سؤال تردد ويتردد كثيرا على ألسنة المثقفين وفي وسائل الاعلام، وفي بعض المقالات والاعمدة الصحفية وسمعناه في اكثر من مناسبة يستخدم في وصف مجموعة من الناس تقف متأرجحة بين الامية والتعليم ، بين العلم والجهل، بين الثقافة والاضمحلال، بين التخلف والحضارة، بين التقدم والتأخر,.
لم نرد في الواقع ان يكون مدخلنا لهذا الموضوع بهذه الطريقة، ولكننا اردنا ان نوجد مجموعة من الفروق تقربنا الى الوصف او التعريف الدقيق لهذا المصطلح الذي شاع استخدامه بين من يعرف المعنى الحقيقي لهذا المصطلح ويدرك حقيقة مغزاه وبين من يستخدمه لانه مصطلح جديد و موضة جديدة، وسهم جديد يوجه الى من لايعجبه من البشر سواء انطبق عليهم ام لم ينطبق، او صحت التسمية ام لم تصح, المهم انه اطلقة ومشى - كما يقولون-.
واذا اردنا ان نعطي تعريفا دقيقا لهذا المصطلح فلابد ان نتذكر ان اي تعريف لأي مصطلح هو محاولة تجريبية تجري في دائرة التعريف العلمي الدقيق، وليس بالضرورة تعريفا قاطعا لهذا المصطلح، والسبب في ذلك ان كل شخص يتعامل مع هذا المصطلح بناء على خلفيته الثقافية, فالبعض ينظر الى هذه الفئة من الناس الذين يشملهم هذا المصطلح بمنظار مختلف ويكون تعريفه من منطلق نظرته وتعامله مع هذه الفئة، وخلفيته الثقافية والعلمية، بينما نجد البعض الآخر يتجرد من موقعه ويبحث بشكل دقيق وعلمي عن تعريف جامع شامل يتناول المصطلح من اكثر من زاوية, ولربما ان مثل هذا الموضوع نحتاج فيه الى آراء مجموعة من الاساتذة المشتغلين في مجال العلوم الانسانية والمهتمين بقضايا الناس ومشكلاتهم من علماء اجتماع ونفس،مما يقرب معنى هذا المصطلح الى اذهاننا.
ومن وجهة نظري ان نصف المتعلم هو ذلك الشخص الذي قرأ وكتب وحسب في بداية حياته، وتجمع لديه حد أدنى من هذه المهارات الثلاث، واكتفى بها، ولم يكن لديه الطموح لتجاوز اكثر من ذلك اما لوجود مصدر مالي ورثه او حصل عليه بأي طريقة كانت، ويعتقد انه لايحتاج الى علم وثقافة و وجع راس- كما يقال ، او انه رزق بوظيفة في احدى الشركات الكبرى منذ ايام الحاجة (أي قبل مايقارب عشرين عاما) وترقى في مناصبها ولديه دخل كاف يؤمّن له مستقبله اثناء وبعد الخدمة, والصنف الثالث هو الذي لم يكن لديه اي طموح ويفضل العيش والبقاء على هامش المجتمع.
ونصف المتعلم يتوقف عند هذا الحد من التعليم لمجموعة اسباب، فأحيانا نجد ان الظروف- أيّاً كانت- لم تمكنه من ان يستفيد من قدراته ومواهبه في تجاوز هذه المرحلة الى ما بعدها, وبقي في هذا الهامش رغم توفر بعض الامكانات لدى البعض لتحسين وضعه, فهو ليس متعلما بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وليس أميا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ايضا.
بقي لنا ان نجيب على السؤال الذي طرحناه في بداية حديثنا، وهو من هم انصاف المتعلمين؟
اذا اخذنا التعريف المعطى كمعيار يمكن تطبيقه وقياسه يتضح لنا ان انصاف المتعلمين- للأسف- يشكلون الغالبية العظمى من الناس ويشكلون شريحة كبرى داخل المنحنى الهرمي، وتترامى على طرفيه نسب ضئيلة من الذين لايشملهم هذا التصنيف، او الذين لايقعون في دائرة هذا المصطلح.
من هنا نستطيع القول ان انصاف المتعلمين هم الذين يبرزون في الواجهات والبوابات، ويقدمون الخدمات للناس وفق انتماءاتهم وميولهم وامزجتهم، وبعيدا عن أنظمة واخلاقيات المهنة والوظيفة التي يشغلونها.
وهم الذين يقفون في النوافذ وخلف طاولات الاستقبال في الدوائر الرسمية يمارسون اعمالهم بشيء من الغوغائية والفوضى وازدراء الآخرين والعبث بأساليب التعامل الحضارية.
وهم، ايضا، الذين يقتاتون العناوين الرئيسية للصحف المحلية، والخطوط العريضة ورؤوس الاقلام، ورسوم الكاريكاتير وبعض النكات والاخبار الطريفة والغريبة، واخبار الحمقى والمغفلين، والاغنياء والمشاهير، يستخدمونها مادة لأحاديثهم ومجادلاتهم اليومية مع زملائهم في العمل او في الاستراحات والمخيمات وبيوت الشعر.
وهم من تكونت لديهم آراء في المرأة والزواج، ومعاملة المرأة بعد الزواج من بعض الصحف والمجلات والفضائيات الرخيصة التي تستقطب بعض الممثلين والفنانين الذين تخلوا عن قيمهم ومبادئهم، ويحاولون عبر بوابات ونوافذ هذه الصحف والمجلات والفضائيات إقناع الناس بحياتهم الرخيصة وطريقة تعاملهم مع الحياة والناس والمجتمع، وآرائهم في افراد المجتمع, ويرددون شعارات لايمكن لهم هم أن يقتنعوا بها ويمارسوها في الواقع، سعيا منهم الى كسب رضا الجمهور، وامساك العصا من منتصفها لئلا تغضب بعض الفئات التي ترضى بانصاف الحلول.
ولعل ما يثير الشفقة احيانا ان نجد بعضهم يتحدث عن حقوق المرأة وهو من اول من يبخس المرأة حقوقها, يتحدث عن الحرية وكيف ينبغي ان تكون من وجهة نظره, يريد من الرجال ان يحسنوا معاملة الزوجة وهو اول من يجافي هذه النصيحة, يريد من زوج البنت ان يحسن معاملتها، في الوقت الذي يسيء هو معاملة امها, يتسلح بما يحتاج من الآيات والاحاديث التي تخدمه وتخدم الشعارات التي يرددها ويغفل الآيات والاحاديث التي لاتتناسب مع ميوله ورغباته وشهواته, يقرأ الآية ولاتقربوا الصلاة,, ويغمض عينيه عن بقية الآية.
وهم الذين يقفزون هنا وهناك ويدخلون في مقاطعة وافساد الاحاديث والمناقشات الجادة لاستعراض مخزونهم من الثقافة وإيهام المتحدثين والحضور بأنهم يستطيعون مجاراة غيرهم حتى لو ان الموضوع موضوع علمي، ويحتاج الى متخصص لديه خلفية علمية عملية.
انصاف المتعلمين هم من يتطاولون على المثقفين ورجال العلم والدين والادب ويسفهون آراءهم، ويطلقون عليهم بعض الاوصاف الساخرة التي يحلو لبعضهم ان تكون موضوعا لنكاتهم السخيفة ومهاتراتهم.
وهم من يلتقطون بعض المصطلحات كما يفهمونها هم، ويرددونها في مجالسهم، ويصفون بها من لا يستطيعون مجاراته في الثقافة والتفكير العلمي والحوار والمناقشة, فمثلا يطلقون كلمة علماني على كل شخص لايفهمون ما يقول وما يطرح وما لايتفق مع منطقهم وثقافتهم الضحلة.
يلعنون كل من رأوه ولم تعجبهم هيئته او كلامه.
يتذمرون من محاولة المعرفة والاستماع الى اي شيء لإيهام الناس حولهم ان هذا من البديهيات التي يعرفونها وليس لهم بها حاجة.
كل ما يقال وما يطرح في نظرهم هراء ولايستحق ان نعطيه أي اهتمام.
الناس في نظرهم نصابون، محتالون، كذابون، مزورون، ,.
يتبادلون نكت بعضهم البعض ولاتروق لهم النكت الهادفة او التي تحتاج الى تفكير.
ثم كيف يبدو انصاف المتعلمين لنا عندما يتسلق احدهم بعض المناصب الحساسة المواجهة للجمهور؟، يبدأ في ازدراء المراجعين، والعبث بنظام العمل الذي تتبعه المؤسسة، وتتغلب عنده المجاملات و حب الخشوم على الاجراءات النظامية المطلوب اتباعها لإنجاز عمل ومعاملات المراجعين.
تتكون لديه بطانة من اقاربه ومريديه تحجب عنه رؤية الحقائق وتتبعها، والعمل على تسيير المؤسسة وفق امزجة هؤلاء وأهوائهم.
وكيف نراهم عندما يكونوا مراجعين؟
يدخل احدهم وكأن العاملين في الدائرة التي يراجعها موظفون وخدم لديه، ويبدأ في ممارسة دور تفتيشي على هذه الدائرة، وتسقط بعض الاخطاء وايهام الناس بأن لديه من يسنده في حال لو لم تنته معاملته بالصورة التي يريدها هو.
ونصف المتعلم هو الذي يعتقد انه بسيارته الجديدة، الفاخرة، لابعلمه وفضله وسلوكه واخلاقه يستطيع ان يفاخر غيره، ويضع نفسه في مرتبة عليا من القائمة، وبقية الناس لايستحقون ان يكونوا في ذيل القائمة.
ولسنا في هذا الموضوع بصدد حصر الفئات التي تقع داخل دائرة التعريف اعلاه، ولكننا اوردنا مجموعة من الامثلة لندلل على حاجتنا الى مزيد من الوعي والثقافة اللذين بهما نعكس واجهة حضارية حقيقية لأخلاق وسلوك وقيم ومبادىء ونهج هذه الامة والتي بها سادت الامم، وتربعت على عرش الحضارة العالمية لما يزيد على الف عام.
والموضوع مثار نقاش طويل اتمنى ان يأخذ حقه من الحوار والمناقشة لنصل جميعا الى الهدف الذي يعمل الجميع من اجله وهو الارتقاء بوعي وثقافة القارىء، والتفكير في نقلة نوعية في طرح الموضوعات واشراك شريحة كبيرة من القراء في مناقشتها لطرح تصوراتهم وتعميق فهم بعض القضايا التي يعاني منها المجتمع، والتي لابد ان يكون للصحافة فيها نصيب الأسد من الطرح والمناقشة.
صالح بن عبدالعزيز العديلي
مدينة الجبيل الصناعية