Friday 24th September, 1999 G No. 9857جريدة الجزيرة الجمعة 14 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9857


من المكتبة
حوار مع غابرييل غارسيا ماركيز

بدأت الكتابة بمحض الصدفة تماماً: ربما لكي أبرهن فقط لأحد أصدقائي على أن جيلي قادر على انجاب الكتاب, بعد ذلك سقطت في شرك الكتابة من أجل المتعة ثم في الشرك التالي وهو اكتشاف أن عشقي للكتابة يفوق حبي لأي شيء آخر في الدنيا.
* قلت إن الكتابة متعة, كما قلت انها معاناة أيضا, أيهما إذن؟
- الأمران صحيحان, في البداية، عندما كنت أتعلم مهنتي وكتبت بابتهاج شديد ولم أكن أشعر بالمسؤولية تقريبا, أتذكر أنني كنت قادرا، في تلك الأيام، على أن أكتب بيسر أربع وخمس وحتى عشر صفحات من كتاب بعد أن أكون قد انتهيت من عملي في الجريدة حوالي الثانية أو الثالثة صباحاً, في إحدى المرات كتبت قصة قصيرة كاملة في جلسة واحدة.
*والآن؟
-الآن يحالفني الحظ إذا كتبت فقرة واحدة جيدة في يوم بأسره, فبمرور الوقت تصبح عملية الكتابة مسالة مؤلمة للغاية.
*لماذا؟ المفترض أنه كلما زادت مهاراتك، كانت الكتابة أكثر سهولة.
- مايحدث هو أن إحساسك بالمسؤولية يتزايد, تبدأ في الشعور بأن كل كلمة تكتبها الآن يصبح لها وقع أكبر وأنها تؤثر في عدد أكبر من الناس.
*ربما يعد هذا إحدى نتائج الشهرة, هل تثير الشهرة ضيقك إذن؟
-انها تقلقني, ففي قارة لم تأخذ أهبتها لاستقبال كتاب ناجحين، فإن أسوأ ما يمكن أن يحدث لكاتب لايتوقع نجاحا أدبيا هو أن يرى كتبه تباع مثل الخبز, إنني أمقت أن أصبح موضوعا للفضول العام لاأحب التلفزيون، الاجتماعات، المؤتمرات، والموائد المستديرة.
*والمقابلات؟
نعم وتلك أيضا, لاأتمنى أن يصيب النجاح أحدا, فهو مثل متسلق الجبال الذي يقتل نفسه تقريبا للوصول الى القمة وعندما يبلغها ماذا عساه يفعل؟ يعاود النزول بحذر وبوقار قدر المستطاع.
* حين كنت شاباً وكان عليك أن تعيش من أعمال أخرى اعتدت الكتابة أثناء الليل والتدخين بشراهة والآن؟
-الآن لم أعد أدخن، ولاأكتب إلا أثناء النهار.
*في الصباح؟
-من التاسعة صباحاً وحتى الثالثة بعد الظهر، في غرفة هادئة، جيدة التدفئة، فالضجة والبرد يشتتان تفكيري.
*هل تضايقك الورقة التي لم يخط فيها حرف، كما تضايق غيرك من الكتاب؟
-نعم، إنها، بعد الأماكن المغلقة، الشيء الذي يثقلني أكثر من غيره، لكنني لم أعد أشعر بقلق إزاء ذلك بعد أن قرأت نصيحة لهيمنجواي تقول: لاينبغي علينا التوقف عن العمل إلا حينما نعرف الكيفية التي سنستأنفه بها في الغد.
*ماهو المنطلق الذي تبدأ منه لتؤلف كتاباً؟
-صورة بصرية, وأعتقد أن الكتاب يولد -بالنسبة لكتاب آخرين- من فكرة أو مفهوم, أما أنا فإني دائما أبدأ بصورة, على سبيل المثال قيلولة الثلاثاء التي أعتبرها أفضل قصة قصيرة كتبتها ولدت من رؤية امرأة وفتاة صغيرة متشحتين بالسواد وهما تمشيان بمظلة سوداء تحت شمس حارقة في بلدة مهجورة, في عاصفة الأوراق كهل يأخذ حفيده الى جنازة, نقطة الانطلاق في العقيد لايجد من يكاتبه كانت صورة رجل ينتظر مركباً قرب سوق بارنكيلا, كان ينتظر بقلق صامت, بعد ذلك بسنوات وجدت نفسي في باريس أنتظر رسالة- من المرجح أنها كانت حوالة مالية- بالقلق ذاته الذي كان يبدو على وجه ذلك الرجل.
*ماهي الصورة البصرية التي استخدمتها منطلقا في مائة عام من العزلة ؟
-رجل عجوز يصطحب طفلا ليريه الجليد الذي كان يعرض كطرفة من طرائف السيرك.
*هل كان ذلك الرجل جدك، الكولونيل ماركيز؟
أجل.
*هل حدث ذلك الشيء في الواقع؟
-ليس تماما، لكن شيئا واقعيا هو الذي الهمني ذلك، أتذكر، حينما كنت صبيا صغيرا في أراكاتاكا، أخذني جدي للسيرك لرؤية الجمل العربي وحيد السنام، وفي يوم آخر قلت له بأنني لم أر الجليد رأي العيان، فأخذني الى مستعمرة شركة الموز وطلب منهم أن يفتحوا صندوقاً من سمك البوري المجمد وجعلني أضع يدي في الصندوق, من هذه الصورة بدأت كتابة مائة عام من العزلة .
*إذن فقد جمعت بين اثنتين من ذكرياتك معاً لتكتب أول جملة في الرواية, ماذا تقول الجملة؟
- بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، تذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا، عصر ذلك اليوم البعيد، الذي اصطحبه فيه أبوه، كي يتعرف إلى الجليد .
*عادة ما تعطي أهمية بالغة للجملة الأولى من الكتاب, قلت لي ذات مرة إنها في بعض الأوقات تأخذ من وقتك أكثر من بقية الكتاب بأكمله, لماذا؟
-لأن الجملة الأولى يمكن أن تكون المختبر الذي يتبلور فيه الأسلوب والبناء وطول الكتاب أيضا.
*هل تحتاج إلى وقت طويل لكتابة رواية؟
-الأمر ليس كذلك بالنسبة لكتابتها فعليا, فتلك عملية سريعة إلى حد كبير, لقد كتبت مائة عام من العزلة في أقل من سنتين, ولكن قبل أن أجلس أمام الآلة الكاتبة قضيت خمسة عشر أو ستة عشر عاماً أفكر في ذلك الكتاب.
*هل تدون ملاحظاتك؟
- إطلاقا، فيما عدا بعض المذكرات الموجزة العرضية, إنني أعرف من خلال التجربة أنه عندما تدون ملاحظات، فسينتهي الأمر بك الى التفكير في تلك الملاحظات وليس في الكتاب.
*هل تقوم بتصحيح عملك كثيراً؟
- لقد تغير عملي كثيراً فيما يتعلق بهذه الناحية, عندما كنت شابا، اعتدت على الكتابة على الفور، واستنساخ الأصل، ثم مراجعتها مرة أخرى, أما الآن فأقوم بتصحيحها سطرا بعد سطر أثناء الكتابة بحيث أجد في نهاية اليوم ان لدي صفحة خالية من أي شطب وجاهزة تقريبا للنشر.
*هل تمزق أوراقا عديدة؟
-كمية غير معقولة, أبدأ بورقة على الآلة الكاتبة.
*دائما ماتطبع على الآلة الكاتبة؟
- دائما على الآلة الكاتبة الكهربائية, عندما أخطىء أو لاتعجبني كلمة كتبتها، أو ببساطة ارتكبت خطأ في الطباعة، أجد أن نوعا من العيب أو الهوس أو الوسواس يقودني إلى إخراج الصفحة، ووضع واحدة جديدة, من الممكن أن ابدد مايصل إلى خمسمائة ورقة أثناء كتابتي لقصة من اثنتي عشرة صفحة, ومعنى ذلك أنني لم استطع مطلقا التغلب على الفكرة المجنونة بأن الخطأ في الضرب على الآلة هو خطأ في العملية الإبداعية.
*كثير من الكتاب شديدو الحساسية من الآلة الكاتبة الكهربائية, أنت لست كذلك؟
-كلا, انني مفتون بالآلة الكاتبة الكهربائية للدرجة التي لااستطيع الكتابة الآن بطريقة أخرى, بشكل عام، أعتقد أنك تكتب أفضل عندما تتوفر لك كل الظروف المريحة, لا أؤمن بالأسطورة الرومانتيكية التي تقول ان الكاتب يجب أن يتضور جوعا وأن يواجه أسوأ الأوضاع قبل ان يتمكن من الانتاج, انك تستطيع الكتابة بشكل أفضل إذا تناولت وجبه جيدة وكانت تحت يدك آلة كاتبة كهربائية.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
أفاق اسلامية
محاضرة
عزيزتي
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
اليوم الوطني
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved