Tuesday 21st September, 1999 G No. 9854جريدة الجزيرة الثلاثاء 11 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9854


خفقان قلب
قصة قصيرة

بدا القمر يزحف بنوره الآتي على تعابيس الليل الفاحم في ارفاق وتؤدة,, يشق بنوره غلالة الظلمة المتكدسة، مبددا بنوره ظلمة القلوب المبؤوسة، والعيون المقروحة والنفوس المجروحة,, واحمد يرسل النظر الى بيته الذي سيتركه يعالج الصمت المميت، والسكون الراكد,, بعد ما كان ممرحاً لمرحه، وملفا لامله,, بعدما ازمع القصد الى ديار اشد ما تكون بعداً ونأياً عن بلده,, والذي فرض ذلك عليه عمله، وذلك لمهمة انتداب تنقضي ايامها بانقضاء ثلاثة اشهر.
مضت برهة من الوقت واشاح بوجهه عن بيته الى السيارة التي استقلته الى المطار مع زوجته,, مضى حوالي ساعة واذا بهما امام صالة المطار,.
وللتو,, استوت الطائرة على متن المطار في كثير من الحذر وتعاقب عليها الركاب واحداً اثر واحد,.
واحمد يتلمح الفرص السوانح لان تكون زوجته الى جانبه في جوار النافذة,, فتعقبه في بحث مكان مناسب لهم مضيف الطائرة في وداعة ولطف:
- الى جوار النافذة جلوسكم في رحلتكم الشائقة,, ودمتم هانئين سعيدين في سفركم,.
فشفع احمد وداع المضيف بكلام ضافٍ من الشكر والعرفان لهذه الاخلاق والسجايا الخالبة,.
اقلعت الطائرة، واستوت في جو السماء,, معلقة بين السماء والارض,, تشق غلالة الهواء شقاً,, ولها هدير عاصف مرنان يتردد صداه في الفضاء الافيح الواسع,.
والى جوار النافذة يشير احمد الى سماء رحبة، في سحب متراكمة شبه متصلة,, والى أرض غيبتها سباحة في افق مترامي البعد عن التربة,, وراح يلقي الى روعه بعض تأملاته:
- كم هي عظمة الله تتجلى في سماء مصحية لاحد منتهى لها يقف الطرف عند آخرها,, سماء سابحة في زرقة داكنة والرياح السوافي تتبع السحب في سيرها المتواصل حاملة المزن في سيرها او الظل الظليل في تتابعها,.
ومضى يردد - وهو غراق في لجة تأملاته- ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب ,, الاية.
فاستفاق من غشيته الى حفيف ضعيف تناهى الى مسمعه وقطع عليه لجته السادرة وغشيته الحالمة:
- عزيز علي ان اكون الى جوارك ولا اسمع لك همساً ولا ركساً.
اعطف على زوجتك شجن نفسك وحرقة فؤادك ان كان هناك ما يشجي,, لكي ابادلك النجوى واشاركك البلوى، لنخلع على حياتنا حياة الرغد النفسي والعيش الرضي.
والا فما الحزن الى جنب مال وفير الا جحيم في جحيم,, ومالرضا مع ما تتبلغ به النفس في حياتها الا الهناءة والسعادة,, والا فما هذا الشرود الذي اتلمحه من عينيك,, كفاك حزناً واسترسالاً في تأملاتك وهواجسك!!
فانفرجت اسارير احمد عن ابتسامة مضيئة وتابع قائلاً!!
- في لجة الاغمار,, درة يشع منها الوان وبروق السعادة في ايماض شديد,, أتعرفين الدرة التي تسكن في اطواء البحر الهادر,؟
فعطفت عليه اسئلتها قائلة:
- نعم اعرفها,, لكن ما شأنها حتى كانت في حديثنا,, فتابع الزوج قائلاً:
- هذه الدرة يتهافت الناس عليها مبهوتين بلآلئها الخالبة وجمالها الساحر الذي يأخذ بلباب العقول ومجامع القلوب والتي اضنت من جهود الغواصين,, وهم يلاقون في سبيلها كل لأواء ونصب,, وربما ترمي بهم الى العطب والهلاك المحقق في سبيل اقتناصها,, واذا وجدت فانها تأتي بعد انهاك القوى في ترصد مظانها,, وتلمس مكانها,, أترين - ايتها الزوجة- ان الصائد لها يستهين بها ويدعها مع سقط المتاع؟
عقبت الزوجة على كلامه مجيبةً:
- ابداً,, فلو وجد منفذاً الى قلبه لكي يودعها فيه,, تمنع دون ضياع لَفعل,, ابقاءً على نفاستها وجوهرها دون سرقة سارق وبخس باخس,.
- احسنت وصفاً,, واجزلت كلاماً,.
فاغمض احمد عينيه ببطء,, والقى برأسه على ظهر الكرسي ونفسه مترعة بحلاوة الايام وسعادة الاحلام، وهو يتمتم في اخفات:
- انتِ,, انتِ,.
ارتاعت الزوجة من هذا الهذر الذي يهذر به زوجها,, والقت عليه شيئاً مما خالجها:
- كفاك ايها الزوج من احاجيك المحيرة والغازك المتتابعة، الى من تهمس بقولك: انت,, انت,, أزارك طيف خيال وانت تهمس اليه بأنت,,؟!
قطع عليها كلامها جرس متناغم يطفو من على شفتي احمد وهو غارق في لجة ابتسامته,, وتابع قائلاً:
- اعني بتلك الدرة,, انت ايتها الزوجة الحانية,, انت المغزى من الدرة,, بل الدرة الى جانبك نور يخبو الى محاسنك الضافية ولالئك اللامعة,, وسجاياك السامية,.
فوارت وجهها خجلاً، وطفرت من عينيها دمعة فرح تسابق انفاسها,, وانكمشت على احلامها الصادرة السارية الطروبة وهي تزخر وتمور بالاحلام الهانئة القريرة,.
* * *
ومع انبلاج الفجر الحالم,, استوت الطائرة على متن المطار، وتتابع الركاب نزولاً زرافات ووحدانا,, مهنئين على رحلة تنكبت الاخطار عنها,, في تبادل ابتسامات وتصافح حار مفعم بالحمد والشكر له سبحانه على تنفس للصعداء,.
تفرق الجميع كل الى سبيله,.
وتابع احمد وزوجته السير الى سيارات النقل,, واستقلا احداها الى مدينته الجديدة,.
ومن خلال النافذة بدأ احمد يجيل بصره الى حيث الدور والمساكن التي تبعث على تساؤل محير:
- امن الممكن ان الزم جانب هذه البلدة دون حنين وشوق الى تربة كانت المهد لطفولتي الساذجة,, ومسرحاً وملعباً للهوي ولعبي,, في تربة ترعرعت فيها ونشأت حتى اصبحت غض الايهاب ريان الشباب موفور الصحة والعافية انأى منها الى هذه الديار الخوالي من صحب ابادلهم النجوى واشاطرهم البلوى,.
وقطع من خياله تلك التي طرقته قبل قليل تساؤلاته وتحيراته,, ووصف لسائق الاجرة مكان المثوى الذي يضم سكنه,, عندها غرست السيارة الى جانب سكنه وانزل اغراضه في كثير عجلة,, وشكر صاحب الاجرة بعد ان القى اليه اجرته,.
* * *
مضى شهران وبضعة ايام على اقامة احمد في هذه المدينة,, متردداً من شقته الى عمله ومنه الى شقته,, في روتين ورتابة القت على حياته كثيرا من الوجوم والملل,, وجعل مذكرته الخاصة به متنفس احزانه ومأوى آلامه,, فهو من شجن يكتبه الى نفس حار يرسله,, ومن طريق الصدفة,, صافحت الزوجة عيناها هذه الخطوط المفعمة بالحنين والشوق الى وطنه ومثوى امله ومأوى فرحه,, والتي حملت في مذكرته الخاصة,, وهي تقرأ في شغف ونهم,, ارسلت المذكرة الى الطاولة قليلاً,, مع قراءتها لآخر جملة من المذكرة,, وحلقت في اجواء تفكيرها تتكشف صدق ما تقرأ,, ثم عاودت القراءة لها مرة ثانية، فاتبعتها قراءة اخرى وهي تردد ما تقرأ بصوت خافت:
- ولكن مما يخفف اللوعة، ويسكن النفس قليلاً زوجة ناصبة صابرة كانت ومازالت الى جانبي العضد الايمن في غربتي الكالحة,, فلها الله من زوجة عز مثلها من النساء صبراً وحباً واخلاصاً,, فشكراً لك اللهم ان هيأت لي مثلها.
تنفست الزوجة الصعداء بعد هذه الكلمات المشحونة دلاً وحسناً,, جعلتها طريبة لسحرها صريعة لحسنها,, فتناولت القلم الملقى الى جانب المذكرة,, وكتبت في اسفل المذكرة: وانا ابادلك- ايها الزوج المخلص- الشوق والحنين الى اهلك وبلدك الذي هو ملء السمع والبصر، لكني احد في نسمة رضاك ما يمحو الآلام ويأسو الجراح، والامر اليك فانظر ماذا ترى؟ .
وفي فرصة استلقاء احمد التي يجعلها للراحة والدعة,.
نظر الى القمر السابح في سماء ساجية ونجوم متلألئة زاهية,, في رقدة حالية بسكون النفس وطمأنينة الروح، مضى غير قليل من شروده واذا هو الى جانب مذكرته يقف,, ليترعه بما تبقى من اشجان والام,, فتتبع الصفحات وكان مما شد نفسه ان وقع بصره على خط مغاير لخطه جعله حليف وهلة واسير دهشة,.
فمضى في قراءته,, عندها تنهد تنهيدة عميقة,, وراح يهمس الى نفسه بشيء من الدهشة:
- كلانا يبادل الحنين اليك يا وطني,, اترك النفس ملهوفة ممروعة وهي متباعدة عن نبضك الحبيب,, لا يا وطني,, فانت اول دار ادرج عليها وآخر دار ادرج فيها!!
وانه لكذلك في ترقب للحال وترصد للمال,, بهت ليد حانية تتمشى على كتفه,, فالتفت وثاب الى رشده ابتسامة ارتسمت على وجه زوجته وهي ماضية في كلامها:
- هل تريد ان اتكشف لك اكثر مما تكشفته لك من مكنون الضمير ولعج الخاطر,, وتهافتت ايديهما يشد بعضها البعض في قوة واصرار,.
وما ان حط يوم الثلاثين برحاله الا وهما على قدم وساق من اهبتهما للرجوع الى البلد الحبيب الى نفسيهما,.
فمضى الزوجان الى المطار تحفهما هالة من بهاء الهناءة والسعادة الظافرتين على انحاء روحيهما,, وانوار القمر السارحة تريق من مائها على نفسيهما الطاهرتين وقد اترعت بجائش الحب الصافي الوادع ولصدى همسيهما ترديد رد اليهما لذاذة الايام وهناءتها الضافيتين,, والتي تنكب عن طريقها كثيراً من الازواج الذين يرزحون تحت وقر من الخلاف الدامي والسخائن القلبية البغيضة وقد نفخ الشيطان من ابواقه على انفسهم المتهالكة المتداعية تموهات الشك وخيالات الظن الواهية.
عبدالله بن عبدالرحمن الحبيتر
بريدة

* خفقان قلب من نمط القصص الجميلة التي تميزت بلغة معبرة في سياق سرد لا يخلو من جمال تعبيري كما لا يخلو من تقاطعات واضحة فهو يتوقف كثيراً بين جزئية واخرى بحثاً عن مسوغ لاستكمال الحدث او القصص وهو اكثر مالوحظ على القصة بعامة,, خفقان قلب من القصص التي يمكن ان تحكى بعدة طرق مختلفة ومن زوايا عدة,, وهي في مضمونها قصة حيوية تتناول موضوعاً جاداً الا وهو الغربة بمعناها المكاني والمعنوي اذ شخص حالة انسانية تعاني اغتراباً حقيقياً بعيداً عن الوطن، عمد الى ذلك من خلال السرد الصريح للدلالة على المعنى بكل وضوح خارج التهويمات او الرمزية,, وعلى ان القصة لم تستطع بناء شكل درامي للغربة بمعناها الشامل حيث ان بنية القصة اعتمدت على السرد المباشر وهو مالا تتحقق فيه اية صياغة درامية.
كذلك عالجت القصة نوعاً من الالم الانساني وهو الغربة او الحنين الى الوطن الا انها لم تتواتر في نمط سياق منفعل اذ ان الانفعال الشعوري هو المعني بايصال القارىء الى تلمس لحظة الالم في القصة.
مضمون القصة مستوحى من تصوير اللحظة الراهنة وهو ما حدا بالقصة الى الاعتماد على التلقائية وغلبة الوصف بلغة لا تخلو من جمال تصويري,, فالقصة لها طابعها الفني والبنائي ذو وحدة تعبيرية اجتماعية نفسية وزمكانية.
واود ان انوه الى اننا لا ننحى بالتعليق على قصص الاصدقاء المنحى التشريحي البنيوي او الفني والاصطلاحي لكي لا نقحمهم في تقييم نقدي من اي نوع وعلى الاخص وهم في خطواتهم الاولى انما املنا ان نتقاطع معهم ليتعرفوا على موقع الخطوة القادمة, الصديق عبدالله اهلاً بك في ايداعات اخرى فقلمك ينبىء عن روائع قادمة.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
مشكلة تحيرني
منوعــات
القوى العاملة
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved