Friday 24th September, 1999 G No. 9857جريدة الجزيرة الجمعة 14 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9857


الشورى ومكانتها بالمملكة العربية السعودية
أ,د,راشد الراجح *

الحمد لله القائل :(وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد القائل (الدين النصيحة) قالوا لمن يارسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم), وبعد : فقد تلقيت دعوة كريمة من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ومن معالي مدير الجامعة الزميل الفاضل الاستاذ الدكتور عبدالعزيز الدخيل لإلقاء محاضرة بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية وفتح الرياض على يد الباني المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود تغمده الله بواسع رحمته مشاركة من هذه الجامعة العريقة في الاحتفال بهذه المناسبة الوطنية السعيدة, التي تعيد الى أذهان شبابنا تلك الجهود المضنية التي قام بها الملك عبدالعزيز ورجاله المخلصون في مرحلة من ادق المراحل لبناء دولة التوحيد، والعلم والإيمان، متسلحة بسلاح الدين، القويم، الذي هو حبل الله المتين، وبالثقافة، والمعاصرة، لتواكب ركب الحضارة دون ان تفرّط في ثوابتها، وتراثها الاسلامي الاصيل ,(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين).
ايها الزملاء: في الخامس من شهر شوال من عام 1319ه (15 يناير 1902م حرر الملك القائد الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود الرياض، واستعاد ملك ابائه واجداده، بتوفيق الله ثم بالعزيمة الصادقة، والإيمان القوي، وثبات المبدأ ، وصلابة العزيمة, وسنأتي بإذن الله الى مزيد من الايضاح حول هذا الموضوع في هذه المحاضرة المختصرة مراعاة للزمن (وخير الكلام ماقل ودل) والحديث عن هذا الموضوع الذي حددت عنوانه الجامعة - مشكورة- وهو: الشورى ومكانتها في المملكة العربية السعودية, موضوع جد مهم, ويحتاج الى محاضرات ومحاضرات, بل يستحق أن تؤلف فيه الكتب, وقد ألف -فعلاً- فيه عدة مؤلفات,, ولكن الموضوع لايزال في حاجة الى مزيد من الايضاح والبيان, ومالا يدرك كله، لايترك كله, كما قيل .
أيها الاخوة الكرام:
اسمحوا لي بادىء ذي بدء,, وقبل الدخول في صلب الموضوع ان اذكر وألم الماماً سريعاً ببعض الامور التي تعد مقدمة للحديث عن الشورى ومكانتها بالمملكة العربية السعودية حتى يكون هناك ربط بين الاسس والاهداف، التي قام عليها بناء هذه الدولة الحديث,, فاقول وبالله التوفيق.
اولاً: من بطاح مكة المكرمة انطلقت الشرارة الاولى للدعوة الإسلامية وذلك ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا يعبدون الاصنام والاوثان, فدعاهم عليه الصلاة والسلام الى توحيد الخالق سبحانه وتعالى (وانذر عشيرتك الاقربين) وقوله، (يا ايها المدثر، قم فانذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر) فقضى صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً في مكة وهو يبني عقيدة التوحيد في النفوس، وفي دار الارقم اسست اول مدرسة في الاسلام معلمها المصطفى عليه الصلاة والسلام وطلابها اصحابه رضي الله عنهم اجمعين, ثم تمت الهجرة الى المدينة المنورة (المدينة النبوية) وهناك اسست دولة الاسلام الاولى، رجالها المهاجرون، والانصار، ورئيسها سيد الاولين والآخرين، محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام, وبدأت ايات الأحكام تترى, والوفود تقدم وفداً بعد وفد، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً, واعلنت راية الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وبعثت البعوث، وجهزت السرايا، وقاد صلى الله عليه وسلم الغزوات لنشر هذا الدين في اصقاع المعمورة، حماية لهذه العقيدة، ودفاعاً عن حياضها وحوزتها، وما قبضت روحه الطاهرة صلى الله عليه وسلم الا وقد تحقق قوله تعالى (اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً),وقوله (إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) واصبحت الجزيرة العربية تنعم بنعمة الدين الإسلامي (واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداءً فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته اخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها), الآية
ثم جاء من بعده الخلفاء الراشدون الذين قال فيهم عليه افضل الصلاة واتم التسليم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) الحديث.
فقاموا رضي الله عنهم بما أوجب عليهم من خلافة راشدة، ونشر للدعوة الإسلامية ، وقد حقق الله على يديهم كثيراً من الفتوحات والانتصارات الإسلامية، وقويت بذلك شوكة الإسلام، ثم جاء من بعد ذلك الخلفاء والملوك والأمراء المسلمون، وتعاقبوا على تحمل المسئولية واتسعت بذلك رقعة الدولة الإسلامية حتى امتد الاسلام من الصين شرقاً الى اوروبا غرباً ومكثت دولة الإسلام ثمانمائة سنة في اسبانيا ترفرف على مناراتها كلمة التوحيد (لا إله إلا الله- محمد رسول الله), ثم اعقب ذلك ما اعقبه، وعاشت الامة الاسلامية مراحل متعددة من القوة والضعف، وغشيها من الجهل ما غشيها، وانتشرت البدع،والخرافات، والسحر والكهانة، والجهل والامراض والانحطاط السياسي والجدب الفكري،والتخلف الثقافي, ماعدا الحرمين الشريفين، والازهر الشريف،وجامع القرويين، وبعض المناطق الاخرى,, فقد كانت هذه البلاد تعقد بها حلقات العلم، ويتخرج فيها طلاب نابهون، على ايدي علماء مبرزين في شتى علوم المعرفة.
ولكنها كانت على قدر, وباعداد محدودة جداً، ولاننكر وجود علماء ومفكرين ومثقفين هنا وهناك,, ولكن اثرهم كان محدوداً,, وعددهم كان قليلاً,, وكان قلب الجزيرة العربية ضمن تلك البلاد التي غطتها تلك السحابة الصيفية الداكنة الطارئة، حتى هيأ الله لها ظهور امامين صالحين مصلحين وداعيين مخلصين: هما الإمام محمد بن سعود، والإمام محمد بن عبدالوهاب يرحمهما الله فقاما متعاونين بدعوة التوحيد، ومحاربة الشرك والخرافات,, فحقق الله على يديهما الكثير من النجاح والفلاح والانتصار, وقامت دولة التوحيد بالدرعية واتسعت رقعتها شيئاً فشيئاً, وكلنا يعرف مسيرتها المباركة, ونتائجها الموفقة, وسار الخلف على منهج السلف, ومرت الايام,, عاماً بعد عام,, وعقداً بعد عقد، على مافيها من نقاء ودخن,, حتى قيض الله لهذه الجزيرة من يؤسس بناءها على تقوى من الله,, ببناء التوحيد والتأسيس ، على يد الباني المؤسس جلالة الملك الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود, المؤسس الفعلي والحقيقي للدولة السعودية الثالثة المملكة العربية السعودية ، فبنى قواعد مملكته على اسس ثابتة من العقيدة الصحيحة، والعدل، والمساواة، وتحكيم الكتاب والسنة المطهرة، والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، على منهج السلف الصالح.
فاستطاع - بعد توفيق الله- ان يحقق النصر، وتوحيد الاقاليم، ولم الشتات، والقضاء على الاحن والخلافات، والمنازعات القبلية والاقليمية, وضم الى نجد الحجاز، وعسير ،وجازان، وحائل والاحساء,, وبقية اقاليم الجزيرة التي اندرجت تحت هذا الاسم:المملكة العربية السعودية .
ايها الاخوة الاعزاء:
في الثامن عشر من جمادى الاولى من عام 1343ه وبعد دخول الملك عبدالعزيز مكة المكرمة التقى باهالي مكة واصدر اول بلاغ رسمي ركز فيه على مبدأ الشورى التي هي موضوع حديثنا هذا المساء نجتزىء منه بعض العبارات قال رحمه الله (نحمد الله الذي لا إله إلا هو رب هذا البيت العتيق، ونصلي ونسلم على خاتم انبيائه محمد صلى الله عليه وسلم).
ثم بعد هذه الافتتاحية حدد الخطة التي يريد ان يسير عليها فقال: (سنجعل الامر في هذه البلاد المقدسة بعد هذا شورى بين المسلمين),, الخ وقال :(إن مصدر التشريع والاحكام لايكون إلا من كتاب الله ومما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، او ما اقره المسلمون الاعلام بطريق القياس، او اجمعوا عليه مما ليس في كتاب ولاسنة، فلايحل في هذه الديار غير ما احله الله، ولايحرم فيها الا ماحرمه),, وختم هذا البيان بقوله :(لا كبير عندي الا الضعيف حتى اخذ له الحق، ولاضعيف عندي إلا الظالم حتى اخد الحق منه، وليس عندي في اقامة حدود الله هوادة، ولا أقبل فيها شفاعة، ولا يلومن الظالم إلا نفسه، والله على مانقول وكيل وشهيد), الخ (امين ساعاتي الشورى في المملكة ص65وما بعدها).
ومما قال جلالته في لقاء آخر بأهل مكة: (,, ولا اريد ان استأثر بالامر في بلادكم دونكم,, وإنما اريد مشورتكم في جميع الامور,,) وهذا نص صريح في دعوة الملك عبدالعزيز الى المشورة والنصيحة لولي الامر، وتبادل الامر بين الراعي والرعية (ساعاتي، ص66) ويؤكد ذلك بقوله (لا اريد اوهاماً، وإنما اريد حقائق، اريد رجالاً يعملون، فإذا اجتمع اولئك المنتخبون، واشكل علي امر من الامور، رجعت إليهم في حله، وعملت بمشورتهم وتكون ذمتي سالمة، والمسئولية عليهم,,) (ساعاتي، ص68).
وقد اصدر امره بتشكيل هيئة منتخبة من علماء واعيان وتجار مكة المكرمة للنظر في مقتضيات ومصالح البلاد المقدسة، وقد شكل اول مجلس للشورى في مكة المكرمة نتيجة لهذا التوجيه من جلالة الملك عبدالعزيز وسمي آنذاك مجلس الشورى الأهلي، برئاسة الشيخ عبدالقادر الشيبي ووافق الملك عبدالعزيز على هذا التشكيل, وبدأ المجلس فعلاً يمارس اعماله على هذا الاساس المشار اليه اعلاه (الساعاتي، ص70).
وهكذا سار الملك عبدالعزيز على هذا المنهاج في تشكيل مجلس الشورى الذي بدأ قبل حوالي ثمانين عاماً وكان له مستشارون وله مجلس خاص، ومجلس عام يلتقي في المجلس الخاص باصحاب الخبرة، والمعرفة والاختصاص فيشاورهم، وفي المجلس العام يستمع الى كل مايطرح عليه في المجلس من ابناء وطنه ويناقشهم ويستمع الى شكواهم وارائهم, ويوجههم بما يراه مناسباً وكان له مجلس مفتوح للجميع يومياً, وسار انجاله على نهج والدهم المؤسس العظيم وهم اصحاب الجلالة الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد رحمهم الله جميعاً ثم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد الذي شهد مجلس الشورى في عهده تحديثاً وتطويراً لم يسبق له مثيل, وسنشير الى بعض ملامح هذا العهد الشوري الرائع, ومن خلال هذا التطور نستطيع ان نقسم مراحل الشورى في المملكة الى ثلاث مراحل:
أ-مرحلة التأسيس والبناء.
ب-مرحلة المراجعة والدراسة والمتابعة.
ج-مرحلة التطوير والتحديث والتجديد.
وقبل الدخول في ذلك يجدر بنا ان نعرج على تعريف للشورى لغة واصطلاحاً فنقول:
الشورى
التعريف: دون الدخول في تفاصيل طويلة عن المدلول اللغوي للشورى وما جاء في مصطلح اللغويين في ذلك نلخص ذلك فيما يلي مع تعريفه اصطلاحيا.
هي مصدر في اللغة للفعل: شاور وقيل: اسم من المشاورة ومدلولها: الاستخراج والاظهار, ومنه شاور العسل: استخرجه واخذه من موضعه, ويقال شاورته في الامر اي طلبت رأيه واستخرجت ماعنده واظهرته,, والذي يهمنا من معاني الشورى هنا: الامر والنصح، والدلالة على وجه الصواب (الشورى في الاسلام/ سليمان ص1), واشار مؤلف كتاب الشورى في الاسلام- عبدالحميد سليمان ص2 الى ان المعنى الاصطلاحي الشورى فيه اختلاف: هناك من يرى كالاصفهاني (انها استخراج الرأي بمراجعة البعض الى البعض) ويضيف بعضهم: في أمر لم يرد فيه نص، ليعطي التعريف البعد الإسلامي للكلمة (الشورى), ويرى آخرون (انه استطلاع الرأي من ذوي الخبرة فيه للتوصل الى اقرب الامور الى الحق) ولان الشورى تعد احد مبادىء الحكم في الاسلام او لانها التعبير عن نظام الحكم نفسه ولذا فقد عرفها البعض بانها (استطلاع رأي الامة او من ينوب عنها في الامور العامة المتعلقة بها), وذهب قوم الى انها (اجتماع الناس على استخلاص الصواب بطرح جملة آراء في مسألة لكي يهتدوا الى قرار).
ورأي آخر يقول : انها(طرح موضوع عام لم يرد بشأنه نص قاطع في القرآن والسنة على الامة ممثلة في علمائها للمناقشة، وتبادل الاراء والحجج بحثاً عن الحكم الصحيح الموافق لاحكام الشريعة الاسلامية) (الشورى في الاسلام/ ع,سليمان، ص2).
وكل التعاريف المذكورة لها نصيب من الواقع ويمكن ان تكون مقبولة ومن منطلق المفهوم الاسلامي للشورى, ولمزيد من الايضاح:
عرف بعضهم الشورى بانها:(هي منهج المشاركة الجماعية في الرأي والقرار، واطار العلاقات الاجتماعية التضامنية، وهي عبارة عن طريق رسمته شريعتنا لتسير فيه الامة نحو غاياتها السامية وتصل بواسطتها الى اهدافها المثلى، اما الطاقة والقوة التي تسيرها نحو هذه الغايات، وتدفعها في هذا الطريق فإنما هي العقيدة الصحيحة، والشريعة السمحاء (فقه الشورى والاستشارة, الشاوي/ ص40) وقال آخرون: (ما من شك في ان خضوع الشورى لعقيدة التوحيد، وسماحة الشريعة، تجعلها وسيلة لحماية الناس من العبودية للأهواء الفردية، والجماعية، كما انها تحميهم من جميع الفلسفات المادية البشرية، وبذلك تكون الشورى تكريماً للفرد، وترشيداً للجماعة، وتربية لهم، وتضامناً فكرياً لافرادها (مسيرة الشورى في المملكة/ الزهراني ص37).
وقال كاتب آخر :(الشورى نظام رباني له قواعده الربانية، يعرضها منهاج الله كلها كاملة، متناسقة, وصدق من قال (ليست الشورى مداولة استرخاء وضجيج ولكنها بحث ودراسات، وسعي جاد يتحرى الحق بصورة ايمانية منهجية، ليقدم الرأي مستوفياً شروطه الايمانية، فإذا لم يستوف الشروط الايمانية فإنه لايدخل في دائرة الشورى (الشورى لا الديمقراطية, عدنان النحوي، ص24) وفي سورة الشورى بيان واضح لكل ذلك, قال تعالى (فما اوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا، وما عند الله خير وابقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ماغضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون).
وقال تعالى (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين), واوضح الحديث الشريف الهدف من الشورى في الحديث الذي رواه ابو رقية تميم بن اوس الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الدين النصيحة, قالوا لمن يارسول الله؟ قال: لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) كما سبقت الاشارة الى ذكره.
ومارواه الترمذي عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: (مارأيت احداً اكثر مشورة لاصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وورد (ماندم من استشار، ولاخاب من استخار ولاعال من اقتصد).
وورد (ماتشاور قوم قط الا هدوا لأرشد امرهم).
وورد (المستشار مؤتمن).
وعن الحسن قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير حتى المرأة فتشير عليه بالشيء فيأخذ به), وعن علي رضي الله عنه قال (سئل رسول الله عن العزم فقال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم)الشورى في الاسلام، ص26وما بعدها).
وما وقع في وقعة بدر واحد والاحزاب وغيرها من مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لاصحابه معروف ومبسوط في كتب السيرة, كما كان الصحابة رضي الله عنهم يشير بعضهم على بعض بما يرون فيه المصلحة العامة ومافيه صلاح الاسلام والمسلمين.
والتاريخ الاسلامي مليء بكثير من هذا, فليرجع اليه في مظانه لمن أراد.
على ضوء ما سبق يتبين لنا مدى اهمية الشورى في الاسلام ومكانتها وكيف نزل القرآن الكريم بأكثر من آية تحض على الشورى وتثني على القائمين بها، وقد اوضحت السنة القولية، والفعلية ذلك ايما ايضاح, وذكرنا امثلة على ذلك.
والمملكة العربية السعودية قد جعلت الكتاب والسنة هما المصدرين لجميع الاحكام والانظمة واللوائح التي تصدرها بالمملكة والتي تصدر بقرارات من مجلس الشورى وقد جاء في خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله في افتتاح مجلس الشورى السعودي في السنة الاولى من الدورة الاولى ما نصه (إن من دواعي سرورنا واعتزازنا ونحن نفتتح هذ اليوم مجلس الشورى في إطاره الجديد، ان نتوجه جميعاً الى المولى العلي القدير بالحمد والشكر على ماتحقق في هذا البلد الكريم منذ أن وحّد اجزاءه، وجمع شمله والدنا جلالة الملك عبدالعزيز يرحمه الله، الذي اشاد البناء وأرسى القواعد منطلقاً من الاسلام عقيدة، وشريعة، فأمر بالمعروف ،ونهى عن المنكر، وأقام حدود الله، وحكم بالعدل بين الناس ، وعفا وأصلح، وكرّم العلم والعلماء، وطبق احكام الشريعة، واتخذ من الشورى قاعدة في ادارة الحكم، وتدبير شئون البلاد امتثالاً لقول الله تعالى (وشاورهم في الامر) ثم واصل حفظه الله قائلاً (ونحن اليوم- إذ نواصل هذا النهج الاسلامي إنما نرسخ بذلك دعائم الشورى، بأسلوب يقوم على اسس واضحة، واختصاصات بينة، منطلقين من مفهومنا العميق لهذا النهج الاسلامي الثابت، الذي جاء في كتاب عزيز (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه) وجاء في خطابه القيم هذا قوله (وبالتالي فإن نظام مجلس الشورى ينطلق في جميع مضامينه من القواعد الاساسية للإسلام، وإن المملكة العربية السعودية - وكما هو معروف ايها الاخوة قد قام فيها الحكم منذ إنشائها- كما قلنا مراراً- علىاساس مبدأ الشورى من امد طويل، حيث دأب الحكام على استشارة العلماء، وأهل الرأي والمشورة (سجل اعمال مجلس الشورى -1414-118ه ص17),ومن الواضع ان هذة الكلمة الملكية الكريمة قد لخصت مكانة الشورى في ادارة الحكم بالمملكة انطلاقاً من مبادىء الشريعة الاسلامية الغراء كما اوضحت ان العلم والخبرة والاختصاص عناصر اساسية في اختيار عضو مجلس الشورى, وأن الشريعة الاسلامية هي الاساس المطبق والمعتمد بالمملكة سياسياً، واقتصادياً واجتماعياً، وسلوكياً,, وفي مجال العبادات، والمعاملات, والعلاقات الداخلية والخارجية وكل مايتبع ذلك, وهذه ميزة وشرف اكرم الله به بلاد الحرمين الشريفين وقيادتها المباركة, وصدق الله (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون).
ايها الاخوة الافاضل:
كما هو معروف قد مرت الشورى بالمملكة بمراحل ثلاث:
أ- مرحلة التأسيس والبناء على يد الباني الموحد المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن طيب الله ثراه, وهي مرحلة جديرة بالدراسة والاهتمام, كما اشرنا الى ذلك.
ب-مرحلة المراجعة والدراسة والمتابعة علىيد انجال المؤسس وهم اصحاب الجلالة الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد, يرحمهم الله جميعاً, وكان لكل منهم مستشارون يقدمون له النصح والمشورة على المستوى الخاص والعام, ومجالسهم كانت مفتوحة لكل اقتراح بناء او مشورة صادقة نافعة.
ج- والمرحلة الثالثة مرحلة التجديد والتحديث والتطوير علىيد المجدد رائد مسيرتنا الشاملة حضرة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود ايده الله, فقد اصدر عدة قرارات شجاعة ومهمة في تاريخ المملكة وأهمها:
إصدار قرارات:
1-نظام الحكم- ومجلس الوزراء.
2-نظام مجلس الشورى.
3-نظام المناطق.
وربما يرد هنا سؤال جد مهم, وهو: لماذا تأخر صدور هذه القرارات الى هذا الوقت؟!! والجواب, كما يرى بعض راصدي هذا التطور الفريد, وهو ان التطور من طبيعة الاشياء فمسيرة الشورى بالمملكة مرت خلال ثمانية عقود تقريباً بين القوة والركود شيئاً ما والدراسة والمراجعة والرصد, حتى جاء الوقت الملائم لإصدار هذه القرارات البناءة في الوقت الملائم, فالمجتمع السعودي الذي مر بمراحل مختلفة قد اصبح ناضجاً ومدركاً لما يدور حوله، والظروف المناخية كانت مواتية، والحاجة اصبحت قائمة، وأدركت القيادة انه قد آن الاوان للتحديث والتجديد مواكبة للعصر، بشكل يناسب الوضع محلياً وعالمياً فالمملكة جزء من هذا العالم، ولها دور كبير في الساحة العربية والإسلامية والعالمية، كما ان لها مكانتها المتميزة في المحافل الدولية سياسياً واقتصادياً، واستراتيجياً، والنهضة الشاملة التي تشهدها المملكة تحتاج الى اسهام المواطن بشكل اكثر فعالية بالرأي والمشورة والعلم والخبرة لخدمة دينه ثم مليكه وحكومته، ووطنه, فالتعليم والاقتصاد، وقضايا المجتمع وما استجد على الساحة وما الى ذلك في حاجة الى وضع انظمة ولوائح مناسبة على ضوء تعاليم الدين القويم، والشريعة السمحة, وقد نصت مواد نظام مجلس الشورى على اهداف انشاء المجلس وعلى طريقة الاختيار، والصلاحيات، والمهام التي اوكلت اليه من ولي الامر وما الى ذلك, (انظر مجلس الشورى وثائقه ونظمه ص26وما بعدها),, وقد قام المجلس بما اسند اليه على خير وجه وأصدر عشرات القرارات بل مئاتها وما الى ذلك، في دورته الاولى وفي دورته الثانية، التي تصب جميعها في مصلحة الوطن والمواطن بعد الدراسة المتأنية، والبحث الدقيق، والتحليل العلمي المبني على ضوابط ومعايير احصائية سليمة, مما اكسب المجلس ثقة القيادة والمواطن, فالسعودية اصبحت- ولله الحمد دولة المؤسسات، وفي عصر المؤسسات، واذا كان عصر العولمة قد بدأ يطغى ويسري شيئاً فشيئاً على خصوصية كل بلد بدءاً من الاقتصاد وانتهاء بالثقافة والحياة اليومية وأصبحت القنوات الفضائية في كل بيت تنازع الامر اهله، وبما ان العالم قد اصبح الآن كالقرية او كصالون كبير يجمع بين الحضارات والثقافات والظواهر الاجتماعية المتناقضة احياناً فإنه جدير بكل مسلم وبخاصة ابناء هذه المملكة، بلاد الحرمين الشريفين ان يوطّنوا لأنفسهم وأن يتخذوا من هذا التقدم التقني، وثورة المعلومات والاتصالات وسائل لزرع الفضيلة ومحاربة الرذيلة،,, اقول جدير بنا ان نحذر من الذوبان في الآخرين,, فالمسلم, وفي هذه البلاد بشكل اخص لايمكن ان ينفك عن تراثه وتاريخه الاسلامي المجيد، وحضارته العريقة, فله هويته وخصوصيته المشرفة,وما الشورى الا ركيزة من اعظم الركائز لهذا التراث الماثل امام تاريخ الانسانية على مر العصور، وتعاقب الدهور، وكما قيل:
ويزيدها مر الليالي جدة
وتقادُم الأيام حسنَ شباب
ومجلس الشورى السعودي يفتح ابوابه لأبناء هذا الوطن لزيارته بعد التنسيق مع رئاسة المجلس لحضور بعض جلساته، والاستماع الى مايدور فيها من مداخلات وحوارات بناءة دون لغط او صخب او خروج عن آداب الحوار, بل الهدف هو الوصول الى الحق بالطريقة المثلى, واذا كانت المجالس الاخرى المشابهة القائمة في بعض البلاد التي تدعي الديمقراطية وتدعي حرية الفكر والتعبير، فإن الشورى في الاسلام تبدأ بحقوق الانسان وحرياته، وسلطان الامة وسيادتها، وتؤكد ان حقوق الانسان في الشريعة الإسلامية ليست محصورة في حرية الفرد كحرية الرأي والتعبير، وحرية التملك، ونحو ذلك بل تربط حقه بالمشاركة في قرارات الجماعة بحقه في المشاركة اقتصادياً ونحو ذلك نتيجة للتضامن الاجتماعي الذي يوجب التكافل كما يوجب الشورى والتشاور، والشورى تكون من المؤهلين علمياً ومن اهل الاختصاص والخبرة ومن اهل الحل والعقد كمانصت علىذلك كتب الفقة الاسلامي (فقه الشورى ص30).
وإذا كانت الديمقراطية كما يعرّفها البعض بأنها (حكومة من كل الشعب، ولكل الشعب) او كما يقول البعض بأنها (حكومة من الكل، بالكل، وللكل) (الشورى بالمملكة الساعاتي ص38), فإن الشورى في الاسلام نظام رباني له قواعده الربانية، يعرضها منهاج الله كلها كاملة متناسقة (الشورى لا الديمقراطية - عدنان النحوي ص21).
ويؤكد على ذلك صاحب كتاب (الشورى لا الديمقراطية الدكتور عدنان النحوي) بقوله (إن النظام الشوري يقتضي وجود ادارة ايمانية، ونظام اداري إيماني يوازن بين الحقوق والواجبات، وبين الامانة والمسئوليات، وكلما نما المجتمع نمت مؤسساته ونما نظامه الاداري الذي يظل محافظاً على امانة الموازنة وسلامتها، ويشمل النظام الاداري الذي نعنيه جميع قطاعات الامة ومستوياتها ويوزع المسئوليات، والصلاحيات بينها على اسس ربانية, (الشورى/ لا الديمقراطية ص23).
وليس هذا مجال للمقارنة بين الشورى الاسلامية، والديمقراطية الغربية، فلهذا الموضوع مجال آخر, قد يتاح الحديث عنه في المستقبل ان شاء الله لنبين فضل الشورى الإسلامية على ماسواها من القوانين والانظمة الاخرى.
ايها الاخوة الحضور الاعزاء:
معذرة فلعلي قد اطلت قليلاً,, لأن هذا الموضوع جد خطير ومهم ويحتاج الى وقت اوسع لتغطية الكثير من جوانبه التي اعترف بالقصور عنها لضيق الوقت المحدد لهذا الحديث.
وختاماً:
فقد ظهر لنا من خلال ماتقدم ان الشورى بالمملكة العربية السعودية قائمة ومستمدة من الكتاب والسنة وتعاليم الشريعة الغراء امراً ونهياً واستنباطاً (وقد نص على ذلك في المادة الاولى والثانية من نظام المجلس ص26).
وتبين لنا ان جلالة الملك الباني المؤسس الامام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود تغمده الله برحمته هو الذي اسس مجلس الشورى في هذه البلاد قبل حوالي 77 عاماً,, صدرت له منذ إنشائه مئات القرارات في عهد الملك عبدالعزيز سواء ما يتعلق بتنظيم الجوانب الادارية والقضائية، والتعليمية، والمالية ، والتجارية او غيرها.
كما انه قد تم في عهد الملك عبدالعزيز إنشاء نواة التعليم الجامعي بالمملكة كلية الشريعة بمكة المكرمة ودار التوحيد بالطائف والمعهد العلمي بمكة وغير ذلك من المؤسسات التعليمية التي تطورت فيما بعد الى ثماني جامعات مرموقة وقد اثر كل ذلك في النهضة الشاملة للبلاد.
وقد استمر مجلس الشورى في ادائه وعطائه ايام ابناء الملك عبدالعزيز الكرام اصحاب الجلالة الملوك سعود، وفيصل وخالد واتخذ ايضاً قرارات مناسبة في هذه الحقبة، ثم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله قفز هذا المجلس قفزات هائلة، وخطا خطوات رائدة لم يسبق لها مثل في مجال التنظيم، وإصدار الانظمة واللوائح، ودراسة التقارير السنوية للوزارات والمؤسسات، ووضع الخطط اللازمة ودراسة الاستراتيجيات للخطط الخمسية جاء في المادة الخامسة عشرة من نظام المجلس (يبدي مجلس الشورى الرأي في السياسات العامة للدولة التي تحال اليه من رئيس مجلس الوزراء،وله على وجه الخصوص مايلي:
أ- مناقشة الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وابداء الرأي نحوها.
ب-دراسة الانظمة واللوائح، والمعاهدات، والاتفاقيات الدولية، والامتيازات واقتراح مايراه بشأنها.
ج-تفسير الانظمة.
د-مناقشة التقارير السنوية التي تقدمها الوزارات، والاجهزة الحكومية الاخرى، واقتراح مايراه حيالها) ا,ه, كما يقوم المجلس في هذا العهد الزاهر بدراسة المعاهدات ودراسة كل مايحال اليه من ولي الامر من جميع الجوانب ويتخذ في ذلك القرارات المناسبة بكل حرية, وقراراته كما هو معروف تكون احياناً بالاجماع وأحياناً بالاغلبية كما نص عليه نظامه (المادة السادسة عشرة من نظام المجلس).
ويتمتع اعضاء المجلس التسعون بكامل الحرية والاستقلال لإبداء النصيحة والرأي والمشورة في حدود مانص عليه النظام، ويصدر المجلس قراراته التي ترفع لرئيس مجلس الوزراء للعرض على مجلس الوزراء ثم ترفع للمصادقة من الملك ثم تكون بعد ذلك واجبة التنفيذ بعد اكتساب القطعية باعتماده من خادم الحرمين الشريفين ايده الله.
نسأل الله ان يحفظ لهذه البلاد دينها وإيمانها، وأمنها وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الامير عبدالله بن عبدالعزيز، وسمو النائب الثاني الامير سلطان بن عبدالعزيز، وحكومتنا الرشيدة لكل مايحبه ويرضاه لخدمة البلاد والعباد, والله ولي التوفيق.
* محاضرة ألقاها عضو مجلس الشورى ورئيس نادي مكة الثقافي الأدبي وعضو رابطة الأدب الإسلامي د,راشد الراجح في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بتاريخ 8/6/1420ه.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
أفاق اسلامية
محاضرة
عزيزتي
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
اليوم الوطني
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved