Friday 24th September, 1999 G No. 9857جريدة الجزيرة الجمعة 14 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9857


شخصيات قلقة
نقولا برديائف 1874-1948م
القلق المسافر بين البلدان

هناك زيف وادعاء ودراسة الطبيعة والقانون بالجامعة لم تحقق سلاماً روحياً، فلا تزال النفس هائمة بعيداً عن المرافىء الآمنة، لا يطيب لها دراسة القانون فحسب كما لم يطب لها من قبل الدراسة في المدرسة الحربية,, هكذا كان برديائف يبحث عن رحاب روحية يلوذ اليها بعيداً عن واقع مادي قاس وشرير, هذه الرغبة الدفينة كانت تنمو شيئاً فشيئاً، وتعود في الاصل الى مولده بمدينة كييف العتيقة.
من هنا لعبت البيئة دوراً مهماً في التكوين الروحي لبرديائف، بجانب ان ملامحه نفسها كانت تشع بصفاء روحي غريب، فهو عريض الجبهة، مبسوط المحيا، في نظراته رقة ومكر أليف، وصفاء متفتح على الآفاق الفسيحة.
ولم تؤد هذه النزعة التأملية لبرديائف الى العزلة وانما دفعته دفعاً الى الثورة والمقاومة، حيث شارك في الحركات الطلابية الاشتراكية مما كان سبباً في نفيه الى فولونطا بشمال روسيا، وبمجرد ان اطلق سراحه من منفاه في فولونطا ارتحل الى المانيا للدراسة في جامعة هيدلبرج سنة 1903م, وكانت المانيا آنذاك هي الملجأ الاولي للمفكرين الروس، وكان للفكر الالماني ممثلاً في مختلف رجاله اخطر الاثر في التكوين الروحي لطبقة الانتلجنسيا وكان لهيجل على وجه الخصوص نفوذ بالغ على شباب روسيا اجمعين.
وفي رحاب جامعة هيدلبرج ذات العراقة الموغلة في تقاليد الحكمة والمعرفة الانسانية، هناك في احضان الغابة السوداء بما فيها من اسرار موحية بدأ برديائف يستعيد ذاته الالية من بعد حياة المنفى والاضطهاد، هذه الذات التي تنطوي على خوارق وغموض وتصوف ونزعات لا معقولة ونزوات فيها خليط من الافكار الشاذة حتى المرض، والمتناقضة حتى القلق، انها الروح الروسية الاصيلة، روح الاستبس المستسلم لنمو الاسرار الكونية.
لقد كان خاضعاً ابان مقامه في كييف لتأثير ماركس ونيتشه وكانط ولكن هؤلاء جميعاً ما هم الا بضاعة مزجاة الى روسيا من غير انسجام واضح مع روحها الحقيقية، وبالتالي فان تأثره بهم كان تأثراً عقلياً لا روحياً، اذ شتان ما بين روح هؤلاء الشمالية المتوثبة الى اللانهائي، وروح برديائف التي تشبه سهلاً مذعناً لقوة غامضة لقد كان الاعجاب بهؤلاء المفكرين في روسيا من قبل ذوي النزعة التغريبية، وليس من جانب الممثلين الحقيقيين للطبيعة الروسية، فهؤلاء الاخيرون نبذوهم على خلاف، وانطووا على ذواتهم يفتشون عن حقيقة لا تعرف الطلاء الزائف.
ويعتبر برديائف واحداً من هؤلاء، حيث نأى بجانبه محاولاً البحث عن آصرة رحم بين الثقافة الالمانية المثالية وبين النزعة الصوفية الروسية، ويكتشف العلاقة الحميمة من خلال الفيلسوف الروماتيكي شليخ الذي كان ضارباً بجذوره في فيافي الصوفية العقلية.
ومن قبل ان تنتهي حياة طلب العلم كان برديائف قد بدأ حياة الكتابة، وتجلت فيها نوازعه نحو مثالية، ونحو ديمقراطية صحيحة تثور على القيصرية، كما تثور على النزعة الالحادية المتغلفة في طبقة الانتلجنسيا.
وتحت هذه المبادىء العريضة كتب برديائف الوعي الجديد والمجتمع و الازمة الروحية في طبقة الانتلجنسيا .
ورغم نزعته الدينية الا انه دخل في عراك وصل الى القضاء، وذلك حين نشر مقالاً بعنوان خانق الروح ولولا الحرب العالمية الاولى ثم قيام الثورة البلشفية لاستمرت تلك القضية الى ان تنتهي في غير صالح برديائف طبعاً، وربما دفعته معركته الى التعامل بحذر مع الثورة البلشفية عقب قيامها، فالتزم موقفاً حراً منها، بحيث لا الى فريق الثوار يميل ولا الى فريق الروس البيض يميل، وهي وسطية مبررة، اذ انه كان يدرك ما تنتهي اليه هذه الثورة من مصادرة لكل حرية، كذلك كان بحكم التجربة يدرك مدى ما افسده الروس البيض من امور في سائر مستويات الحياة داخل روسيا، وبعيداً عن المهاترات السياسية والثورية انشغل برديائف بالتأليف والبحث فكتب!! معنى التاريخ، ونظرة دوستيوفسكى في الحياة والوجود لكنه لم يستطع نشرهما الا في الخارج، كذلك لم يستطع التكيف مع عهد البلاشفة الذين اعتقلوه مرتين ثم نفوه عن روسيا نهائياً في سنة 1922م.
فاضطر برديائف الى العيش غريباً مسافراً بين العديد من المدن الاوربية في ايطاليا والمانيا وفرنسا، ورغم مرارة الغربة ووحشتها استمر برديائف في الكتابة والبحث والمشاركة في المؤتمرات العالمية وانجز العديد من المؤلفات المهمة مثل مصير الانسان ثم الروح والواقع وقد حمّل برديائف روسيا بأسرها عبء الكلمة الاخيرة التي ستكون فيها النجاة لاوربا كلها، من ناحية اخرى حمل برديائف على عاتقه عبء تطوير فلسفة الحضارة وتطوير المذهب الوجودي، من خلال صبغهما بروح دينية صوفية، حيث رأى ان مأساة انسان العصر تتلخص في محاولة الاستقلال بجانبه الانساني وتأكيد حريته.
وقد امن برديائف بأن تلك الظلمات سوف تتبدد حين تشرق عصور وسطى جديدة من عماء هذا العصر الحديث، فسيكون هناك عود الى الينبوع الاصيل، والى اعماق الوجود الاولى، وفي تلك اللحظة يولد العالم جديد ويرفرف عليه لواء العدل والحرية, فكان برديائف في سعيه الحثيث نموذجاً عظيماً للتوفيقية ولكن محاولة التوفيق لم تكن دائماً ناجحة، فاحيانا كان يشوه الجانبين معاً واحياناً كان يطرح تأويلات متعسفة، وهذا لا يقلل من قيمة المحاولة وقدرة نقولا برديائف على الحدس والاستبصار، فهو من اوائل من هاجموا الماركسية لانها رأت في الانسان كائناً تحدده العوامل الاجتماعية والاقتصادية فحسب، وبالتالي قضت على الفرد لحساب المجتمع، وازالت المعنى الحقيقي للانسان، لكنه لا ينفي عنها انها منعت استغلال الانسان لاخيه الانسان وجعلته سيد عمله,.
وهكذا يخطىء العظماء ويصيبون ودائماً تبقى الحقيقة مختبئة بين الحدين: حد الخطأ وحد الصواب.
شريف صالح

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
أفاق اسلامية
محاضرة
عزيزتي
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
اليوم الوطني
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved