* القاهرة - عوض خليفة -أ,ش,أ
شهدت العلاقات بين واشنطون وهافانا الكثير من التطورات الايجابية في الآونة الاخيرة اشاعت اجواء من التفاؤل بشأن امكانية اعادة العلاقات بين البلدين الى ماكانت عليه قبل الثورة الكوبية في أواخر الخمسينات تمثلت في تنظيم مباراة البيسبول بين الفريقين الامريكي والكوبي في بالتيمور الامريكية في فبراير الماضي ورغم ان وزير الرياضة الكوبي (هومبيرتو بونزاليز) اكد ان المباراة لاتخرج عن كونها لقاء رياضيا لايخفي وراءه برنامجا سياسيا كوبيا الا انه عاد ووصفها بانها بادرة صداقة وبادرة سلام بل قال المشجع الكوبي خوليو رانجو عنها انها اكثر من مجرد مباراة في البيسبول.
وكانت كوبا قد فتحت مع بداية عام 1990 ابوابها امام الاستثمارات الاجنبية وتخلت عن سياسة التزام الدولة بتوظيف العاملين رغم بقاء الصناعة في ايدي الحكومة وسمحت بفتح مكاتب صرافة للنقد الاجنبي وشركات سياحية ايضا وراح النظام الكوبي يتخذ خطوات للفوز برضا اعداء الماضي منها مثلا السماح بتداول الدولار الامريكي في الاسواق الكوبية والشروع في خصخصة بعض الشركات باعتبار ذلك عربون صداقة مع الولايات المتحدة.
وردت الادارة الامريكية على هذه المبادرة بمثلها فقامت بتجميد العمل بقانون هيلمز بورتون الصادر عام 1996 والقاضي بفرض المزيد من العقوبات على كوبا في الوقت الذي اكدت فيه وزارة الدفاع الامريكية ان كوبا لم تعد تمثل اي تهديد للأمن القومي الامريكي ووافق كلينتون في يناير الماضي على تخفيف العقوبات الامريكية المفروضة على كوبا مع السماح بوصول المساعدات الامريكية الى المنظمات غير الحكومية في كوبا والتصريح للمهاجر الكوبي في الولايات المتحدة بارسال مايصل الى 1200 دولار لذويه في كوبا سنويا.
وواصلت الولايات المتحدة ارسال الاشارات الايجابية الى هافانا فقامت في يوليو الماضي بفتح فرع بنك ويستيرن يونيون الامريكي في هافانا ووافقت على تيسير رحلات جوية مباشرة الى كوبا من مطارين آخرين هما نيويورك ونيوجيرسي اضافة الى مطار ميامي بل وسمحت للعلماء الكوبيين في نفس الشهر باختبار مصل واق من مرض الالتهاب السحائي بي في معمل تابع لشركة بريطانية في واشنطن.
وفي اغسطس الماضي قام عضو مجلس الشيوخ الامريكي توم داشلر وبارون دوجان بزيارة لكوبا وكان في استقبالهما بالمطار رئيس البرلمان الكوبي والتقيا خلال زيارتهما بالرئيس الكوبي فيدل كاسترو في حالة هي الاولى من نوعها بين البلدين ومع ذلك فان كاسترو لايزال ينظر الى الاجراءات التي اتخذتها واشنطون لتخفيف العقوبات المفروضة على بلاده بعين الشك ويرى الرئيس الكوبي ان تخفيف الحظر الامريكي على بلاده امر ظاهره الرحمة وباطنه العذاب حيث تذهب المساعدات في رأيه الى المنشقين الكوبيين الطامحين الى ازاحته عن مقعد السلطة غير انه يؤكد ان اي محاولة للاطاحة به سوف تبوء بالفشل.
من جانبها اصرت مادلين اولبرايت على ان كل ذلك لايعكس تغييرا في السياسة الامريكية تجاه الحكومة الكوبية التي تقوم على اساس الانتقال السلمي الى الديمقراطية في كوبا وهو مايؤكد شكوك كاسترو في الوقت الذي لاتزال تشعر فيه واشنطون بوخز الشوكة الشيوعية كلما مالت بجنبها الى الجنوب لذا لاتدخر وسعا في العمل على اسقاط نظام كاسترو واقامة نظام اكثر موالاة لها من خلال استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية,ورغم ادانة الجمعية العامة للامم المتحدة للمقاطعة الامريكية لكوبا في قرار لم يعترض عليه سوى مندوبي اسرائيل ورومانيا الى جانب الولايات المتحدة عام 1992 الا ان واشنطون مضت في طريقها الرامي الى خنق كوبا واصدرت قانون هيلمز بورتون عام 1996 الذي يحمل رسالة عنوانها وداعا كاستروا انتقاما لاسقاط كوبا طائرتين كانتا في مهمة تحمل اسم اشقاء الانقاذ تهدف الى انقاذ اللاجئين الكوبيين الذين تقطعت بهم السبل في مياه الكاريبي.
ويسمح القانون الجديد للمدنين الامريكيين برفع دعاوى قانونية امام المحاكم الامريكية ضد الشركات الدولية التي تتربح من الممتلكات الامريكية التي صادرتها الحكومة الكوبية وعدد هذه الشركات 100 شركة تستغل اكثر من 5900 عقار غير ان قانون هيلمز اثار غضب الدول التي تتعامل مع كوبا مثل كندا وفرنسا واسبانيا وايطاليا.
على الصعيد الانساني تسبب الحصار الاقتصادي الامريكي لكوبا والذي اعتبره البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان والرئيس الامريكي الاسبق بيمي كارتر سياسة غير فعالة في تراجع كميات الدواء على سبيل المثال في كوبا حيث تشير الاحصاءات الى ان الصيادلة الكوبيين لديهم 50% فقط من الادوية المتاحة لنظرائهم في دول العالم الاخرى.
اضطرت الحكومة الكوبية في مواجهة هذا الحصار الى تطبيق برنامج تقشف صارم خاصة بعد تراجع المساعدات السوفيتية لها من 4,16 مليارات دولار عام 1989 الى 3,5 مليارات دولار عام 1990 ويتضمن البرنامج منح المواطن الكوبي خمس بيضات اسبوعيا ودجاجة واحدة لكل اربعة مواطنين كل تسعة ايام وتخصيص 15 جالون وقود لكل سيارة شهريا.
وفي اطار سياسة التقشف قامت الحكومة الكوبية بخفض حجم وارداتها من 8,1 مليارات دولار عام 1989 الى 2,2 مليار دولار عام 1992 ويجسد مواطن كوبي حجم الازمة الطاحنة التي تعيشها كوبا في الوقت الراهن قائلا لايوجد بديل امام من يريد تناول وجبة لحوم في كوبا سوى الحصول على المال بطريق غير مشروع او من احد اقاربه العاملين في الخارج.
وقد انعكس الوضع الاقتصادي المتداعي في كوبا على النواحي الامنية حيث اشارت التقديرات الى ارتفاع معدلات الجريمة بها بنسبة 42,2 عام 1992 عن العام السابق وزيادة معدلات السرقة بنسبة 63% عن نفس الفترة ومع ذلك تصر الولايات المتحدة على المضي في الشوط الى نهايته مع كوبا مما يؤكد الحقيقة القائلة بانه رغم الفاصل الجغرافي الضئيل بين الاراضي الكوبية والاراضي الامريكية الذي لايتعدى 140 كيلو مترا الا ان الهوة السياسية والايديولوجية بينهما تبدو في غاية الاتساع,لقد اصبحت كوبا في وضع لاتحسد عليه بعد المحاولات المستميتة من جانب واشنطون لاسقاط آخر عنقود في شجرة الشيوعية في الوقت الذي تخلى فيه عنها الصديق السوفيتي السابق وتركها تواجه مصيرها بمفردها باعلان جورباتشوف ويلتسين عام 1991 انه ليس من المنظور ان تستمر المساعدات السوفيتية لكوبا على نحو ماكانت عليه واكد ان الوقت قد حان لمراجعة العلاقات مع كوبا.
لم يقف كاسترو مكتوف الايدي امام هذه التطورات من جانب صديق الامس بل نهض يهاجم سياسة البيروسترويكا وسياسة بلاسنوست واعتبرهما مسئولتين عن ازمة العالم الاشتراكي بل ذهب الى حد تأييد الانقلاب الذي وقع ضد جورباتشوف عام 1991 مما دفع يلتسين الى الابتعاد خطوة اخرى عن هافانا وشجب سجل حقوق الانسان في كوبا عام 1992 على النمط الغربي المعروف,, وهكذا بكل بساطة,,.
في مواجهة التخلي الشرقي عن كوبا لم يجد كاسترو بدا من ادارة ظهره للشرق والتوجه نحو الغرب وتطوير العلاقات التجارية معه حيث بلغ حجم الفائض التجاري لبلاده مع دول الاتحاد الاوربي عام 1993 نحو 340 مليون دولار.
ولايخلو الحديث عن العلاقات الامريكية الكوبية من مفارقات مثيرة للحيرة خاصة اذا علمنا ان الولايات المتحدة تحتفظ بأقدم قاعدة عسكرية لها في الخارج في جوانتانامو على ارض كوبا وهي القاعدة الامريكية الوحيدة القائمة على ارض شيوعية,.
وكانت الولايات المتحدة قد استأجرت قاعدة جوانتانامو من كوبا عام 1903 وتم تجديد الايجار عام 1943 مقابل 2000 دولار شهريا وتقع جوانتانامو على الساحل الجنوبي الشرقي لكوبا على شكل ميناء مساحته 45 ميلا مربعا وبها قاعدتان جويتان تحويان سربا من الطائرات المقاتلة التي توفر الدعم الجوي لوحدات الاسطول الامريكي.
لجأت واشنطون في اطار حربها مع كوبا الى استخدام سلاح المهاجرين الكوبيين في مواجهة نظام كاسترو حيث فتحت الباب على مصراعيه امامهم وتركتهم يمارسون الانشطة السياسية المناهضة لرئيس كوبا حتى ان بعض التقديرات تضع عددهم حاليا عند 700 الف كوبي.
غير ان كاسترو الماكر لجأ الى حيلة بارعة حيث فتح ابواب الهجرة لابناء بلده الى الولايات المتحدة,, ولكن امام من امام العناصر غير المرغوب فيها مثل المجانين وارباب السوابق واللصوص والمرضى,, مما جعل الولايات المتحدة تصرخ باعلى صوتها من هذا التدفق غير المرغوب فيه من المهاجرين الكوبين حيث لديها منهم الكثيرون بعد ان كانت تستقبلهم بترحاب.
ورغم توصل الجانبين الامريكي والكوبي الى اتفاق بشأن تنظيم الهجرة عام 1994 الا ان كاسترو قام بتجميد العمل به بعد بدء ارسال محطة اذاعة مارتي المناهضة للنظام الكوبي التي تدعمها الولايات المتحدة وفتح الباب من جديد امام المهاجرين الكوبيين غير المرغوب فيهم الى الولايات المتحدة وقال في نبرة تحد على السلطات الامريكية ان اتمنعهم من الدخول ان ارادات او استطاعت.
الان ربما يثور سؤال في الذهن عن السبب الذي يدفع وشنطون الى الترحيب باستقبال المهاجرين الكوبيين والرد ببساطة هو انها تريد استغلالهم كورقة سياسية في مواجهة كاسترو حيث تقوم بتدريبهم على استخدام الاسلحة تمهيدا لنقلهم الى الاراضي الكوبية عند وقوع الانقلاب المنتظر ضد كاسترو بل هناك جماعات منظمة من المهاجرين مناهضة لكاسترو ربما ابرزها جماعة (التحول نحو الديمقراطية).
اذن ماهي المعضلة في العلاقات الامريكية الكوبية يقول باري ماكفري واضع سياسة مكافحة المخدرات بإدارة كلينتون ان معضلتنا مع كوبا تتمثل في اصرارها على تبني سياسة ديكتاتورية الحزب الواحد وسياسة الاقتصاد الماركسي التي عفا عليها الزمن.
وترى وزيرة الخارجية الامريكية مادلين اولبرايت من جانبها ان كاسترو لايزال يثبت انه حاكم مطلق وتؤكد على اعتزام بلادها مواصلة الحصار الاقتصادي لكوبا ودعم الجهود المبذولة لتحقيق الانفتاح السياسي فيها والدفاع عن حقوق الانسان مع الاستمرار في تسليط الاضواء على سجناء الضمير والعمل على اطلاق سراحهم من السجون الكوبية.
اما كاسترو فانه يتهم الولايات المتحدة بشن حملة ارهابية ضد كوبا على مدى اربعين عاما راح ضحيتها 3500 مواطن كوبي واصيب 2099 آخرين ويطالبها بدفع تعويضات عن ذلك قيمتها 400 مليار دولار.
وعلى الرغم من بريق التحدي الذي يشع من عيني فيدل كاسترو الا ان زوال الاتحاد السوفيتي الذي استخدم كاسترو في الماضي مخلب قط ضد النظم الرجعية في افريقيا ونقطة وثوب الى الدول المجاورة في امريكا اللاتينية وتربع الولايات المتحدة على عرش العالم ربما يدفع كوبا اللاتينية الى تقديم سيجار هافانا الشهير الى وشنطون بعد ان حرمتها موسكو من كأس الفودكا.
أخيرا,, لو كانت كوبا ولاية امريكية لاحتلت المركز السابع بين الولايات الامريكية من حيث تعداد السكان (11 مليون نسمة) اي مايعادل عدد سكان ولاية الينوى اما مساحتها فتتساوى مع مساحة ولاية بنسلفانيا (115 الف كيلو مترا مربع) بينما تتساوى مع ولاية كاليفورنيا من حيث الطول وتعد كوبا اكبر جزيرة بحرية في منطقة الكاريبي,, ولو كان المواطن الكوبي مواطنا امريكيا لكان دخله الشهري 17 الف دولار وليس 30 دولارا فقط,, فهل يتخلى المواطن الكوبي عن المعتقدات السياسية التي عفا عليها الزمن في ظل عالم اصبح يحكمه واقع الاقتصاد وليس شعارات السياسة.
|