لاشك ان التغيرات في أسعار النفط تترك أثرها على الكثير من المتغيرات الاقتصادية في الدول المصدرة للنفط والتي تشكل عوائده المصدر الرئيسي للدخل, وتنعكس هذه الحقيقة على السياسات والاستراتيجيات الاقتصادية التي تنتهجها حكومات هذه الدول وبدأ هذا واضحا اثناء الأزمة الأخيرة التي سرت بها مجموعة الدول المصدرة للنفط والتي أجبرتها على اجراء تعديلات وتغييرات اقتصادية هامة واتباع سياسات معينة للتعامل مع هذه الأزمة, وينظر البعض الى هذه الاجراءات والأساليب على أنها آنية الهدف منها التخلص من تداول انخفاض أسعار النف وسيعود الحال الى سابقه بمجرد انحسار الأزمة, واصحاب هذا التوجه يرون ان التحسن الأخير في اسعار النفط ربما يساعد على الغاء أو تأخير تنفيذ بعض هذه الاجراءات طالما ان المسبب لها قد انتفى وجوده, لكن القراءة المتأنية للكثير من المتغيرات تبين ان الحكومات تنظر الى هذه الاجراءات والسياسات على أنها برامج اصلاح اقتصادي كان يفترض ان تطبق منذ زمن لكن الظروف لم تكن مواتية آنذاك.
وبناء على هذا فمن المتوقع ان التحسن في اسعار النفط لن يؤثر على هذه السياسات والاستراتيجيات بشكل جوهري بل ان تنفيذها سيستمر حتى ولو ظلت اسعار النفط مرتفعة لفترة طويلة من الزمن, فاهداف هذه السياسات والاستراتيجيات لا تنحصر في مجرد توفير موارد مالية لسد العجز الحاصل في ميزانية الحكومة بسبب انخفاض اسعار النفط بل هي أبعد من ذلك بكثير فهي ترمي الى تحقيق عدة أهداف من ضمنها تنويع مصادر دخل الحكومة والعمل على زيادة الانتاجية ورفع كفاءة استخدام المجتمع لموارده الاقتصادية واشراك القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية بشكل أكثر فاعلية من ذي قبل, فالقصد من مجموعة السياسات والاجراءات الاقتصادية احداث تغييرات جوهرية في البناء الاقتصادي للمجتمع يتواكب مع معطيات الواقع المعاش.
وهذا أمر طبيعي جدا فالظروف المحيطة بالمجتمع والأهداف التي يسعى الى تحقيقها والوصول اليها لا تبقى ثابتة بدون تغير فهي تختلف من زمن الى آخر وبما يدعم الرأي الذي يتوقع ان البرامج المتبعة لن تتأثر كثيرا بارتفاع اسعار النفط حقيقة ان الدول المصدرة للنفط قد تأثرت بشكل كبير من انخفاض عوائد النفط وتراكم عجوزات الميزانية عبر السنوات الماضية وستحتاج الى فترة زمنية ليست بالقصيرة للتعامل مع هذا الإرث الثقيل.
يضاف الى ذلك ان استمرارية بقاء اسعار النفط عند مستويات عالية ليست مضمونة, والأمر منطقي جدا اذ لا يتوقع ان تتغير السياسات والاستراتيجيات الاقتصادية العامة بشكل جذري تبعا للتغير في بعض الجوانب الأمر الذي يجعلها وكأنها ردود أفعال آنية لما يحصل من تغيرات في حين يفترض ان تشتمل هذه السياسات والاستراتيجيات على آلية تمكنها من التنبؤ بشكل دقيق والتعامل السليم مع التغيرات التي تحدث من حين الى آخر.
والذي اتصوره ان التحسن في أسعار النفط لا ينبغي ان يكون عائقا ومثبطا للسير في البرامج والسياسات الهادفة الى تحسين أداء الوحدات الاقتصادية والى تحقيق الاستفادة المثلى من الموارد الاقتصادية المتاحة بل يجب ان يكون هذا الأمر مساعدا على تحقيق هذه الأهداف ولاسيما انه يعمل على التخفيف من القيود التي تعيق السير ويتيح للحكومة مجالا أوسع لاتخاذ قرارات اقتصادية تخدم هذه البرامج بعيدة عن الضغوط التي تنشأ نتيجة لتدني الموارد المالية, على ان هذا لا يعني ألا تكون هذه البرامج والسياسات والخطط خاضعة للملاحظة والتعديل نحو الأفضل بناء على ما تقتضيه الاعتبارات المختلفة.
*قسم الاقتصاد الإسلامي - جامعة الإمام محمد بن سعود