدم العمر قائلا: لا توجد علاقة بين تقدم العمر والإبداع، فالإبداع يرتبط بالنضوج النفسي والروحي والعقلي لكل شيء في حياة الكاتب وخبرة المبدع تزيد مع تقدم العمر وليس العكس وهناك العديد من الأدباء والمبدعين استمروا في الكتابة حتى سن متقدمة جدا فيوجد سلفادور دالي الذي استمر مبدعا وقد تجاوز التسعين عاما كما يوجد أوجين أونسكو الكاتب المسرحي العالمي الذي بدا الكتابة وهو في سن الخمسين وحتى نجيب محفوظ أبدع أفضل أعماله بعد سن الخمسين ويوسف ادريس وصل لأقصى نقطة في نضوجه الإبداعي بعد سن الستين وعلى العكس من ذلك هناك مبدعون وشعراء قدموا ابداعاتهم وهم في سن صغيرة وعلى رأسهم النموذج الواضح الشاعر الفرنسي رامبو الذي توقف عن الإبداع في العشرين من عمره.
فلا توجد قاعدة عامة يمكن ان نقيس عليها العلاقة بين تقدم العمر والابداع ولكن ما يجب تأكيده هنا ان خبرة المبدع تزيد مع تقدم السن بالاضافة الى فكره وثقافته فهو كأي رائد فكري يزيده السن خبرة وحنكة ومهارة.
ويقول الناقد مدحت الجيار انه من البديهي ان تقدم العمر وتراكم الخبرات الحياتية من شأنه مبدئيا أن يثري الإبداع ويساعد على تنوع المجالات التي يمكن ان يتطرق اليها الأديب في إبداعه ولكن دائما ليست هناك قاعدة فهناك من يطور نفسه بعد مرحلة معينة من العمر ويستفيد من تراكم خبراته والتجارب الحياتية من حوله ومنهم من يتوقف عندالمرحلة التي بدأ عندها ويوجد
العديد من المبدعين شاخوا وهم في سن الشباب وتوقف ابداعهم.
اما ما يسمى بالمراهقة الإبداعية التي قد تحدث مع تقدم العمر فلا يوجد شيء اسمه المراهقة الإبداعية ولكن هناك جنون إبداعي فالمبدع في جوهره مفكر فيلسوف لا تصيبه المراهقة ولكن التجدد والتطور الدائمين لإثراء الحياة بالابداعات القيمة والكبيرة.
القاهرة/ ترنيمة ياسين- إنصاف زكي