*تأليف : مجاهد عبدالمنعم مجاهد
*عرض وتقديم : د, مصطفى رجب
للاستاذ الشاعر الناقد مجاهد عبدالمنعم مجاهد تاريخ حافل في محاولة تأصيل علم جمال عربي كما يتضح من مؤلفاته ان له إلماما طيبا بالانجازات الغربية في هذا الميدان.
ومن الكتب الحديثة القيمة لهذا الناقد الجاد كتاب جدل النقد وعلم الجمال الذي يحاول فيه مؤلفه ان يربط النقد الادبي بعلم الجمال وتأسيس النقد على اساس فلسفي لان النقد - كما يقول - هو اقامة المعيار واقامة المعيار يعني تحقيق الجوهري، والجوهري لاصلة له بنقد اجتماعي او سيكولوجي او لغوي.
وهو يضع في هذا الكتاب الذي يتكون من 120 صفحة من القطع المتوسطة بعض المحاولات النظرية والتطبيقية في هذا الاتجاه، فيقول لماذا يتناقض دائما نقادنا العرب المعاصرون ولا يثبتون عند موقف محدد؟ قد يتخذ الواحد منهم موقفا ايديولوجيا بعينه قد يكون ربط الادب بالسياسة او ربط الادب بالاجتماع او ربط الادب بالتاريخ او ربط الادب بعلم النفس ويرفعون هذا الموقف شعارا لهم لكنهم فجأة - سواء علانية او في نقدهم التطبيقي - ينتهون الى اعتماد الذوق اساسا لنقدهم، قد يقول البعض ألا يتطور هؤلاء النقاد ويتغيرون فتتغير مواقفهم على امتداد ممارستهم للنقد؟
لكن الملاحظ ان الناقد لا يتغير على فترات زمنية مختلفة بل يتناقض في كل فترة، واذا كان يتغير في الموقف فلماذا نجده دائما وابدا يعتمد على التذوق ممارسة وتقويما للاعمال الادبية؟ ومن هنا نجد النقاد المعاصرين ينتهون جميعا الى تخليهم عن رسالة النقد وينتهون الى تخليهم عن مواقفهم وزواياهم وآرائهم الخاصة ويظل المتبقي عندهم هو النقد الانطباعي او التأثري وينتهون الى اعتبار الذوق والذوق الشخصي هو المحك الوحيد للنقد.
ويواصل المؤلف في مقاله المعنون جدل النقد وعلم الجمال سرد آرائه وتستمر محاولته الجادة في التقريب بين النقد وجدله وبين علم الجمال، وبعنوان بيريسترويكا ثقافية يتكلم المؤلف عن جدل الأيديولوجيا والأدب فيقول أليست البيريسترويكا هي العقيدة الاخيرة التي تبناها الاتحاد السوفيتي؟ وهي عقيدة تنسف وتستهدف القضاء على امكانية الايمان بالعقيدة وتجعل البراجماتية او النفع والنجاح بالمفهوم الامريكي هدفا لها ؟
ولهذا خشية ان يتسلل الضعف الى المؤمنين بالفكر القومي والانساني في المجال الثقافي فيتركوا الممارسة هي التي تقود ابداعهم لا الفكر والتنظير نعاود - والكلام للمؤلف - طرح العلاقة الجدلية بين الايديولوجيا والادب، فالمترتب على البيريسترويكا ليس تقويض الايديولوجيا السوفيتية بل تقويض كل التفكير الايديولوجي اساسا.
ان الأيديولوجيا تعني مجموع الاتجاهات الفكرية والحياتية من جميع نواحي الحياة التي توجه الانسان، وعلى هذا الاساس حاول فرع (المتمركسين) جعل الفن والادب ايديولوجيين بمعنى تفسير الادب كأنه فن طبقي ومن ثم طالبوا بادب حزبي وعلى رأسهم لينين وزدانوف.
ان الادب دائما ملتزم والتزامه بالانسان وهو مبدأ سار طوال تاريخ الادب وعلى هذا لا صحة لما ذهب اليه الباحث نيدوشيفين في دراسته (علاقة الفن بالوقع).
وبعنوان النقد النسائي، جدل الادب والجنس يتحدث المؤلف عن النقد النسائي والنقد الانثوي هو اتجاه معاصر بدأ في الولايات المتحدة الامريكية في سنة 1970 وله جناحان في انجلترا وفرنسا، وهو في صميمه محاولة تنقيحية، ثم اصبح فحصا للادب الذي تكتبه المرأة وهذا يعني دراسة النساء ككاتبات، وموضوعاته هي تاريخ واساليب وأجناس وابنية الكتابة من تأليف المرأة ودراسة تطور وقواعد التراث الادبي، النسائي ويستهدف هذا النقد عند بعض الناقدات ان يجعل الصامتات ينطقن، كما يتناول تأثير الجنس على الادب وهل يمكن ايجاد قراءة انثوية.
والمرأة كمبدعة توجد بينها وبين الرجل اربعة فروق - كما ترى الناقدة الامريكية الين شو وولتر - وهي فروق ايديولوجية ولغوية وسيكولوجية وثقافية، وكل فرق ارقى من سابقه ولهذا فان الثقافة هي طريق اكثر كمالا للحديث عن خصوصية كتابة المرأة، وهذا يقوم اساسا للنقد الانثوي المحوري، وتقول ان القارة المفقودة للتراث الانثوي قد ظهرت اشبه بقارة اطلنطيا المفقودة من بحر الادب الانجليزي.
ان النقد الانثوي هو نقد ضد الانثى نفسها، لانه ينسى بعدها الانساني، وحتى لو جرى تذكر البعد الانساني لا يعني ان تنال حقوقها (ضد) الرجل، بل تنال هذه الحقوق (مع) الرجل، كما بالتشارك والتمازح والانخراط في رسالة واحدة: انقاذ الانسان وحراسة الانسان رجلا وامرأة, ويبدو ان النقد النسائي او الانثوي هو احتجاج اكثر منه دعوة بناءة.
وبعنوان نحو نقد فلسفي يقول المؤلف هل يمكن ان نكتفي بالقول: إن الناقد هو ضمير الاديب فمما لاشك فيه ان الاساس عند الاديب في انتاجه اساس اخلاقي هو يريد ان يبث عن طريق انتاجه الادبي - باعتبار ان الادب رؤية عاطفية للواقع - مفهوما عاطفيا على صعيد القلب لاعلى صعيد عن هذا الكون، يريد ان يقول ان هذا السلوك سيىء او هذا التصرف خيّر، ومن هنا تكون رؤية الفنان رؤية اخلاقية وليست رؤية فلسفية وذلك لان جمهور قرائه يعيشون بمستوى العاطفة لا بمستوى المنطق.
واذا كان الفيلسوف مهماً للاديب لانه يزوده بحلول يجهد الفيلسوف في الوصول اليها حتى يجعل الاديب يتفرغ لانتاجه الادبي، نجد ان عالم الجمال او فيلسوف الجمال مهم هو الآخر بالنسبة للاديب، لانه يزوده بثقافة جديدة ليست لديه المقدرة ولا الوقت ليبحثها هو بنفسه.
والناقد محاصر من ثلاث نواح: فهو ليس امامه العمل الادبي فحسب، بل امامه مجالان عليه ان يلم بهما ممن تخصصوا فيهما: الفلسفة التي استمد الاديب منها مقدماته لكي يعكسها في عمل ادبي، وعلم الجمال الذي يكون الارضية التي سيشتغل هو بعد هذا انطلاقا منها، ثم لديه بعد هذا العمل الادبي نفسه ككائن اصبح بينه وبين مبدعه مسافة ولم يصبح ما اراده الاديب، بل يصبح له استقلاله النسبي وقوانينه التي تحكمه بنفسه، وهذه القوانين الخاصة، بالانتاج الادبي هي مجال الناقد.
وتحت عنوان نحو نقد تساؤلي يقول المؤلف ان المتأمل في انتاجنا يلاحظ انه انتاج مبعثه الاحساس المباشر بالحياة لا التأمل العقلي لها، ومن ثم غلبت الحساسية الفجة على الاعمال الفنية حتى اننا لا نكاد نعثر في اعمال نجيب محفوظ كلها على شخصية روائية تمارس حريتها بل هي دائما من صنع البيئة، لا نكاد نعثر على شاعر ليست لديه رؤية غائمة ليست لديه تعابير غير مفهومة، وذلك لانه ليس لديه شيء فانه يقول اي شيء، يقول هذا الشيء من احاسيسه الفجة ، لا من العقل ومن ثم يختفي الجمال من معظم هذه الاعمال لان الجمال كما يقول هيجل، الجمال هو الفكرة عندما تتجسد في الشكل الحي داخل العمل الفني.
وعن الثقافة وآفاق المستقبل يقول المؤلف ان الثقافة - في عمومها - على مشارف القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد هي عينها الثقافة في - في عمومها - عندما كانت على مشارف القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، فالثقافة اصلا ليست (موضة) تتغير مع الزمان، وليست أدباً او فنا او علما او فلسفة ولكنها اساس تجديد للانسان في كل آن، اخراجه من تناهيه الى محاولة مشاركته في عالم اللامتناهي، اخراجه من الجزئي الى الكلي، محاولة لايجاد الانسان الكلي ، وعلى حد قول الصوفية: الانسان الكامل، وعلى حد قول هيجل وجورج لو كاتش: الانسان الشامل.
وتحت عنوان ادب واحد فحسب يتناول المؤلف ادب التمرد فقد تراكمت في العشرين سنة الماضية ظواهر فكرية مرضية طغت على الجوانب السوية فيها، وبعد كل محاولات النقد السابقة في مجال الشعر من الخروج من فلك تقسيم الشعر الى: مدح وهجاء وغزل وفخر الخ، اصبح الشعر الآن في رأي النقاد ينقسم الى: شعر مقاومة ولا مقاومة - وكأننا في حركتنا النقدية قد سرنا الى الوراء - ففي شرقنا العربي تتصاعد الآن دعوة الى انشاء ادب المقاومة، فبعد الدعوة في الخمسينيات الى انشاء ادب اجتماعي، تأتي الستينيات بهذه الصيحة الجديدة التي تكشف عن قصور في ادراك طبيعة الادب ووظيفته، وبهذا ستكون لدينا ثلاثة انواع للادب.
ان الاديب اذا ما سقط في اسر النظرة الاجتماعية وحدها، واذا ما سقط في شرك النظرة السياسية وحدها، يكون قد قوض فنه، لا يعني هذا ألا تنعكس في عمل الاديب نظرة سياسية وبعد اجتماعي، بل بمعني ان الذي سينعكس فلسفة سياسة لا سياسات جزئية يومية وقتية.
وعن النقد المقطوع بين الثابت والمتحول يتحدث المؤلف عن اللقطة الشاعرية التي انطلق منها ادونيس في رسالته عن الثابت والمتحول بحث في الاتباع والابداع عند العرب، نقطة قوة الرسالة وضعفها في آن واحد فاذا كان الفيلسوف الفرنسي باسكال يحدثنا في كتابه افكار ان في اعماق كل بحث علمي شعاعا يلتقط في لمحة الحدس الخاطئة جوهر الاكتشاف العلمي او الفكري، الا ان العرض العلمي شيء مختلف عن هذه اللقطة الشاعرية فالأمر هنا أمر بناء منهجي متناسق، بمعنى ان تلك اللقطة الشاعرية هي الموجه للبحث على ان يكون البناء المعماري لهذا البحث شيئا اخر غير هذه اللقطة الشاعرية.
وكما يقول فإن النظرة الشاعرية هي المسؤولة من كل اخطاء الرسالة بل هي المسؤولة عن عدم الانطلاق من مفاهيم واضحة عن الثابت والمتحول بل هي المسؤولة عن الإبهام بوجود جديد في الثابت والمتحول بدل التقليد والتجديد ومن هنا جاء التشويش، وهي المسؤولة عن الخلط بين آراء فيورياخ عن اضفاء الانسان اجمل ما فيه على كائن علوي وبين قول الحلاج انه ما في الجبة غير الله، بمعنى ان كل ما في الانسان هو نعمة ومنحة من الله ويأتي الخلط بين نزعة مادية ونزعة صوفية بالاخذ بالتشابة الظاهري لانه يمهد لهذا الإمام الذي سيعلم العالم، غير ان هذا الإمام من اللامعقول والمختار بشكل لا معقول والذي نظنه آخذا بكل جديد سيكون المؤلف الشاعر نفسه اول ضحاياه لانه سيرى في هذه الرسالة جزءا يضاف الى الاتباع بما حوته من مطلقات ونظر غير جدلي ونزع فتيل التاريخ خشية ان يكون لبنة تدعم حركة الثبات.
وعن الفلسفة البنيوية والتي تتسلل الى الفكر العربي يتناول المؤلف البنيوية باعتبارها آخر صيحة في عالم الفلسفة وقد بدأت تطل برأسها في العالم العربي بدراستين جادتين الاولى هي كتاب مشكلة البنية من تأليف استاذ الفلسفة الراحل الدكتور زكريا ابراهيم، والكتاب الثاني الذي يتناوله المؤلف في هذا المقال بالنقد هو كتاب نظرية البنيوية في النقد الادبي للدكتور صلاح فضل استاذ الادب بكلية البنات والذي يمتاز بالموضوعية وامانة العرض وسعة الاطلاع على مؤلفات أعلام هذا المذهب مثل المفكر الروسي جاكويسون والفرنسي بارت اكبر من طبق البنيوية على النقد الادبي وليفي شتراوس اعظم المتخصصين في دراسة علم الانسان او الانثروبولوجي, والبنيوية في اساسها تشمل نظرة جديدة الى اللغة لمعرفة التكوين الداخلي لها بشكل مطلق بصرف النظر عن خصوصية كل لغة بالبحث عن نظام الرموز داخلها وبالبحث عن مجموعة العناصر الشكلية فيها، ثم اتسع نطاق الدراسة البنيوية ليشمل مجالات علم النفس والانثروبولوجي وشتى مظاهر الثقافة.
وفيلسوف البنيوية يحاول في كل هذه المجالات ان يكتشف النظام الصوري في الظواهر باعادة بناء الواقع وصياغته وفقا لنموذج وهي تحاول بهذا اكتشاف الشفرة السرية الكافية وراء النشاط الانساني باكتشاف البنية او المرتبة او الهيكل وتعني دائما وجهة النظر الثابتة ومن ثم فهي تصور من خلق الذهن وليست خاصية للشيء.
اما في المقال قبل الاخير والمعنون ب لويس عوض فارس النقد المنجي فيتحدث المؤلف عن الناقد الكبير لويس عوض الذي يرى المؤلف - ولسنا معه في شيء من هذا الرأي - انه وجه وضيء ومن وجوه الثقافة المصرية, لقد كان احد المخلصين القلائل للثقافة الجادة العميقة حمل من جيل الرواد الاوائل جيل طه حسين والعقاد والمازني، كم الثقافة الهائل وموسوعية المعرفة والانقطاع للدرس والبحث والتحصيل، وحمل من الجيل الجديد كيف الثقافة وربط الثقافة بالقيم الجديدة وبمتجه التاريخ كما حمل من هذا الجيل همومه وتوقاناته، وبهذين الحملين نزل الى الناس مزودا بعميق الثقافة الغربية يعيد تقييم التراث ويبشر بقضايا جديدة ويقيم الاعمال بمنهاج ونظرة جديدة في اطار الفلسفة العلمية، ذلك لانه حمل من خصائص الناقد الكبير صفتين اساسيتين هما: المنهج والميتافيزيقا فجاءت كتاباته العميقة دراسات في الادب الانجليزي الحديث والمسرح المصري ومقدمة ترجمة لمسرحية شيلر برومثيوس طليقا ومقدمة مجموعة من قصائدة العامية بلوتولاند وقصائد اخرى مسهما ومطورا الحركة الادبية والنقدية على السواء.
ويتناول المؤلف بعد ذلك جدل الواقعي والحقيقي في الادب الاغريقي فاذا كان الادب الاغريقي بدأ مسيرته بالملاحم فيبدو ان الدكتور احمد عثمان - كما يقول المؤلف - بكتابه الادب الاغريقي تراثا انسانيا وعالميا ان يكتب ملحمة لكنها ليست هذه المرة في الشعر لكن في التاريخ الادبي، فهو لم يقتصر على فرع بعينه من فروع الادب الاغريقي كالشعر او الدراما مثلا، لكنه أبى إلا ان يقدم بانوراما عريضة شملت الادب الاغريقي بكل فروعه، بل انه توسع في هذه البانوراما وادرج جانبا من الفكر الفلسفي وتوسع حتى انه ادخل ايضا الكتابة التاريخية, ولم ينس الادب السكندري كامتداد للادب الاغريقي، هذه البانوراما تشكل اهمية هذا الكتاب الطموح في خطته ولكنها قد تشكل ايضا شيئا من ضعف في مفهوم التاريخ الادبي.
لقد طغت البانوراما - وهي بانوراما جميلة ومطلوبة على فلسفة التاريخ الادبي - وتسللت هذه البانوراما عبارات تحتاج الى بحث لانها موضع شك من ذلك قول المؤلف ان العقلية الاغريقية عقلية درامية بالدرجة الاولى، فهل للشعوب خواص مطلقة على هذا النحو؟ وأليست الدراما نوعا من التأليف يمكن ان تجيده شعوب اخرى اذا تمثلت خواصه الجدلية؟ وتسللت الى هذه البانوراما عبارات تحتاج الى بحث مثل رصده لأفلاطون بانه رافض للفنون فأفلاطون في الحقيقة رافض لفن المحاكاة للواقع المباشر المعتمدة على الحس.
ان هذا الكتاب - برغم بعض ما فيه من انجاز أيديولوجي - يمثل علامة بارزة في الاصدارات النقدية العربية الحديثة, وتبقى الاشارة الى ان الكتاب صدر عن دار الثقافة للنشر والتوزيع بالقاهرة.
|